… كثُر هم الشعراء الذين يلهثون وراء النجومية بشكلها الخارجي، وليس مضمونها الإبداعي الحقيقيّ، وفي زمان العولمة المفتوحة على الكون بسهولةٍ عجيبة، تتسع المساحة للساعين خلف الضوء، وما أدراك ما الضوء، في أوج هذه الفوضى التي تغزو العقول تحت شمسها المصطنعة، نجد أن قوّة الشاعر وحنكتهُ في تقديم نصّهِ للقارئ العربي تتمحور حول طريقة نشرهِ المفترضة، وعدد المعجبين فقط، وليس قوّة المضمون فيه، وهذه معضلة حقيقية لا ينتبه لها الشعراء في عصرنا الحاضر إلا القليل منهم، وهذا المأزق يؤذي بشكلٍ كبيرٍ ذائقة المتلقي الذي يأخذ هذه الحالة على محمل الجد، طبعاً، أنا لست مع الانزواء في الظلام التام، وعدم عصرنة الشعر وتقديمه للقارئ الذي يعيش هذه العولمة في آن، أيضاً، لكنني مع الإنصات الروحي للنص والانحياز للمضمون أولاً، وليس من الضروري أن نفكر كيف نقدم النص وننشرهُ أو ماذا سيقول القارئ عن النص؟ إنما المهم هو إنتاج نص مبدع قادر على أن يقدم نفسه بنفسهِ، وأن يصنع نرجسيتهُ اللطيفة التي تضع شاعرها في مكانٍ آخر، في مكانٍ آمنٍ من أشباح الضوء الرديء والكاميرات الخفيات، كما قال عنها محمود درويش في قصيدتهِ بعنوان «إلى شاعرٍ شاب» من ديوانهِ الأخير «لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي»، وهي قصيدة أشبه بوصية للشاعر الشاب الذي يعاصر هذه المرحلة الصعبة والمعولمة في آن، يقول له:
لا أخاف عليك من الواجبات
أخاف عليك من الراقصات على قبر أولادهنّ
أخاف عليك من الكاميرات الخفيات
في سرر المطربات.
خوف درويش على مستقبل الشاعر الشاب كان واضحاً في القصيدة الوصية، فأكّد على أنّ هناك خطورة في الكاميرات الراقصات أو الخفيات، في سرر المطربات أي الحفلات التي لا يشعّ فيها سوى ضوء الجسد الواضح والكاميرا الخفية خلسة، بعيداً عن الفكرة وجوهرها، طبعاً، ليست المشكلة في الكاميرا والإعلام المرئي المفتوح، لكن كاميرا عن كاميرا تختلف، والاهتمام المفرط في حب الضوء الظاهر منها يختلف عند الشاعر نفسه، وليس جمهوره، أن يكون الشاعر شاعر الصورة اللامعة فقط، لا شاعر الجوهر والمعنى الذي تستحق قصيدته أن تضيء ذاتها بذاتها، وأن تصنع شاعرها الخاص الخارج من السرداب المظلم إلى الضوء، بقوّتها المشعة كالشمس اللاهية المشرقة من الغيم، هنا الأمر يختلف عمّا يحدث اليوم، وعمّا نراهُ يوميّاً في الأمسيات وصفحات التواصل الاجتماعي، وهذا يضر بمستقبل الشعر الذي بات يسلك مساراً آخر، كما أنّهُ بات يشكّل مفهوماً آخر في وعي المجتمع، نسمع أنّ الناس يتكلمون عن شاعرٍ كبيرٍ لأنّ الضوء عليه أوسع من الضوء على شاعرٍ آخر قد يكون أفضل منهُ نصّاً في الواقع، لأنّ الخفاء الذي يرتديه حاصرهُ برأيهم، وهذه فكرة خاطئة، قد يجعلهُ الخفاء الذي يرتديه شاعراً متميزاً في هذا الزمن العاري من الحقيقة تماماً، ما اضطرّ أدونيس في ندوة بيروت/ الحمراء العام الماضي، أن يشير إلى هذه الظاهرة، حين سُئل عن مستقبل الشعراء الشباب، قال:
« الشاعر الحقيقي هو الذي لا يملك جمهوراً اليوم،
لأنّ الجماهيريّة تحصر معنى الشاعر».
خوف درويش على مستقبل الشاعر الشاب كان واضحاً في القصيدة الوصية، فأكّد على أنّ هناك خطورة في الكاميرات الراقصات أو الخفيات، في سرر المطربات أي الحفلات التي لا يشعّ فيها سوى ضوء الجسد الواضح والكاميرا الخفية خلسة، بعيداً عن الفكرة وجوهرها.
هذا ما قالهُ أدونيس، والقصد منهُ أنّ الشاعر الذي يملك جمهوراً يتحول مطرباً في هذا الزمن تحديداً، وأنّ هناك خللا في نصهِ، إلا إذا حصل على جمهورٍ نخبويٍّ كما كان جمهور درويش مثلاً، كان جمهوراً خاصاً واستثنائيّاً، لأنّه شاعر الاستثناء باختصار، وعدا عن ذلك، أنّ جماهيريّة الشعر تغيّرت عن قبل، مع تغيّر مفهوم الشعر والواقع السياسي الراهن في عالمنا، ومن جهةٍ أهم، هو الغزو الشرس للتكنولوجيا على العقل العربي، ما وضع نظرية الجمهور للشعر العربي في منطقة أخرى ومفهوم آخر، وهناك أيضاً مقولة للشاعر الأمريكي لوليم هاورد غاس، يقول:
« إذا كنت تكتب بشكل رديء سيصبح لك جمهور
وإذا كنت تكتب بشكل جيد سيصبح لك قراء».
وكثر هم الشعراء الذين لا ينتبهون إلى تلك المقولات التي تحثُّ على الانتباه من الجمهور، وعدم الانصياع إلى تصديق وهم العددية والضجيج الذاهب إلى الصمت بعد هنيهةٍ، وما أقلّ الشعراء الذين ينحازون إلى الهدوء النسبي في تقديم نصوصهم، وعدم الإيمان التام بوهم النجومية/ الجماهيرية التي تُسقط الشعر إلى قاع الحضيض، لا يوجد جمهور في عالمنا يقرأ النص بحواسهِ الخمس، بل هناك جمهور فقط، يجد النص الشعري صوتاً عالياً وضوءاً جميلاً في متناول الجميع، فيخضع له، والاختبار الحقيقي هو عندما يقرأ الناس الشعر وفهم مضمونه بهدوء السلحفاة سيصبحون قرّاء، ويصل الشاعر إلى هدفه المبتغى، وينحاز إلى السطر الثاني من مقولة غاس التي أسلفناها، أمّا إذا أحدث الناس الضجيج الضوئي حول نصٍ رديءٍ في الحقيقة بدون الإنصات الى ما يقول الشاعر، بسرعةِ الأرنب، سيبقى الشاعر في مكانهِ الأول بدون جدوى.
كما المعروف أيضاً، لو وضع الشاعر سلّماً بيديه وصعد إلى السماء ليلقي قصيدتهُ على الكوكب ويضيء معهُ، مع عدم الشغل على النص والانحياز إلى الإبداع فيه، سيظل النص رديئاً، لن يتغير شيئاً، سيبقى نصهُ سفليّاً مهما فعل، وهنا مقولة تنطبق على الذي يحدث للشعراء في هذا العصر، يقول علي بن أبي طالب، وهو يحج إلى بيت الله الحرام، قال: ما أكثر الضجيج وما أقل الحجيج، فما أكثر ضجيج الشعراء وما أقل الشعر، وما أكثر ضجيج الجمهور حول القصيدة التي لا شعر فيها، في القاعات التي غالباً ما تمتلئ بالجمهـــور، ومواقع التواصل الاجتماعي التي تمتلئ بالعــــابرين والمعجبين والمشاركين، ومـــن صور الشعراء التي تجتاح الصفحات البيـــضاء، وما أقل الذاهبين للعزلة الهادئة للإنصات إلى الداخـــل في أزقة النص، والإمساك بالجمالي لاختبار الشاعرية على قدر المستوى الملموس لذائقـــة المتعة فــي الشعر، حتى إن كان وجه الشاعر مخفيّاً كشمعةٍ في الظلام.
٭ شاعر من فلسطين