قادتني يداي إلى قناة «الشرق» الأخرى، التي لا تبث من إسطنبول، وكانت هذه هي المرة الأولى، التي أمكث أمام شاشتها فترة طويلة، لبضع ساعات، ومنها عرفت من أين جاءت فكرة الشاشة المهرجان، أو للدقة هذا الفرح البلدي؛ كتابة، وبهرجة، وصورة سريعة الحركة تحدث تشويشاً على الأذهان!
وشاشة الأفراج الشعبية، تنتمي لثقافة الذوق الفاسد، ويبدو أن القائمين عليها تسيطر عليهم فكرة أن التلفزيون ما هو إلا صورة، فكانت هذه الصورة المزعجة التي تتغير وتتبدل سريعاً للتأكيد على هذا المعنى، حتى بدت مثل زينة هذا النوع من الأفراح من خلال الإضاءة غير المستقرة، وإن كنت أعتقد أن هذا المهرجان لا بد وأن يكون تقليداً لقناة غربية ما، وقد سيطرت على القوم «عقدة الخواجة» والهوس بالتجديد، وما دامت المنافسة ليست سهلة في الموضوع، إذاً فليكن التميز في الشكل، وقد بدأت قنوات أخرى في التقليد، بما يمكن تسميته بصخب الشاشة، أو الشاشة الصاخبة!
وقد تميزت «الشرق» الأخرى، التي لا تبث من إسطنبول، بضيوف مختلفين في الملفات كافة، فليسوا هم أنفسهم نفس الضيوف المكررين على شاشات عدة، وكأن الملكوت لم يعد فيه إلا خمسين شخصية أو أكثر أو أقل يجري تدويرها بين الشاشات المختلفة، حتى حفظ الناس ملابسهم وألوان ربطات أعناقهم، لينتجوا حالة شاشات الفقر، وفقر الشاشات!
في «الشرق» الأخرى، ورغم أنها قناة إخبارية، فلن تجد حضوراً راسخاً للمذيعين، فلا الراحل سامي حداد بشعره الأبيض، ولا أحمد منصور بلحيته وعدوانيته، ولا فيصل القاسم بصخبه، ولا جميل عازر والازدراء الظاهر للمشاهدين، ولا خديجة بن قنة بهذا الحضور المتميز، ولا جمال ريان وهو يعلن الحرب في كل أنحاء المعمورة ولسان حاله يقول: من يبايعني على الموت. إلى غير هؤلاء الذين قامت عليهم «الجزيرة» فمثلت حضوراً مختلفاً عن السائد، في حين أن «الشرق» الأخرى، لا تتميز بشيء من هذا، فمذيعاتها يشبهن مطربات هذا الزمان، فلا تستطيع أن تميز بين مطربة أو أخرى إلا بشق الأنفس، فيبدوا للمطالع أنهن أجرين عمليات التجميل عند جراح واحد، ومن نفس الكتالوغ!
والأمر يدور بين خيارين: نجومية المذيع، أو ألمعية الفكرة، و»الشرق» الأخرى التي لا تبث من إسطنبول، تفتقد إلى الأمرين، والذي زاد وغطى هو هذه الشاشة الصاخبة، التي تذكرنا في زحامها بميدان العتبة في منطقة وسط القاهرة، ولم أشاهد في هذه الساعات برامج سوى الإعلان عن برنامج يحمل عنواناً ركيكاً «مع أو ضد»، مع الإدراك الكامل بأن الركاكة قد يعالجها النجاح، وعندما ردد الثوار في يوم الثورة الأول، الشعب يريد اسقاط النظام، كتبت في هذه الزاوية بتاريخ 29 يناير 2011، إنه شعار ركيك تم استدعاؤه من الثورة التونسية. لكن بالتكرار والنجاح تحول كما لو كان لحناً موسيقياً لبيتهوفن!
قناة بلا خطة
كنت في حالة استسلام تام وأنا أشاهد «الشرق» الأخرى، لعله الشعور بالشيخوخة وقد أكملت قبل قليل عامي السادس والخمسين، وتذكرت اسم رواية نجيب محفوظ «أحلام فترة النقاهة»، وهي الرواية التي لم أقرأها بعد، فأشعر بالتقصير مع أدب صاحب نوبل، لأني قرأت القليل من روايته، وفشلت في أن أجعله هدفاً كما فعلت مع غيره فقرأت لهم أعمالهم الكاملة، لكني بتذكري لعنوان الرواية فقد بدى لي أنها «فترة النقاهة»، وذهب بي التفكير هنا وهناك بينما أنا أشاهد «الشرق» التي لا تبث من إسطنبول، فلماذا أطلقوا القناة ولا توجد لديهم خطة للتميز، بل ولماذا تطلق القنوات هنا وهناك، ليبدو الهدف منها تحدي الملل، وإنفاق ما تسير من الهدي، فتكون الغاية هي الحصول على عمولات التأسيس!
التمويل الإماراتي
في مصر يبشرنا أهل الحكم للمرة الثانية على التوالي بإطلاق قناة إخبارية، يبدو واضحاً أنها لتنافس «الجزيرة»، لكنهم لم يقولوا هذا في هذه المرة، فقد قالوها صريحة من قبل، فكانت القناة الإخبارية من شبكة «دي إم سي» ولم تر النور، بعد عامين من التجهيزات تم صرف الأنظار عن الفكرة، وهي من مال إماراتي، تسري عليه قاعدة «مال الكُنزي للنزهي»!
لماذا تمول الإمارات محطة تلفزيونية تملكها القاهرة لتنافس «الجزيرة»، وكل تجاربها في هذا الصدد باءت بالفشل؟ بل لماذا قنوات جديدة ولا يحدث تطوير لقنوات قائمة بالفعل؟، وبماذا تميزت قناة «دي إم سي» العامة عن قنوات أخرى مثل «سي بي سي»، و«الحياة»، و«النهار»، وهلم جرا؟!
الآن يقولون إن القناة الجديدة بتمويل سعودي. لماذا تمول السعودية قناة إخبارية تديرها السلطات المصرية؟ ويمكنهم فعل هذا بأنفسهم فان لم تسمح القوانين السعودية فيمكن أن يكون هذا من بلاد الله الواسعة، المملكة المتحدة نموذجاً، ليكون بيدي لا بيد عمرو، لا سيما وأن عمرو نموذج للكفاح الفاشل في مجال الاعلام!
يكفي «عمرو» أنه استلم قنوات كانت مبشرة من حيث متابعة المشاهدين لها، فانصرف عنها الناس، وهي ذاتها القنوات التي ساهمت في إثارة البعض على الرئيس المدني المنتخب، بما مهد للانقلاب العسكري، بل إن «عمرو» يقترب من السنوات العشر من حكمه، دون أن يتمكن من صناعة ذراع إعلامي واحد، ولا يزال إلى الآن يعتمد على الأذرع الإعلامية لمبارك، مع تجربتهم في التحول، فقد باعوا مبارك عندما لاحت بشائر انتصار الثورة، حتى بدوا جميعهم من أبواقها المبشرين بها، وقد تقربوا منها بالنوافل، فحتى وعاظ هذه المرحلة ممن تبناهم نظام مبارك، سارعوا في تملق الثورة، خالد الجندي نموذجاً، ومع ذلك يجد مكاناً متميزاً في قناة «دي إم سي» الخاصة بأهل الحكم الجدد!
عندما يغادر
وفي اليوم الذي يغادر فيه السيسي القصر الجمهوري، لن يجد واحداً من هؤلاء يذرف عليه دمعة واحدة، لكنه مع هذا مجبر لا بطل، وإذا كان قد تخلص من بعض هذه الأذرع مبكراً، فقد اضطر أن يعيد بعضها، ويستمر مع أذرع مبارك، وبعضهم كان مدخراً لانتقال السلطة من مبارك الأب إلى مبارك الابن، ومنهم من يهاجم الابن الآن، والسيسي بحكم التكوين أذكى من يقرأ هؤلاء، وقد أمكن لهذا دوائر الانقلاب في الإقليم تقاسم تركة مبارك من هذه الأذرع، بما لا يمكنه أن يجدهم معه إذا دقت ساعة العمل، وقرر الإقليم التخلص منه أو الانقلاب عليه، والعينة بينة، ويخفون في أنفسهم ما الله مبديه!
فالإمارات العربية المتحدة، خاطبت مجلس الأمن، بأن الطريق لحل أزمة سد النهضة يكون عبر الاتحاد الإفريقي وأنه قام بخطوات مهمة في إطار التوفيق بين إثيوبيا ومصر والسودان، ولم يكن هذا صحيحاً، ولكنه مثل اظهاراً للخلاف مع السلطات المصرية التي لجأت مؤخراً لمجلس الأمن وقال قائلهم إنه اجراء تاريخي، مع أنه سبق اللجوء اليه من قبل وتبين أنه ليس جهة اختصاص، وليس هذا هو الموضوع!
فعلى الرغم من أن الكتاب الإماراتي كاشف عن أن العلاقة بين البلدين ليست على ما يرام، فلم يمكن لأي ذراع اعلامي أن ينتقد هذا الاجراء من جانب الإمارات، ليحق للسيسي أن يجتمع بهم ليخاطبهم: مرحباً بكم في وطنكم الثاني مصر. فمن يغامر منهم ويخسر علاقته بالإمارات، مع أنهم كانوا من قبل في تحريضهم للرأي العام ضد قطر يتهمونها بأنها من تقف وراء سد النهضة، ليتساءل أحمد موسى في براءة: لماذا تريد قطر تعطيش مصر، ولم تكن للدوحة علاقة أبداً بالسد، فالإمارات حاضرة هناك وبقوة، لكن لحساسية الموقف عند المصريين فقد تم الزج باسم قطر!
ولهذا كله أعتقد أن فكرة قناة إخبارية مصرية تمولها السعودية، هي ورقة للتلويح امام الممول السابق لمشروع قناة «دي إم سي الإخبارية»، وبهذا المال يمكن تطوير قناة «الشرق» الأخرى، إن توافرت إرادة المنافسة، على قاعدة بيدي لا بيد عمرو، لا سيما وأن عمرو يؤمن بفقه جماعة الشوقيين الخاص بالاستحلال!
لعلها أعراض فترة النقاهة، فقد هرمنا!
صحافي من مصر
” كنت في حالة استسلام تام وأنا أشاهد «الشرق» الأخرى، لعله الشعور بالشيخوخة وقد أكملت قبل قليل عامي السادس والخمسين ” إهـ
عجيب أمرك يا أستاذ !
فأنا أكبر منك بخمسة سنوات وعمري أمام الناس 29 سنة وأبحث عن عروس لي !!
أنصحك بالصالات الرياضية حتى تشعر بالشباب من جديد !!! ولا حول ولا قوة الا بالله