يزخر العراق بطاقة شبابية هائلة تُشكّل نسبتهم ثلثي السكّان تقريباً، وتطمح للتغيير والبناء والتطوير، وصناعة المستقبل من خلال تنفيذ خطط تنموية تهدف إلى النهوض بالبلد من واقعه الضعيف، وتجاوز كل المصاعب والعوائق الحياتية بالإرادة القوية والفكر المستنير.
والشباب العراقي شأنه شأن بقية الشباب العربي يمتلك جذوراً حضارية وثقافية وفكرية ضاربة في التاريخ، ما يجعله قادرا على العبور بالبلد من النكسة الحالية التي يمر بها، واجتياز عوامل الإحباط واليأس والضعف المُلْتفّة حول رقبة أحلامه وطموحاته.
يحاول هذا التحقيق السريع أن يجيب على الأسئلة التي تدور في ذهن كل من يتألّم لما وصل إليه العراق في حاضره: فما الذي أوصل الشباب العراقي إلى كونهم حالة سلبية في المجتمع بدل أن يكونوا حالة إيجابية؟ ومن المسؤول عن الانحراف السلوكي والفكري لدى شريحة كبيرة منهم؟ ولماذا وصلت الطائفية حتى لأحلام الشباب، فصارت طموحاتهم مختلفة بين شمال ووسط وجنوب؟ وما هي الحلول والمقترحات التي يمكن من خلالها جعلهم قادرين على صناعة وعي وواقع يلبي طموحات هذا الجيل والأجيال القادمة؟
وقود الصراعات والانقلابات
الناشط خالد غازي (38 عاما) يقيم في تركيا قال لـ”القدس العربي” إن “الشباب العراقي لم يستثمروا بطريقة إيجابية، فقد كانوا وقود الصراعات والانقلابات على مدار العقود الماضية، إذ وظّفهم الطامحون إلى السلطة وأمراء الحرب في مشاريعهم المختلفة، فكانوا وقودا للحروب والاضطرابات، بل صاروا سبباً رئيسياً في إيقاف عجلة الاقتصاد وعدم الاستقرار الاجتماعي والأمني الذي يعيشه البلد”. ويضيف “إن الشلل شبه التام الذي نعانيه في أغلب مرافق الحياة في العراق إنما هو بسبب افتقارنا إلى منظومة قيم سياسية واجتماعية واقتصادية قادرة على الإصلاح والنهوض بالواقع وتوفير الحياة الحرة والكريمة لكل فرد من خلال توجيه الطاقة الشبابية نحو حلول مستدامة بحيث يكونوا القوة المحركة لعجلة الإعمار والبناء والتقدم في مختلف مجالات الحياة، فينتعش بهم الاقتصاد، ويسود الأمن والاستقرار” وختم كلامه بالقول: “إن البلدان لا ترتقي إلا بسواعد شبابها وعقولهم المستنيرة من خلال توظيف طموحاتهم المستقبلية وقدراتهم على التحدي في مواجهة الصعاب في عملية البناء والإعمار”.
هموم مختلفة
ووفق رؤية بعض المراقبين، فإن الشباب العراقي ما عادت تطلعاتهم ورؤاهم للمستقبل متطابقة، إذ أن سِنِوات الحرب والشحن الطائفي قد شوّهت تلك الأحلام والطموحات، وصار لكل فئة هموم وآمال مختلفة، فانخرط بعض شباب الجنوب في مشاريع ذات أبعاد طائفية لا تخدم سوى دول إقليمية تسعى للهيمنة على العراق وفرض إرادتها عليه. بينما وجد بعض شباب الوسط الناقمين من التهميش السياسي والتعسّف الأمني في جماعات متشددة ومشاريع أخرى مكانا للتعبير عن سخطهم من الظلم والاضطهاد ومن سياسات طائفية أنتجتها الظروف المعقدة التي مرّ البلد، وخصوصا في عهد رئيس الوزراء نوري المالكي. إلى ذلك، يجد المتابع أن شباب الكرد يعيشون في واقع آخر، ويحملون هموما مختلفة، فهم يسعون خلف دولتهم القومية المنشودة، غير متفاعلين مع الاتجاهات والحركات السياسية المتشكلة في البلد، ولا مع الأوجاع والآلام التي يعانيها الشباب في بقية أنحاء البلد. وبذلك يكون المشهد معقدا ومعقدا جدا.
وفي هذا الصدد، يأخذ الكاتب العراقي معن حميد المظاهرات التي حصلت في العراق خلال السنوات الماضية كدليل على الهموم المختلفة للشباب العراقي بين شمال ووسط وجنوب، ويقول إنّ “الشباب السنّي تظاهروا في العام 2013 احتجاجا على التهميش السياسي والتضييق الأمني والاعتقال التعسفّي الذي كانت الحكومة تمارسه في مناطقهم، مطالبين بحلول عملية ودائمية لمشاكلهم، فلم يخرج وقتها معهم أحد، ولم يجدوا ولو كلاما يناصر مطالبهم المشروعة من الجنوب والشمال، وبدا وكأنهم يعيشون في بلد آخر، بل تعاملت السلطات معهم بكل قسوة وعنف، حتى جعلت الناس في تلك المناطق مستعدين نفسيا لاستبدال الحكومة بأيٍّ كان، فاستغل تنظيم “الدولة” تلك الفرصة، ثم كانت النتيجة دمارا وقتلا وتهجيرا ما زالت آثارُهُ إلى اليوم”. ويتابع معن، “والأمر ذاته حصل مع الكرد في 2017 إذ خرجوا في مظاهرات حاشدة احتجاجا على تأخر الرواتب وسوء الخدمات والفساد المستفحل، ولم تجد أصواتهم العالية حينها صدى في وسط وجنوب العراق”. ثم عرج معن على المظاهرات الأخيرة التي اشتعلت في بغداد ومحافظات جنوبية، وقال إن “ما يثير العجب والاستغراب أن المطالب التي نادى بها أهل الوسط والشمال من قبل، يطالب بها نفسها أهل ساحة التحرير وبقية الساحات، لكنها الطائفية التي بلغت مبلغا خطيرا في نفوس الناس، وهكذا أرادها حكّام ما بعد 2003 لأنهم يجدون في هذا الوضع عاملا رئيسا في بقائهم”.
الحروب وفرص الشباب
لم تترك الحروب للشباب العراقي فرصة لكي يبنوا مستقبلهم وينهضوا ببلدهم، فقد عانى العراق وعلى مدار العقود الماضية من حروب متكررة استنزفت طاقته البشرية، ودمرت بنيته التحتية، وفاقمت أزماته الاقتصادية، وعطلت كل مشاريع التطوير والبناء، كما ساهمت في رفع مستويات الجهل والأمية، وهذا ما جعل العراق يفقد طاقته الحيوية التي بها يستطيع النهوض ومواجهة المعوقات.
وفي هذا الشأن يتحدث الباحث عبد الباسط الدليمي عن الدور السلبي الذي ساهمت به الحروب المتعاقبة في شل الحياة في كل أنحاء العراق، فيقول “لقد أكلت الحروب الطاقة الشبابية أكلا، ولم تذر فرصة للشباب كي ينظروا للمستقبل، فمن الثورات والانقلابات إلى الحرب العراقية الإيرانية التي خلفت مئات آلاف القتلى والأسرى والمعاقين. ولم يلتقط الشباب أنفاسه حتى اشتعلت حرب الكويت والحصار الذي أعقبها وما سبّبه من توقف شبه كامل لعجلة الحياة وإحباط ويأس ومعاناة”. ويتابع “ثم جاء الاحتلال الأمريكي وجاءت معه الحروب الطائفية وسيطرة الميليشيات الموالية لإيران على مفاصل من البلد، وانتشار القتل على الهوية. ثم كان اجتياح تنظيم “الدولة” لأجزاء من العراق والحرب الضروس عليه بمثابة الضربة القاضية التي قتلت كل الأحلام والطموحات، وَحَدَتْ بكثير من الشباب والكفاءات للهجرة والبحث عن وطن جديد يجدون فيه الأمن والعيش الكريم”. ويرى الدليمي أن “كل هذه الحروب كانت نتيجتها ما نعيشه اليوم من انهيار اقتصادي وشرخ مجتمعي وفشل سياسي، وكذلك تغوّل الفساد وسيطرة المفسدين على زمام إدارة البلد، فضلا عن غياب العدالة الاجتماعية وصعوبة الظفر بفرصة عمل. وأصبح في المجتمع طبقتان: طبقة ذات ثراء فاحش جمعت ثروتها من نهب أموال الشعب، وطبقة معدمة تَكدُّ لأجل قوت اليوم”.
البطالة
وفي جانب متصل، يعاني الشباب العراقي من أزمة بطالة حادة؛ إذ إن واحداً من بين خمسة عراقيين عاطل عن العمل، وحسب تقديرات للأمم المتحدة فإن نسبة العاطلين عن العمل بين الشباب في العراق الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و27 عاماً تجاوزت حاجز الـ 18في المئة.
وتعتبر فئة الخريجين من حاملي الشهادات العلمية الأكثر تضررا من ناحية البطالة، ذلك أن أغلبهم لم يتمكنوا من الحصول على فرص عمل تتناسب مع شهاداتهم، ولذلك يلجأ كثير منهم للعمل في مهن تتطلب جهدا بدنيا شاقا، وفي الوقت نفسه هي ذات مردود مادي محدود جدا.
كان كرار أحمد 29 عاما، يقضي معظم وقته قبل أزمة كورونا في المقهى يلعب الدومينو مع أصدقائه، وهو حاصل على شهادة ماجستير في علوم الحياة. يقول: “لقد كان المقهى متنفسي الوحيد للهروب من الأخبار والبطالة وواقعي الأليم، كنت أقضي فيه جل نهاري، لكن هذا الوباء أجبرني على المكوث في البيت. لقد درست ثماني عشرة سنة للحصول على شهادتي، وها أنا اليوم أعيش كمن لم يدرس أبدا، ولو أنني تعلمت صنعة في البناء أو النجارة أو تصليح السيارات لكان خيرا لي، ولربما وجدت فرصة عمل”. ويضيف كرار: “لم أتزوج إلى اليوم، فقد كنت أظن أني سأجد فرصة عمل بعد الشهادة أستطيع بها تدبير متطلبات الزواج”. وقال إنه قدّم ملفّه لكل الوزارات على أمل أن يتم تعيينه في مكان ما، لكن كل محاولاته باءت بالفشل.
الشاب الناشط محمد محل يرى أن “البطالة المتفشّية في العراق جعلت الشباب يتوجهون إلى صفوف الميليشيات أو التنظيمات ذات الأجندات المختلفة، بينما اختار آخرون الهجرة خارج العراق”.
حلول مقترحة
يقول ذوو الخبرة أن العراق لن يخرج من أزمته الحالية إلا من خلال سياسات تنموية تعتمد على خطط واستراتيجيات متكاملة، بحيث تُولي هذه الخطط الشباب أولوية فتُلبّي احتياجاتهم وتُحقّق طموحاتهم. كما يجب إزالة الفوارق الطبقية والعرقية السائدة في العراق منذ عقود، والتي تتعامل مع الشباب على أساس قومي أو طائفي. وحول هذا الموضوع تحدث الأستاذ في جامعة الموصل قصي أحمد لـ”القدس العربي” فقال: “مفتاح الحل للأزمة الشبابية في العراق يبدأ من التعليم من خلال انتهاج سياسات تربوية ناجعة تتماشى مع متطلبات العصر، ولا بأس من الاستفادة من تجارب الدول الرائدة في هذا الشأن، وهذا يتحقق من خلال اعتماد مناهج تعليمية عصرية قادرة على رفع المستوى العلمي والمهارات الفنية والإبداعية وتعزيز روح الاكتشاف العلمي لدى الشباب، وبالنتيجة صناعة الجيل المنشود”. ودعا إلى “تأهيل ورفع الكفاءة المهنية للهيئات الإدارية والتعليمية المتخصصة لتكون قادرة على مواكبة المناهج الحديثة وإيصالها للمتلقين بالصورة الصحيحة”.
وفي الحلول أيضا، طالب داؤود الملاح وهو تدريسي في كلية الإدارة والاقتصاد في جامعة الموصل بـ “التوقف عن الاعتماد الكلي على القطاع العام، وتفعيل القطاع الخاص بكل أنواعه بحيث يكون الرائد الذي ينهض باقتصاد البلد كما هو الحال في الدول المتقدمة”. وأوضح أن “هذا يتطلب دعما حكوميا متفانيا والاستفادة من الأعداد الكبيرة من الخريجين وحملة الشهادات وتشجيعهم على العمل في القطاع الخاص من أجل تحقيق التنمية المستدامة في البلد”.
أخيرا، فإنه لا بد من دراسة مفصلة من الخبراء والأكاديميين وذوي الشأن في مختلف المجالات العلمية والثقافية من داخل العراق وخارجه لأسباب فشل وإخفاق تجربة الحكم في العراق ما بعد 2003 بحيث يُقدّمون فيها رؤيتهم لمعالجة وإصلاح الوضع، ثم يضعون الخطط والحلول والمقترحات العلمية الواقعية القادرة على مواجهة المرحلة.