من الضرورة إعادة التفكير في العلاقات الإنسانية كشرط خالص بعد انفضاح الوهم الإنساني على وقع التجويع الممنهج لأطفال اليمن، وقتل وتقطيع الجسد على وقع الموسيقى، والهدم المريع لبنية الإنسان والمكان في سوريا، فعلا «القسوة اختراع بشري، فالحيوانات لا تعذّب بعضها بعضا» كما قال خوسيه ساراماغو. إنّ عالما تنهدم فيه القيم، حريّ بالعقل فيه أن يضع مفهوم الإنسان موضع بحث مجهري، بعد أن أثبت إخفاقاته المتتالية في تأسيس معايير التقارب المبدئي بين الأخلاق كتأسيس جمالي والإنسان كهوية للتاريخ؟
الغيب والوجود/ المسار نحو الكمال
العلاقات كمفهوم هي البنية الأساس لحركة البشر داخل مجموعة معرّفة، هي مجموعة الإنسانية، لهذا وُجد القانون كمجموعة من القواعد التي تحكم وتنظم علاقات الأشخاص داخل المجتمع، إلا أنّ القانون وحده لا يكفي، لأنّ الإشكال ليس ضبط السلوك من خارج الذات، بل انبثاق الضابط من داخلها، وهو ما يتوافق ومعيار الأخلاق، لأنّه بدون ذلك، سوف يسود نظام المصالح، لهذا يتوجه أفق القرآن معاتبا الإنسان على إهماله البعد الإيماني الذي يساهم في ترقية الضمير وبعثه من الداخل الإنساني، «يا أيّها الإنسان ما غرّك بربك الكريم» (الانفطار 6)، لأنّ الأساس في بعث عالم الحضور هو الجزء المخفي، فإبداعية الإنسان لا تتحقق إلا عبر المتخيّل، لأنّ أهمية الفكر في عدم تطابقه مع الحقيقة انطلاقا من رؤية بودريار، وحقيقة وجوده لا تكتمل إلا بعلاقته بعالم الغيب الذي وجد منه، وهو ما يؤكد أهمّية المعنى في الوجود، فمارتن هايدغر يقدّم في فلسفته مفهوم «الوجود – في – العالم»، بمعنى «أنّ الفهم الذي يدرك به الدازاين ذاته في وجوده وفي عالمه لا يقتصر على سلوك وتصرّف اتجاه موضوعات المعرفة، ولكنّه الوجود في العالم نفسه للدّازاين»، أي الوجود الفاعل للإنسان في نطاق الوجود، ولهذا تحدّد الفلسفات المختلفة وجودا مكتملا للإنسان باعتباره عقلا مفكرا، فنيتشه يقول بالسوبرمان، الذي يفصل الإنسان الغربي عن نَفَس الحلم المسيحي النّافر صوب الرّوحي، ليرمي به في متاهة القوّة، بعيدا عن الحب المنهك داخل أسوار «المركزية الغربية» المحقّقة في «الأعلى»، وهو ما يفسّر استعمار الغرب للشعوب الضّعيفة، ويتناقض معه التصوّر القيمي الذي يتمثل في دعوة محمد إقبال إلى «الإنسان الكامل»، ويذكر إقبال أنّ المفهوم كان قد أوجده قبل اطّلاعه على نيتشه، والحاجة إلى الكمال تنبع من النقص الذي يجده الإنسان في إدراك مراتب الجمال والصّفاء، سالكا معراج الارتقاء نحو الحق المفرد في جلال الله.
إنّ عالما تنهدم فيه القيم، حريّ بالعقل فيه أن يضع مفهوم الإنسان موضع بحث مجهري، بعد أن أثبت إخفاقاته المتتالية في تأسيس معايير التقارب المبدئي بين الأخلاق كتأسيس جمالي والإنسان كهوية للتاريخ؟
أنّ الفهم الذي يدرك به الدازاين ذاته في وجوده وفي عالمه لا يقتصر على سلوك وتصرّف اتجاه موضوعات المعرفة، ولكنّه الوجود في العالم نفسه للدّازاين.
العلاقة من وجودية سارتر إلى حضارية بن نبي
تتحدّد الفلسفة الغربية بالتعمّق في العلاقة ما بين الإنسان والإرادة، فسارتر الذي يدرس الإنسان كما هو في مواقفه اليائسة والتشاؤمية، بمعنى الوجودية في علاقتها مع ما هو واقعي، هو ذاته الذي يرى أنّ الأمل كعلاقة وجودية، هو «طريقة ما في اكتناه الغاية التي يرى الإنسان إنّه قادر على تحقيقها»، فما بين اليأس والأمل تتحقّق الوجودية بكل آمالها وآلامها ويتجذّر مفهوم الإنسان من خلال العبث وسؤال الجدوى. لكن هل العلاقة تتحدّد فقط بما هو وجودي يتعلق بالإنسان في حدوده الآملة واليائسة؟ مالك بن نبي يضع الإنسان في علاقته بعناصر وجودية أخرى تعرّفه بالضرورة ضمن إطار أعمق وأشمل، فالحضارة هي: إنسان + ماء + تراب، تفاعل عناصر المعادلة ينتج حضارة، بما يعني تحديد هوية خالصة للإنسان تضعه في مجال حضاريته، وهو ما يكمّل فكرة «الإنسان الكامل» عند محمد إقبال، أو تعريفه في مجال الحضارة، إذ الكينونة لا تتحدّد عند بن نبي سوى بتلك العناصر الأولية التي تجعل عوامل الحضور الفاعل ممكنة ضمن المعطيات الأصيلة في الحياة، وبالتالي فهي دافعة التفكير الإنساني في ما يحيطه وتمييز ذاته كقوة عاقلة مغيّرة.
اللانهائي باعتباره نسق المستمر
العلاقة كإطار يحتوي على فكرة الرّابط تتأسّس كمحور لا محسوس، جذره الفكري يرمي إلى المعنى بعمق، مهما اختلف الزّمن أو المكان، والعلاقة لا تشترط الانتماء الواحد بل تتأسّس داخل فضاء الاختلاف والتعدّد، فهي إنسانية بمفهوم «وجدانية الفكر»، تماما كما التقى مفهوما «الإنسان الكامل» و«الإنسان الأعلى»، بدون أن يطّلع اللاحق على السّابق، فنيتشه مثلا يقول بفكرة «العود الأبدي»، أي نقض خطّية الزّمن النهائية، وهو بذلك يناقض فكرة الزّمن المستمر عند هنري برغسون، وفي التعاقب يظهر زوال الأشياء المنتج للمتخيّل والحلم، ولعل حركة «احتلوا وول ستريت» تؤكد على لانهائية الافتراض، حيث وضعت الرأسمالية موضع المساءلة، وهو ما يناقض افتراض فوكوياما في «نهاية التاريخ»، ولا يمكن أن ننهي المقاربة للعلاقة بدون أن ننتبه إلى الأفق القرآني: «هل أتى على الإنسان حين من الدّهر لم يكن شيئا مذكورا» (الإنسان1)، فالعلاقة مع الإلهي تتأسّس عند ما قبل الإنسان وما بعده، أي أنّ الإنسان في مرحلة حضوره يختلف عنه في لامذكوريته، حيث يحال إلى الشيئية، ولا يكون إنسانا سوى بتعلقه بالمصدر الذي يذكِّره بلامذكوريته أو لاحضوريته، وهو المصدر الإلهي المتعلق بالغيب، فالغيب يمثل العلاقة الوجودية الأساس في حياة الإنسان.
هويّة العلاقة كنظام/ الشرط الإنساني الخالص
المحسوس وحده لا يوصل إلى الحقيقة، فوجود الكواكب والمجرّات في فلك لا تتماس فيه ولا تتصادم، بل تردّد موسيقى الكون الفريدة المتمثلة في الصّمت والتقارب، يكشف عن نوع من العلاقة بين هذه العناصر تجعلها وحدة متعاونة ومنتجة لشيء اسمه الكون، فحركتها هي الدالة على النظام المنشئ لهويتها، ومنه تنبثق حقيقة الغيب، ليس كدلالة على قوّة محرّكة وحسب، ولكن على نظام يحسم فكرة الدفع الروحي لحركة التاريخ المعبّر عن زمنية منتجة لقيم لا تختلف حيثما وجد نظام دال على الشرط الإنساني الخالص، وإحالة الحركة إلى ذاتها أو إلى العدم، يعني الإخلال بفكرة النظام الذي يشمل الإنسان الكامل بمفهوم محمد إقبال وعلى هويته الحافلة بالرّغبة في التغيير والحركة.
إنّ المشترك الإنساني، يرتق نظام العلاقات، والفكرة ها هنا لا تبحث في توحيد الرّؤية بل تروم المشترك الإنساني، فالرسول (ص) قال: «إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق»، هذه التتمة هي التي نروم الوصول إليها من خلال إجماع العقل البشري عليها، فالبشرية في مرحلة من مراحل الرؤية للمسار الإنساني الصّراعي، تطرح سؤال اللقاء عند المفاصل الحسّاسة لدى الإنسانية بدون أن يمس ذلك بالعقائد، وما يبيّن منهج الفكرة في الرّؤية للتلاقي هو وضع النص النبوي في سياق أفق الآيتين السابقتين اللتين تشيران إلى المصدر الغيبي، فالأفكار مهما تجلّت جواهرها العقلانية المفيدة، تظل في حاجة إلى مصدر الغيب أو العلاقة الوجودية الأساس في حياة الإنسان.
انطلاقا من ابن عربي، يمثل الإنسان كون المحبّة الأمثل:
أدين بدين الحب أن توجّهت
مراكبه، فالحبّ ديني وإيماني
هذه المحبّة تسهّل اندماج الإنسان في نظام «استراتيجية العاطفة» الذي يجعل من القلب مادّة الفكر، تقترب بالعقل من أفق اللامحدود، فيجلو أمام الإنسان وتطلعاته منبع التشاركية التي تعتبر الأصل في لقاء الإنسانية الدال والنّبيه، فلقد دلّ الشّرط التاريخي على أنّ الحق يتسنّم ذروة الجمال، والإنسانية في حقيقتها بحث عن الحق والجمال.
٭ كاتب جزائري
معادلة الحضارة عند المفكر الجزائري مالك بن نبي تتكون من الانسان والوقت والتراب وليس من الانسان والماء والتراب كما جاء في مقال الكاتب الذي يشكر عليه
شكرا اخي على كل هذه المعلومات القيمة.