يعيش الوسط الثقافي والادبي حدثا فريدا هذه الايام بمناسبة صدور الاعمال الكاملة للشاعرة فضيلة الشابي، في طبعة انيقة متكونة من خمسة اجزاء، نهضت بها دار محمد على الحامي بادارة السيد النوري عبيد الذي سخر كل الامكانات الفنية والجمالية والطباعية من اجل ان يكون هذا الاصدار لائقا بعطاء هذه الشاعرة الشعري والادبي، عطاء لم ينضب معينه منذ اكثر من اربعين سنة خلت .
وبالاحتفاء بهذا الاصدار، نحتفي في آن بالشاعرة ونمنحها المنزلة التي هي بها جديرة في الشعرية التونسية والعربية .فالشاعرة المولودة منذاكثر من سبعين عاما قد عبرت التيارات الشعرية وأنشات بعضها وانشقت على بعضها الآخر وهي منذ صدور اول ديوان لها وهو ‘روائح الارض والغضب’ الصادر في بيروت 1973 ومنذ ان صدر لها الديوان المؤسس لكل تجربتها ‘الحدائق الهندسية’ لم تكف عن اجتراح لغة شعرية تكاد تكون ملكا لها ووقفا عليها، ففي ابداعها الشعري تتعامل الشاعرة الكبيرة مع اللغة تعامل النحات مع المادة والرسام مع الاصباغ، هي تعتبر ان اللغة مادة اوعجينة وما على الشاعر الا ان يكيفها وفق رؤيته الى الكون والى الانسان ومن اجل ذلك استوطن شعرها بعدا تشكيليا اقرب ما يكون الى النحت، وهو ما جعلها تتعاطى مع اللغة بنوع من العنف وبعقلية السيطرة ما جعل شعرها لا يسالم اللغة ولا يهادن نحوها ولا يطمئن الى معياريتها، وانما يجترح لغة مضادة، تكف فيها اللغة عن املاء شروطها واحكامها وفي الآن ذاته تتضخم الوظيفة الشعرية وتكبر على حساب اللغة التي هي في الاصل شرط وجودها، وتتولد الشعرية من كل الممكنات التي يمكن ان تبيحها لغة الشعر الخارجة الخارجة على التومن سلطة النحو، والعالقة في طبقات من الغموض الذي يصعب تفكيكه من القراءة الاولى والثانية، والذي يدخل القارئ في المتاهات اللانهائية للعبة الشعر والتي هي سر تمدد عالم الشاعرة نحوالحدود القصوى للتجربة الانسانية .
اللغة لديها ‘جملة ذات معاقل وسجون’ (ص.351) والتجربة الشعرية في ‘ان تكون جالسة على حافة اللغة ‘(ص.351) .الشعر هواذن ‘لغة الوجود القصوى’ بحسب عبارتها الذائعة الصيت، وهي لغة قلقة ومتوترة قلق الكائن البشري في مساءلته لذاته ولمنزلته في الوجود، والشاعرة لم تكف عن البحث عن اليقين سواء في روحانيات الشرق الاقصى، وفي تصوف الإنسان الباحث عن نمط اعلى في الوجود وفي المعرفة، وقبل ذلك وبعد، في حضرة الشعر الذي هوموطنها وسكناها .
لو جاز لنا المقارنة مع شاعر آخر مثل نزار قباني لقلنا ان شعرها يقع في الضفة الاخرى من شعر الشاعر الدمشقي الكبير، شعرها حامل ومنذ البدء لبصماتها الفريدة ويمثل ديوانها الاهم ‘الحدائق الهندسية’ الصادر سنة 1981 رؤية الشاعرة النهائية الى الشعر واللغة وهو قد صدر بعد عقد تقريبا من تلاشي جماعة الطليعة التي كانت مع آخرين من مؤسسيها وملهميها كما كانت منشقة عنها وعن نمط الكتابة التي اتت بها. وهذا ما جعل فضيلة الشابي عصية عن التصنيف، وتكاد تكون نسيج وحدها في الشعرية التونسية، وهذا التعالي عن الاخر الشعري قد وطن في شعرها حركة السفر والترحال بين التجارب وبين المعارف والفلسفات والفنون فكتابة الشعر لديها هو حقا فعل مغامرة في اللغة وفي الاشياء وفي المنزلة الانسانية، مصلما ان قراءة ابداعها هو ايضا فعل مغامرة في الفهم والتأويل اذ يبدوعالم الكتابة لديها ـ في البدء ـ شبيها بأحجية كبيرة وبمتاهة لا نهاية لها وبمحيط لا شاطئ له، ويغدو الغموض، ليس فحسب العنصر المهيمن في شعرها وانما للظاهرة الشعرية كما تراها هي، ولكن، بتوغل الشاعرة في كونها، وبتوغل القراءة في الكون ذاته، تتضح الرؤية ويخف الغموض مثلما تنكسر الصخرة الصماء امام قطرات الماء واذا نحن امام شاعرة لا تكتب القصيدة فحسب، وانما تنهض بمشروع في الشعر وبنظرية في الكتابة، وبرؤية جمالية ـ فلسفية في علاقة الكائن البشري بغيره من الكائنات والموجودات، وبهذه الفرادة الرؤيؤية نحتت لنفسها منزلة في الشعر شبيهة بمنزلة سان جون بيرس في الشعر الفرنسي ومنزلة الشاعر محمد عفيفي مطر في الشعر المصري .
صادف ان التقيت بالشاعرة صحبة الباحث ماهر دربال صيف 2010 في سياق تحضير المقدمة لاعمالها. وقد امتد اللقاء لاكثر من ثلاث ساعات واذكر انني سألتها عن اقرب الفنون الى نفسها فأجابتني بانه فن النحت، ثم اردفت قائلة واقرب العلوم الى نفسي علم الفلك، وتبدو كتابتها مثل النقوش على الحجر أو مثل النحت بالكلمات على الصخر ولديها ديوان عنونت قصائده ‘بأحفورات’، اما عن ولعها بعلم الفلك فيعود الى افتتانها بالاشياء من المتناهية في الصغر الى المتناهية في الكبر وهذا ما ولد في تقديرنا حرفية عالية في الصياغة والتعبير وفي دقة التعبير اللغوي المتناسب مع البنية الرياضية التي تحكم الشعر .
تبدوالاعمال الكاملة لفضيلة الشابي حاملة لاكثر من وجه في الابداع الذي لا يحده حدود لامراة اوقفت نفسها على الشعر ونذرت ذكاءها وفكرها من اجل ان تجترح لذاتها سبلا غير مسطورة في الشعر والادب. وللقارئ ممكنات تيسر له ولوج عالمها الابداعي، اولها الشعر الذي لم تكتب فيه نصوصا نظرية الا فيما ندر، ولكن قصائدها تنطق بفهمها الخاص للنص الشعري، منجزا كان او فكرا، كتابة او قراءة ومشافهة، وفي هذا المقام نذكر ان السيد النوري عبيد صاحب دار محمد علي للنشر قد احترم بدقة فائقة تزمين الدواوين التي لا تقل عن عشرين ديوانا كما انه التزم بالاخراج التشكيلي باعتباره وجها اعلاميا وبصريا ينضاف الى الوجوه الاخرى النحوية والايقاعية التي يختص بها شعر فضيلة الشابي .
لقد كانت طباعة هذه الاعمال تحديا كبيرا بالنظر الى سعة مؤلفات الشاعرة وتنوعها ما بين الشعر، والسرد، وادب الاطفال، والشعر الشعبى، بل هي مغامرة تحملها بصبر كبير السيد النوري عبيد الذي اخبرني ان الاعمال الكاملة قد وقعت مراجعتها سبعا وثماني مرات متتابعة حتى يكون الاصدار على الصورة التي تحلم بها الشاعرة. وفي هذا الصدد لا بد من الثناء على هذا الجهد الذي قامت به دار محمد علي الحامي والذي يخدم الثقافة التونسية والادب التونسي والذي رعته وزارة الشؤون الثقافية ووفرت له كل الاسباب المادية ليكون لائقا بتراث الشاعرة الكبيرة .
كل المجلدات الخمسة استجابت الى المعايير القصوى لجماليات الطباعة وفنونها، ولكن اذا ما طلب منا التوقف على مجلد منها بالذات فسيكون بالتاكيد ذلك المخصص لادب الطفل فهومبهر من جهات شتى، باخراجه الانيق، بصوره الملونة والتي وضعها بالتاكيد مختص بالغرافيك، برسوماته التي هي خطاب موجه لعقل الطفل وشعوره، وقد حرصت الدار على هذا التراسل ما بين ما هونصي، ادبي، وما بين ما هو صوري، تشكيلي، وكان تقديم هذا التراسل بهذه الجماليات التقنية معبرا عن هواجس الشاعرة في تاصيل الحاجة الجمالية لدى الطفل .
ان هذه المجلدات الخمسة تعد في الآن ذاته سفرا في ابداع الشاعرة وترحالا في ديمومتها الخاصة التي فاض فيها زمن الشعر عن زمن السرد وزمن ادب الطفل دون ان يحجبهما .فالشعر هو سكنى الشاعرة الاول فيما السرد والشعر الشعبي وادب الطفل محطات عبور، وقد كان لتقديم كل فرع من فروع الكتابة لدى فضيلة الشابي دور في ملامسة مفهوم الادب لديها ففي ادب الطفل يشير الباحث ماهر دربال الى ‘ان الكتابة لديها نابعة من رؤيتها لاطفال اليوم’ (المجلد الرابع ص.15) وفي تقديرها ‘فانهم يختلفون عن اطفال الماضي من حيث الاستعداد الذهني والنفسي والتربوي ما يجعلهم مؤهلين لفهم الواقع ‘ (المجلدالرابع ص.15) اما الباحث الجليدي العويني فقد اشار في مقدمته حول الشعر الشعبي الى ان الشاعرة مسكونة بـ ‘حنين الى زمن الطفولة الاولى’ (المجلد الثالث ص.7) ويستنتج ان ‘مرجعية فضيلة الشابي في الكتابة بقصيدة اللهجة بعيدة عن المدارس التقليدية لهذا الجنس ( المجلد الثالث ص.12 ) وه ويرى ان ‘اللهجة عند الشاعرة فناء للغة ا وحديقة من حدائقها’ ويخلص الى القول ‘فقد تواطأت لهجة الشابية الجريدية مع الادوات الشعرية التي اعتادت فضيلة الشابي استعمالها في قصائد الفصحى’ ( المجلد الثالث ص.15 (
من الكتابة بالفصحى والابداع فيها وادراك اسرارها التي تتأبى الا لنخبة من صناع الكلام، الى الكتابة بلهجة الجريد، يمتد الكون اللغوي والاجناسي للشاعرة الكبيرة فضيلة الشابي امتدادا لا يطاله حصر او يكاد، هي حجة في اللغة وحجة عليها، وقد كتب صاحب هذه السطور مرة ‘ ان النحو والنحاة يلعنان شعر فضيلة الشابي فقد اوتيت الشاعرة من الاقتدارات في اللغة وفي الشعر ما يجعل اللغة ذاتها موضوعا للشعرية .
اما السرد فقد حظي بدراسة مطولة من لدن الباحثة فاطمة الاخضر التي كانت من اول النقاد في تونس ممن عكفوا على دراسة اثار الشاعرة، وقد اشارت ‘الى ان الغموض، وهو وسيلة فنية تفتح ابواب التأويل غير المحدود، هوطابع فضيلة الشابي في جميع كتاباتها’ (المجلد الخامس ص.33). اما الكتابة السردية لديها فتنهض على الهواجس الانسانية الكبرى مثل العدل، والمحبة وقيم المساواة فيما يقوم اسلوب الكتابة على ‘اكواب شتى من السرد، اذ نجد السرد من النوع الواقعي والسرد من جنس الحكاية الخرافية ونجد السرد الممسرح ازاء السرد البوليسي’ (المجلد الخامس ص.51 ) وفي كل الاحوال نرى الشاعرة مسكونة بالهواجس الكبرى للمنزلة الانسانية ايا كان المتقبل لأدبها، رجلا فيلسوفا ا وطفلا عاشقا للعب، وتكمن قدرتها الفذة في ابلاغ رسالتها بالوسائل الحكيمة الممكنة .
بهذا الاصدار فان دار محمد على للنشر تصنع الحدث الثقافي والادبي وتضع امام الباحثين والقراء تراث الشاعرة وقد اخرجته في صورة رائعة. وهذا ليس بغريب على اهل هذه الدار خاصة وتعودوا على تقاليد الاصدار لعيون من الادب التونسي الحديث والمعاصر في تونس الكتاب، تونس المعرفة .
98230067
[email protected]