الشعراء ما بين لظى الأوطان ولوعة المهاجر

للغربة في الأدب دلالاتها النفسية والاجتماعية والفكرية، ولها تأثيراتها الإيجابية والسلبية في الأديب. ولقد حدد النقد الأدبي للغربة تعريفات وموجهات تميزها عن الاغتراب بحسب المواضعات النفسانية في الأغلب. وصار متفقاً عليه أنّ الغربة مكانية في أعم معانيها، وأن الاغتراب روحي بيد أن أثرهما القادح في الذات يظل واحداً وإن تفاوتا إبداعياً من أديب إلى آخر سرداً وشعراً، من ناحية ما يولدانه من طاقة تقدح نار الإبداع فتتوهج. وكلما كان الشعور بالغربة والاغتراب عميقاً، غدا القدح في كوامن الإبداع أكثر قوة، واتخذ التجلي الجمالي للذات شكلاً أدبياً أو فنياً متيناً.
وإذا خصصنا كلامنا في الشعر، فإننا سنجد الاثنين متلازمين أعني الغربة والاغتراب، ولقد ظل الشاعر منذ القدم رهينهما، غير متصالح مع نفسه ولا متوافق مع محيطه، والناس لا تألفه، فهو مغترب وغريب، دائم الهيام فلا يجد غير الشعر ملجأ له، فيه اطمئنانه الذاتي وفيه سلوته، حل أو ارتحل، عاش بين الأهل أو تعايش مع الأجانب. والقصيدة هي بساط الريح الذي يحمل روحه اللائبة بحثا عما هو مفقود، فيشرّق ويغرّب وهو ماكث في مكانه لم يغادره. ووسيلته في البحث هي المخيلة كقوة سحرية لا يقف أمامها حدٌّ ولا يردها مصدٌّ، وبها يتمكن من صنع ما يشاء وينزل أي فضاء، يسكن في قصر أو يحجز نفسه في قبو أو يسافر خارج الأرض التي فيها نشأته الاولى ومرتع لعبه.
فطاقة الشعر على التخيل خلّاقة ومن ثم تكون الغربة والاغتراب عاملين مهمين في تأجيج المشاعر واستنهاض الهمة على قول الشعر. ولا يتأثر هذان العاملان بمكان ضيق هو سجن أو معتقل ولا بفضاء متسع هو منتجع أو واحة كما لا يؤثر فيهما زمان رغيد سعيد وآخر بائس تعيس.
وقديما تنوعت الصور التي رسمها الشاعر لغربته ككائن هائم لا يجد ما يبحث عنه سوى القصيدة التي يُحقق بها مسافة أمان تضيء له العالم بعد أن تجتاحه كلمات قصيدته، فالمتنبي ارتحل إلى بلدان كثيرة وهو القائل:
شَرّقَ حتى ليسَ للشّرْقِ مَشرِق     وَغَرّبَ حتى ليسَ للغرْبِ مَغْرِبُ.
فظل على شاعريته كبيرا يحمل معه مخيلته وهو يلقي الشعر في قاهرة كافور ودمشق الحمداني وسواهما من الأمصار. ومن ثم لا أثر للتشريق والتغريب في قوله الشعر فلم يكن لدى المتنبي فرق بين أن يكون داخل وطنه الأول أو أن يكون خارجه. والأمر قد لا يكون كذلك لكل المبدعين من قصاصين وروائيين وفنانين وكتابا ومسرحيين ومفكرين ممن ارتحلوا عن أوطانهم ـ فالمتنبي ومن على شاكلته حالة خاصة كونه لم يعانِ شظف العيش في الغربة ـ ولكن الخطأ هو في من يفهم الغربة في الشعر على أنها ارتحال وهجرة بعيدا عن الوطن بالانتباذ قسرا او بالاختيار طوعا بل الغربة شعور يتولد من إحساس ممض بأن الذات غير متوافقة من فرط وجدها وولهها وعمق إدراكها أنها تسكن لوحدها ركنا قصيا معزولا عن العالم كله. ومشاعر الغربة والاغتراب لا ترتهن بمن ترك بلاده وسكن غير دياره وإنما ترتهن المشاعر بالذات ومدى حساسيتها الداخلية إزاء ما حولها فهذا هو وحده الذي يترك أثرا مهما في تحريك كوامن الإبداع.
ولا تتحدد درجة الإبداع سوى بدواخل النفس والوجدان وما فيهما من شعور بالاغتراب والغربة وقد يكونان عند الذي لازم دياره أكثر قوة من ذاك الذي وجد مأواه في غيرها. ولو كان للغربة ان تقتصر على المكان لصار كل من هاجر عن بلاده مبدعا ولكان كبار الشعراء من صُنع المنافي ومن النازحين عن الأوطان. ولغدا الشاعر اللاجئ والمهاجر أكثر تميزا في شعره من نظيره الذي لم يعش الغربة. وهذا بالطبع لم يكن ولن يكون لسبب بسيط هو أن لا دخل للمكان في غربة الذات كما أن لا دخل للزمان في اغتراب الروح. وعدم التوافق مع المحيط والإحساس بالبعد وعدم الألفة يمكن أن يحصل للشعراء جميعهم قاطنين في بلدانهم أو غير قاطنين.
فالغربة هي اللامسافة التي معها تضيق حدود الزمان وتتشكل بدلها حدود الإلهام التي بها تستضاء دروب الشاعر فتتوهج المسارات أمام روحه حتى إذا سلك واحدا منها، تولدت القصيدة التي معها تنتعش الروح وتسترد هدوءها ويسود داخلها سلام وقتي وأمان خاص قد يضطرم بعد حين قريب أو بعيد مجددا كدورة إلهام شعري لا نهاية له.
والإلهام الشعري يتجدد ويتبدل كل آن لأن الشاعر ليس آلة جامدة، بل هو حر ككيان نابض يرفض التطبع ويسير عكس المعتاد وبهذا وذاك يغترب ويتغرب ولا سبيل للمصالحة إلا بالقصيدة. وكم من الشعراء نذروا أنفسهم قصائد لا لشيء سوى للتصالح مع غربة أرواحهم الشاردة. وتتعدد أسباب النذر وأكثرها أهمية الثبات على المبادئ التي تجعل الإحساس بالغربة ناجما من وضع معين عام وجماهيري يُلقي بالشاعر في الجهة القصية من العالم حيث لا أحد يشاركه همه سوى اللغة التي بها يكتب قصيدته، ولا يؤثر في درجة كمالها إن كان مرابطاً مضارب بلاده أو كان هائماً لا يجد في موطنه استقراراً فيذرع المسافات ويتعدى الحدود باحثاً عن وطن بديل هو منفى أو مهجر أو ملجأ أو مقام أو ملاذ، سمه ما شئت.
أقول هذا وأنا أجد المشهد الثقافي في العراق يتعمد وهو بصدد أي حديث عن الشعراء إلى فصل أدباء الداخل عن أدباء الخارج مما شاع على لسان بعض المسؤولين خاصة الذين هم محسوبون أيضا على الخارج بدلالة حملهم جنسيات بلدان أخرى. وبالطبع ليس المقصود من الفصل الناحية العددية إذ لا خلاف في أن الشعراء القاطنين داخل العراق هم الأكثر عدداً، إنما المقصود من الفصل هو التمييز النوعي على أساس أن الشاعر القاطن خارج العراق هو أفضل حالاً بالحرية المتاحة له من نظيره القاطن داخل العراق.
وهذا التصنيف الذي يطمئن إلى صحته بعض النقاد ويرددونه في كتاباتهم بلا وازع من تفكير، هو تصنيف جزافي فنياً وغير منطقي واقعياً. أفليس المخاض الشعري واحد تغير المكان أو لا؟ ولو كان للشعر أن يتأثر بالحرية فلماذا إذن لم يصنع الجيل الأول من الشعراء المهاجرين مدرسة أو ينشئوا تيارا كالذي صنعه الشعراء اللبنانيون في المهجر مطلع القرن الماضي الذين أسسوا تقاليد استمرت تسير عليها أجيال المهجر التالية من دون أن يؤدي ذلك إلى تصنيف شعراء لبنان إلى داخل وخارج؟ ولماذا لم تحقق الأجيال العراقية المهاجرة التي وصلت الآن إلى جيلها الثالث أي شأن شعري هو أكثر مما عليه الشأن الشعري داخل البلد؟
ان الإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها تختصرها اعتمالات الفعل الأدبي التي فيها الإلهام واحد تحركه الغربة ويولده الاغتراب، وإلا ما كان لرواد حركة الشعر الحر أن يكونوا حاملي لواء الحداثة الشعرية العربية إلا لأن هموم غربتهم وتجارب اغترابهم جمعتهم فغدوا قريبين ومتوافقين مع اختلاف كل واحد منهم في آرائه وتجربته مع الآخر.
أما لماذا ابتلي الشعر العراقي بهذا التوصيف القسري، فلأنه مسلك يضفي به القائلون بهذا التفريق على الشعراء في الخارج وقار الإبداع على اعتبار أنهم تغربوا فأبدعوا متمتعين بالحرية بعيدا عن الدكتاتورية والقمع والارهاب بينما يسلبون أهل الداخل من هذا الوقار بحجة أنهم لم يعرفوا الغربة ولا تمتعوا بالحرية.
وهذا حكم جائر وتزييف لا يقبله منطق سوى منطق المتحزبين الذين يمزجون الشعر بالسياسة منتجين وصفة دعائية إعلانية هي عبارة عن عنف رمزي يضربون به عصفورين بحجر واحد فهم من جانب يظهرون مقتهم السياسي للنظام الدكتاتوري ومن جانب آخر يوجهون غلهم ويظهرون بغضاءهم من التاريخ الشعري في العراق، منتصرين لشعراء الخارج ومتجنين بطريقة غير مباشرة على شعراء الداخل. وقد نسي أولئك القائلون بالداخل والخارج أنهم ليسوا مفوضين قدرياً كي يبتدعوا هذا التصنيف الذي لن يفضي سوى إلى تحنيط الشعرية العراقية من جهة وإبقاء نار الفرقة وربما الضغينة متأججة. وأما مسألة تعميم الفهم السياسي على الفهم الشعري فذلك ما لا تقبله قوانين الإبداع ونظرياته، لأن الشعر حر لا يعرف للسياسة مكانا، بل هو الذي يسعى إلى أن يكون سلاحا في مواجهة السياسة وحبائلها وتعرية تجارها والمشبوهين بها. ولا وجود بتاتا لتلك الصورة التي فيها الشعر مرآة للسياسة إلا في أذهان المسيسين المفيدين من ألاعيبها.
مؤدى القول إن المهجر أو المنفى لا يصنع أدباء كبارا، وكثيرون لم يضف المهجر إليهم شيئا غير الذي أضافته بلدانهم إليهم فكانوا كبارا وهم لم ينعموا بالحرية بل قاسوا الحرمان والاضطهاد. ومن لم يكن في إحساسه ومخيلته كبيرا فلن يصنعه وطن ولا مهجر ولا منفى.
*كاتبة من العراق

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول إبراهيم الدوش:

    نعم.

إشترك في قائمتنا البريدية