الشاعر العربي… استعارة الظل وأوهام البطولة

ما أثاره مقال الشاعر والروائي سليم بركات عن الشاعر الراحل محمود درويش، فتح أفقا للحديث عن العلاقة الغائمة والملتبسة بين المثقف والتاريخ، وعن علاقته بالآخر، إذ ظلّت هذه العلائق غامرة باستيهاماتٍ يختلطُ فيها النرجسي بالعمومي، والنفسي بالعُصابي، والتاريخي باليومي، والشعري بالمرآوي، وهي ممارسات من الصعب التغافل عنها، أو التخلّي عنها، لاسيما وأنّ صورة الشاعر الواقعية تتحول في اللاوعي الجمعي إلى صورة افتراضية للكائن الحكيم والبطل والساحر والصعلوك والمجنون، الذي يمكنه أنْ يمنح اللغة طاقة فائقة، ويصنع له تداولا، يظل في حدود ما يولّده من استعارات، تقوم على لعبة الغائب والمحذوف من المعنى، والمسرود من التاريخ، ولجعل ما يقوله محفوفا بلعبة الأكاذيب التي نحتاج إلى خدرها وسكرتها دائما.
بين الصورتين تتبدّى أسئلة القارئ، والناقد بصفته قارئا متعاليا، وهي أسئلة لا تبدو بريئة، لكنها صادمة ومُفارِقة، وربما فاجعة وباعثة على إمكانية إعادة قراءة صورة، أو أيقونة الشاعر الفحل في ذاكرتنا الثقافية، فالمخيلة العربية تنحاز إلى الفحولة دائما، إلى صورة البطل، والثائر، مثلما تنحاز أيضا إلى صورة الصعلوك، إذ يكون التوصيف النفسي لهذه التمثلات رهينا بما هو نسقي، حيث لعبة الاختباء خلف اللغة، وحيث تحويل مغامرة التجاوز والعلو إلى ما هو خفي ومسكوت عنه، فيه هلاوسه في التمرد على الوضوح، بما فيه الوضوح المرعب للسلطة واللغة والجماعة.
أنا أنحاز إلى محمود درويش، الذي جعلني أؤنسن الخراب، وأشعر بأنّ المهزومين في الحرب، وفي القضية والهوية، يمكنهم أيضا أن ينتصروا في الغناء وفي السرد، وهي مسألة لا تحتاج إلى قراءاتٍ تجعل من الموضوعية تعسفاً، كما أنا انحاز إلى سليم بركات، بوصفه كاتبا جريئا يعيش عقدة الهوية والغربة، ويبحث عبر اللغة عن لحظة وجودية قد تصلح للمناورة أو للسخرية من عالم تحكمه المركزيات والديكتاتوريات، وأخيرا الفيروسات الكبرى، فقصائده وسردياته الغامضة، تضجّ بصور واستعارات وصور وطلاسم وشخوص تحتاج إلى فاعلية القارئ الأركيولوجي، حيث يبدو الحفر، وكأنه بحثٌ عن كنزٍ ما، أو وهمٍ ما، وهذا هو سحر الكتابة التي تختلط فيها شيفرات الكنز والتراب والوهم والجثث..
أحسب أنّ الحديث عن القضايا الخلافية، أو هكذا تبدو، ستكون مثار مرارة، وليست مثار معرفة أو إبداع، حيث يتم جرّ تلك القضايا خارج السياق، ووضعها أمام ذاكرة عربية مضطربة، وعند نزعات شعبوية، مازالت تحكم في شرعية القصيدة والفقه والثورة، وبالاتجاه الذي حوّل مقالة بسيطة مثل ما كتبه سليم بركات إلى صدمة تفجّرت حولها كلّ ألغام التاريخ والذاكرة والقراءات المبتورة.

ظل الشاعر

الشاعر الاستثنائي يحضر دائما بوصفه خارقا للتوصيف، أو يحضر بوصفه بطلا، أو مجنونا، أو ضحية، أو صانعا للأحجيات، حيث تُنثر حوله الحكايات، والأقاويل، والأسرار، وربما التُهَم، إذ يغيب الشاعر ليحضر ظله بقوة، الظل هو البطل التعويضي، الذي يسرد، ويناور ويشاغب ويسخر، ويتعالى على الآخرين بوصفه ظل البطل، أو القناع الذي نقف مدهوشين، مرتبكين عند قصيدته، أو عند رؤيته الساحرة للعالم.

مجلة «شعر» فرضت لعبتها الشعرية عبر وعي محرريها من الشعراء والنقاد والمترجمين، الذين أكدوا حاجة العقل العربي إلى التمرد على أنساقه الحاكمة، أي أنساق الأدلجات القومية والماركسية.

أدونيس ومحمود درويش من أكثر شعرائنا صناعة لسرديات الظل، إذ يمارس هذا الظل حضورا فائقا، حدّ تلبّسه بالتابو الذي يسكن لاوعينا الجمعي، بوصفه ظلا للواعظ والحكيم، والفيلسوف وصانع الحكايات والطلاسم، ولاستيهامات الكائن الذي يملك جرأة المراودة، والانتهاك والتجاوز، ويفتح لنا أفقا مفارقا ومكشوفا للأسئلة. أدونيس الشاعر تحوّل إلى حكواتي لسيرة «المتحوّل» في ثقافتنا العربية، حيث يقف بتعالٍ شاطر أمام سيرة الثابت الذي يسكن وهم السلطة والجماعة، ويلامس بشغبٍ تفاصيل حياتنا ونصوصنا وأسرارنا، ليجعل من قصيدته ومن خطابه ثنائية هي الأقرب للصدمة، حيث يجرّ التاريخ إلى السرد، وحيث يبادل أيقونات البطولة بنوع من الشك، الشك الذي يأتي وكأنه سؤال فاجع في الفكر، وفي الفهم، وفي الاطمئنان إلى ما تقترحه المعرفة من حلول وأوهام..
محمود درويش الشاعر الذي انحاز إلى الأرض الغائبة، استعاد فلسطين عبر القصيدة، وليجعل منها لغة باهية، وطقوسا في السحر والأنوثة، والحلم، أو ليجعل منها الحكاية التي تجرّنا منذ ستين عاما إلى كل سرديات الغياب في ثقافتنا. أيقونة درويش هي الضد النوعي لصورة الفراغ الذي قد تصنعه القراءة، أو قد يصنعه العدو دائما، ويراهن عليه، فقصيدته الباذخة الغناء تجعلنا نطمئن للأكاذيب الشعرية، والاستعارات والمجازات، حيث نملك إحساسا بالمناورة على الحزن، والمعيش عند فكرة الانتصار، حتى لو كانت ساذجة، وعلى طريقة من يوحي بالانتشاء، أو من يقترح الرقى والتعازيم، إذ تبدو القصيدة وكأنها نشيد طقوسي، يشتبك فيه الاستعاري مع الأيروسي، والفقد مع القوة، والمرأة مع الأرض، وأحسب أنّ هذه الاشتباكات هي اللعبة الباهرة التي تجعل حضور الظل في قصيدته، أو في شخصيته فائقا، وخطيرا، وباعثا على الذهاب باللغة إلى أقصى ما تقترحه من معانٍ هاربة..

مجلة شعر ولعبة التجاوز

قد تكون العودة إلى حديث مجلة «شعر» محاولة لإعادة قراءة الظل الباذخ الذي يتركه الشعراء المغامرون، بوصفه ظلا نطمئن إليه نقديا أكثر من الاطمئنان للواقع الملتبس، والغامر بحراكٍ شعري لا غواية له، ولا لوضوح ضجيجه، لاسيما وأن ما تركه الشعراء الرواد، تحوّل إلى ظلٍ باهت، تمرد عليه الشعراء أنفسهم، حيث تخلت نازك الملائكة عن ثورتها، وضاع البياتي بين الأيديولوجيا وقصيدة اليافطات، مثلما عاش بدر شاكر السياب محنة القصيدة، وكأنها محنة جسده، ومحنة أدلجته، ومحنة أوهامه الشخصية..
مجلة «شعر» فرضت لعبتها الشعرية عبر وعي محرريها من الشعراء والنقاد والمترجمين، الذين أكدوا حاجة العقل العربي إلى التمرد على أنساقه الحاكمة، أي أنساق الأدلجات القومية والماركسية، وعُقد السلطة، وشعوبيات الشارع العربي الباحث عن غواية أو هزّة أو صدمة، يمكن أنْ تُحرّك الساكن في يومياته، المخلوطة بنزعات العسكرة والأحلام القومية والصخب اليساري وشعاراته الفاقعة.. شعراء المجلة تحولوا إلى أبطال وصعاليك في الآن ذاته، فمجلتهم أثارت سؤال فاجعا في الاغتراب عن التحديث والتنوير، وجعلت الحاجة إلى الخروج عن المشهد الرتيب رهينا بتجديد أدوات ووسائط التفكير، والعلاقة مع العالم، مثلما أثارت أسماؤهم فزعا ثقافيا ووجوديا عند الكثيرين، فهم خليط غير أيديولوجي، وغير ثوري، وغير ديني، فالمؤسس يوسف الخال لا عقد له، رغم مرجعياته المسيحية، واستيهامات نزقه الشعري، وأدونيس المسكون بفحولة الكلام، وأزمة الذات والهوية، وجد في المجلة منصة لفكّ طلاسم وعيه «الشقي» في وجوديته، وصوفيته، وفي شغفه بالتجديد، وأنسي الحاج المسكون بشعرية النثر، وهوس الرفض والمفارقة، أدرك أهمية المجلة كفضاء للحوار والاختلاف، والتفكير بصوت عال، مثلما أدرك أهمية وجوده مع أسماء يمكنها أن تصنع ظلالا لا تقل شأنا عن ظلال الجنرالات والثوار والقادة الحزبيين، ورجال الفقه الأكثر صخبا في واقعنا العربي..
وحتى شعراء مثل شوقي أبي شقرا وفؤاد رفقة، وربما محمد الماغوط، والناقدة خالدة سعيد، وجدوا في فضاء التنظير والكتابة والحلم مجالات انعكست على شخصياتهم، بقدر ما انعكست على كتاباتهم، تلك التي ظلت موسومة بوهم الفرادة والتعالي، والغرور، واستكناه محمول القصيدة، وكأنها معجزةٌ، أو لعبةٌ في تغويل الذات الشعرية، التي تحولت أعراضها إلى «مرض» ظلّ غائرا في الجسد الشعري العربي، تعبيرا عن هزيمة الذات التاريخية، واستحضارا لأضداد نوعية تتماهى مع أيِّ نزق رامبوي أو بودليري، أو احتجاجي على طريقة «شعراء البيتنكس» حيث معاداة السلطة تشبه معاداة المكان، وحيث تخوين المدينة، هو ذاته تخوين التاريخ، وحتى تخوين ذاكرة اللغة، بحثا عن استعارات ملعونة، هي الوجه الآخر للكتابات الملعونة الرافضة لواقعٍ عربي يخذل شعراءه وثواره، مثلما يخذل صعاليكه.

٭ كاتب من العراق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية