عندما أتأمل واقع الأحزاب في الوطن العربي، وواقع الإبداع والدراسة في الإنسانيات والعلوم المختلفة أتساءل دائما ما الذي يجعلنا غير قادرين على تشكيل مجتمع سياسي منسجم، وبناء مجتمع ثقافي وعلمي ملائم؟ وعندما أرى الصراعات على السلطة، داخل بلد عربي ما، والصراعات العربية ـ العربية حول بلد عربي آخر، أتساءل: لماذا لا تبادر مختلف الأطراف المتنافسة إلى حل التناقضات بينها بكيفية حضارية؟ ولماذا لا تتدخل الدول العربية لحل النزاعات المحلية سلميا بما يخدم القضايا الوطنية والعربية معا؟
قد تبدو هذه الأسئلة للبعض ساذجة وبسيطة لأنها تغيب عدة عوامل تدخل في نطاق التجاذب بين القوى لبسط الهيمنة، سواء كانت هذه القوى دولية أو عربية أو محلية، من جهة. كما أنها لا تراعي، من جهة أخرى، طبيعة الصراع على السلطة، وما تفرضه من أمور، ولا السياقات المختلفة التي تحيط بها. لكني أتصور أن السؤال الساذج والبسيط أهم من الانصراف إلى الاقتناع بضرورة التسليم بـ”واقعية” و”طبيعية” ما يجري، وأن الحسم سيكون في النهاية لمن له القوة على فرض سلطته على الآخرين، مهما طال الزمان، أو كلف من خسائر.
إن السؤال يدفعنا إلى التفكير والبحث في الذهنيات والتصورات وهي تتعامل مع الظواهر وطرق معالجتها بالكيفية التي تهمها، وتخدم مصلحتها، بهدف العمل على خلق مبادرات تقطع مع السائد. أما الاقتناع بما يجري، والاكتفاء بالاصطفاف إلى جانب بعض الأطراف ضد بعضها الآخر فلن يعمل إلا على تأخير الفهم، وإطالة أمد الخلافات والصراعات. ولا عبرة هنا بـ”سلامة” تأويل ما يجري لأنه ينبني على تصورات مسبقة.
تشغلني كثيرا في مجال الأدب والسياسة قضية عجز الإنسان العربي عن إقامة المدرسة الأدبية، أو الحزب السياسي، أو الدولة الوطنية. لماذا فشلنا في بناء مختبرات ومراكز للبحث والدراسة، أو بناء أحزاب ذات هوية وطنية تعمل من أجل خدمة الوطن والمواطن والإنسان العربي؟ ولماذا لا يمكننا الحديث عن دولة عربية “نموذجية” تكون بمثابة قاطرة لغيرها من الدول العربية، وقادرة على تسوية مختلف الخلافات بما تملكه من حنكة سياسية، وقدرات مادية؟ إلى متى سنظل نجني من التمزقات والانقسامات الداخلية والعربية الكوارث التي تعيق التطور، وتكرس التخلف والصراع؟ ولعل كارثة مرفأ بيروت ليست سوى تعبير صادق لما يعيشه الوطن العربي من تسيب وفوضى لا حد لها.
تشترك مختلف الأسئلة الساذجة والبسيطة التي أطرح في كونها تتصل مجتمعة بـ”المؤسسة”. من مؤسسة الأسرة إلى مؤسسة الدولة، مرورا بمختلف المؤسسات المرتبطة بمختلف القطاعات الإنتاجية الحيوية، والعلاقات المادية والرمزية. كيف تشتغل عندنا “المؤسسة”؟ كيف نبني المؤسسة؟ ولأية مقاصد؟ وما هي الذهنية التي تحكم توجهاتنا في بنائها؟
أتصور أن البحث في هذه الأسئلة يمكننا من ملامسة بعض عناصر الإجابة عما يجري في وطننا العربي. وأستعير لتقديم بعض ملامح صورة المؤسسة في التمثل العربي مثالا من ثنائية ذهنية الشاعر في المرحلة الشفاهية، والأمير في مرحلة تأسيس الدولة. إن رأس مال الشاعر إبداعيته، وخصوصية شخصيته، وثقافته الواسعة. لذلك فهو ليس في حاجة إلى أن يعمل مع غيره، بل أن يتميز عن جميع من يشاركه في الإبداع الشعري. إنه يقول الكلمة “الفصل”. وكل شاعر يرى نفسه أشعر الشعراء، وأميرهم بلا مراء! أما الأمير فهو يرتهن إلى مكانته الاجتماعية والمالية والقبلية، ومنها يستمد سلطته القوية. لذلك فهو حاجة إلى أتباع ينفذون ما يدور في مخيلته، والشاعر ليس سوى لسان حاله.
ما يقوله الشاعر حين يلقى هوى في نفس الأمير فهو “القول” الفصل. ألم يردّ “الأمير” على من اعترض على كلام لبيد بقوله: “قد قيل ما قيل إن صدقا وإن كذبا/ فما اعتذارك من قول إذا قيلا؟ّ”. وحين يعبر الشاعر عما في ضمير الأمير من خلال قوله: “السيف أصدق أنباء من الكتب/ في حده الحد بين الجد واللعب”، يكون بذلك يسفه ما يزعمه غيره. بين الصدق والكذب، والجد واللعب تظهر ثنائية “القول” (الشعر) كما تمثله المؤسسة الرمزية، و”الفعل” (السيف)، كما تحدده المؤسسة المادية.
حين رأيت الرئيس المصري محمد مرسي يخطب مباشرة بعد توليه السلطة أثارتني طريقته في الكلام، والحركات التي كان يأتي بها، فخلصت إلى أن الرجل لا يريد إلا أن يكون تجسيدا لصورة جمال عبد الناصر، وأنه لن يكون مختلفا عنه حتى وإن كان الاتجاه السياسي والإيديولوجي لكل منهما مغايرا! وعندما أرى صور المشير حفتر، وهو يخطب، وفي كل خطبة يتخذ له أحسن الأزياء وأدلها على بذخ زائد، أتساءل: ماذا يمكن أن يقدم شخص كهذا لليبيا المنكوبة؟ إنه يتخذ صورة معمر القذافي، ولن يكون سوى صورة مقزمة ومشوهة لصورة شائهة أصلا؟ ويمكننا أن نعدد الأمثلة التي تبرز لنا بجلاء أن كل من يحلم بالسلطة المادية أو الرمزية في الوطن العربي ليس سوى تمثيل للصورة التقليدية للشاعر الذي يقول ما يحلو له في الأمير. كما أن كل من يصل إلى السلطة يريد أن يكون على غرار الأمير الذي سبقه حتى وإن كان معارضا له. ولا فرق في ذلك بين الثوري والرجعي، أو الحداثي والإسلامي، أو السني أو الشيعي.
من ذهنية الشاعر والأمير تتشكل السلطة: سلطة الكلام وسلطة الفعل. وليست هاتان السلطتان في حاجة إلا إلى الأتباع الذين ينفذون ما يقال إن صدقا وإن كذبا، جدا أو هزلا. سلطة الشاعرـ الأمير تعبير عن ذهنية التميز والتفرد والتحكم. تبدو هذه الذهنية لدى كل من يجد نفسه يمتلك سلطة وكيفما كان نوعها. لا فرق في ذلك بين الأب أو الأم، ولا بين المعلم ومدير المدرسة، ولا بين المسؤول في أي قطاع، أو المنسق في أي لجنة. كل واحد يرى نفسه أهلا للمسؤولية، وأن غيره دونه مستوى، وعليه أن يعمل على الحفاظ على مركزه، أبد الدهر، بل وأن يورثه لأحد أبنائه أو أتباعه.
ذهنية الشاعر والأمير لا يمكنها أن تسمح ببناء مؤسسة المجتمع السياسي المنسجم، ولا بتشكيل المجتمع الثقافي والعلمي المنتج. كل مشتغل بالسياسة يرى نفسه مؤهلا لأن يكون وزيرا أو أميرا. وكل من يشتغل في قطاع أكاديمي يرى نفسه مؤهلا أكثر من غيره ليكون مدير المختبر والمركز والمؤسسة الأكاديمية. وكل مسؤول في أي مجال يعمل جاهدا على أن يكون صاحب الكلمة الفصل. فهو لا يخطئ، ولا يجانب الصواب، وكل من يختلف معه، أو ينتقده منافس وعدو يجب دحره، والقضاء عليه بكل الوسائل والإمكانات.
سلطة الشاعر والأمير تنبني على مؤسسة هرمية. الرأس فيها هو الركيزة. والقاعدة ليست سوى أثاث. يبعث الأمير (رئيس الجامعة) مذكرة إلى الكليات لتأسيس مختبرات ومراكز للبحث محددا المهلة في أسبوعين. يجتمع العميد مع الشعراء للإخبار. يبدأ الشاعر الحركي في الاستقطاب. يؤسس المختبر والمركز. المهم هو العنوان البراق الذي يرضى عنه الجميع. يصبح الشاعر أميرا يعطي الأوامر، ويقترح ما يتلاءم مع ما يريد العميد والرئيس. يتحول المختبر والمركز إلى إدارة تنتج الأوراق الإدارية. وقس هذا على مختلف المؤسسات.
فمتى يمكننا بناء المؤسسة الجديدة؟ هذا هو السؤال الذي ينبغي أن يتصدى له الجميع.
* كاتب مغربي
الحقيقة المرة ، اي الواقعية، هي انه لم يكن في تاريخ هذه الشعوب اواصر وطنية، بل اواصر قبلية. على ازيد من الف سنة الاخيرة لم يحدث تكون وطني . اغلب هذه الشعوب كانت عبارة عن احلاف قبلية يؤمها حكم فضفاض يسمى خلافة. المغرب لم يكن يوما ينتسب لهذه الخلافات الا قليلا او اقل. فقبائل كانت شبه مستقلة بعضها عن بعض حتى في اوج الموحدين وما تلاهم. في الاندلس، بلد الاجداد، كان هناك ما نسميه اليوم بالدول المتعددة الجنسيات، multi potes انتهت الى دويلات طائفية وبعدها الهبوط الى الجحيم الابدي
اسال هل الجزائري او السعودي او السوري او التونسي هل يعتبر نفسه اخ وطني للمغربي؟؟!! ستندهش من سماع الرد الحقيقي الاتي من الاعماق. لا بد من الرجوع للعقلانية عندما نتناول مسائل المصطلحات مثل الوطن العربي والامة الاسلامية، لانها مصطلحات خارجة عن المنطق والواقع. لنتناول هذه المواضيع كما ان كنا نتكلم عن بلدان في امريكا الجنوبية الخ عندها سنساعد الناس اجتياز محنتهم الايديولوجية الفارغة
أخي CID لاأعرف كيف تبني قناعتك طول عمرنا نرى أن المغاربة أخوتنا من منطلق وطني وهناك دراسات اجتماعية (قرأت واحدة من هذه الدراسات الإستطلاعية في مجلة تصدر في المغرب) بينت أن غالبية مواطني الدول العربية يجدون أن مايجمعهم من ثقافة وتاريخ مشترك الخ يوحدهم وأن المشكلة في الأنظمة السياسية.
نعْم التحليل أستاذ سعيد!
كم تحتاج الثقافة العربية إلى مراجعات عميقة وانكباب على العمل الجدي على منهج قويم وبإخلاص للأجيال القادمة.
قوة العرب والمسلمين في وحدتهم، وما يجمعهم أكثر بكثير مما يفرق بينهم. قرأنا في الصغر لكتابنا العرب من لبنان ومصر والمغرب والعراق، ولم نشعر يوما بأنهم بعيدون عنا، سواء كان ذلك على المستوى الفكري أو الجغرافي. كما درسنا على يد أساتذة عرب من فلسطين وسوريا وكانوا جزءا من عائلتنا، ولم نشعر أبدا بأنهم غرباء عنا. هناك حتما من يريد افتعال الشقاق بين أبناء الأمة الواحدة لغاية في نفسه. لقد تمكن الاتحاد الأوروبي من تحقيق إجماع جزئي رغم اختلاف اللغات والأعراق والخلفيات الثقافية، بينما تسمح مؤهلات المنطقة العربية والإسلامية بتحقيق الكثير إذا توفرت الإرادة. عبرة المقال بالنسبة لي تتمثل في ضرورة التواضع والتحلي بالصبر لتوحيد الكلمة. للصغار منا أقول: ليس كل ناطق باللغة العربية في المنتديات بالضرورة ممن يضمرون الخير لمنطقتنا. لا تكترث أبدا للخطابات الانهزامية الهدامة. وتذكر دائما هذه الكلمات: تفاءلوا بالله خيرا تجدوه.
ما رأيك يا أستاذ سعيد في طريقة كلام عبدالفتاح و محمد سلمان و محمد زايد و سيء الأخبار الأسد؟ أرجو النشر لأن محمد مرسي قد توفي إلى رحمة الله و لايستطيع أن يدافع عن نفسه.
شكرًا أخي يعيد يقطين. أتفق معك بناء المؤسسة الجديدة يشكل حجر أساس. لكن تبين من خلال الربيع العربي أن المؤسسة السياسية هي الأكثر بؤسًا وهذا يعني أن ذهنية الأمير ومثال بشار الأسد وبن سلمان تشكل معضلة حقيقية في عالمنا العربي وقد قال فيها الشاعر نزار قباني مايكفي. وهناك مثال للسياسة التي تعمل بالحنكة والسياسة الحكيمة في الوطن العربي كقطر مثلًا. أتمنى أن نقرأ المزبد من هذا .
عذرًا تتمة:
… من هذا المقال.