من حق القارئ أن يعرف منذ الوهلة الأولى أن موضوع التأثير الإسلامي في الكوميديا الإلهية لدانتي ليس وليد اليوم، وإن كانت هذه أول مرة يُعرض فيها بشكل وافٍ باللغة العربية. هذا ما يذكره صلاح فضل في الطبعة الجديدة من كتابه «تأثير الثقافة الإسلامية في الكوميديا الإلهية لدانتي»، الصادرة عن دار الربيع العربي للنشر والتوزيع في القاهرة.
يقول فضل إنه في أوائل القرن العشرين نبت في مخيلة عالِم إسباني ضليع، أمضى عمره في معايشة التراث العربي والذخائر الإسلامية، أن ما يحفل به هذا التراث من صور الآخرة وأدب المعراج، يكمن وراء أنضج وأقوى أثر أدبي أوروبي في العصور الوسطى، وهو ملحمة دانتي الخالدة، وقد عكف هذا العالم طيلة عشرين عامًا، يعالج مصادره ويبحث في طرائقه، حتى أخرج نظريته في هذا التأثير، نموذجًا منهجيًّا في الدراسات المقارنة المحكمة. غير أن هذا كان مفاجأة مذهلة لأبناء الثقافة الأوروبية، فعز عليهم أن يعترفوا بالديْن للثقافة العربية الإسلامية في رحلة عطائها الخصب. فضل يكتب هنا قائلًا إن أول مصدر عربي مبكر عرض لتأثير الثقافة الإسلامية في الكوميديا الإلهية عقب نشر الترجمة الإنكليزية لكتاب «أسين بالاثيوس» العالم الإسباني عام 1926 كان كتاب عبد اللطيف الطيباوي وقد صدر عام 1928 في القاهرة بعنوان «التصوف الإسلامي العربي: بحث في تطور الفكر العربي».
اقتباس وتأثر
كذلك يقول فضل إن الباحث نبّه إلى أن المستشرق الفرنسي بلوشيه كان أول من أشار إلى أصل الكوميديا الإسلامي والتمسه في التراث الفارسي، غير أنه عجز عن إثبات ذلك بالبرهان، حتى جاء أسين بلاثيوس بنظريته المنهجية المدعمة. وقد أخذ الطيباوي في شرح الملابسات التاريخية والثقافية التي ترشح وتعزز فكرة التأثير. أما آخر بحث جاد في هذا الموضوع، يقول فضل، فهو كتاب رجاء جبر الصادر عام 1977 بعنوان «رحلة الروح بين ابن سينا ودانتي».
يقول فضل، إذا كانت إسبانيا قد قامت بدور الوسيط في البث الحضاري قديمًا فإن علماءها في العصر الحديث، توفرت لهم الدوافع القومية والأدوات المنهجية للكشف عن مختلف مظاهر هذه الوساطة بكثير من الأناة والدقة والموضوعية.
ونقلاً عن الطيباوي يقول فضل إن دانتي كان معجبًا بالثقافة الإسلامية، وقد مكنته وسائل اتصال أوروبا بالإسلام من الاقتباس منها والتأثر بها. وفي معرض حديثه عن مشكلة الأدب المقارن يقول فضل إنه عند الإطلال على ميدان الأدب المقارن اليوم، يبدو للباحث أنه يمر بأزمة دقيقة نتيجة لتطور مناهج البحث واختلاف مدارسه من ناحية، ولنمو نظرية الأدب وتفرع مفاهيمها من ناحية أخرى. وحين يقوم فضل بتعريف الأدب المقارن يقول إنه هو العلم المنهجي الذي ينشد دراسة روابط التشابه والقرابة والتأثير بين الأدب ومظاهر المعرفة الإنسانية الأخرى، أو بين النصوص الأدبية نفسها. وبعد حديثه عن التحفظات في الأدب المقارن، يقول فضل إننا أحوج ما نكون إلى التذرع بهذه الروح، خاصة في موضوع مثل تأثير الثقافة الإسلامية في واحدة من قمم الإبداع الأدبي الأوروبي في العصور الوسطى، لما يثيره عادة من حماس قد يؤدي إلى المبالغة التي تحجب الرؤية السليمة أو التمادي في نزعة الفخر القومي، بدون محاولة للفهم المتأني لقيمة العناصر بجوار البناء الكلي الشامخ.
التأثير والتقليد
ومتحدثًا عن الفرق بين التأثير والتقليد، يذكر فضل أن بعض الباحثين يقولون إن الشعوب لا تثرى على أساس القروض الشكلية، وإنما اعتمادًا على استصفاء المبادئ التي تجدد حياتها الفكرية وامتصاصها بروية وتمهل، وعندما يحدث تماس بين حضارتين مختلفتين، ويبتل ريق شعب بحلاوة الآخر، فإن المزيج الذي يتكون منهما لا يدانيه شيء في قوته المخصبة الخلاقة، لكن الأمر حين يقتصر على مجرد التقليد فإنه لا ينبت من ذلك سوى الأزهار الصناعية المفتعلة. وعن تأثير دانتي في الآداب الأوروبية، يقول فضل إن كبار النقاد يرون أنه يمكن أن يقتصر على مواقع محددة ومشاهد معينة يتسنى للباحث أن يشير إليها قائلًا: «هاكم ما استفاده الأدباء منه»، كما أنه لا يتصل بطبيعة تفكيره وآرائه وفلسفته وأبنيته الدينية التي تقوم على الكوميديا الإلهية، بل إن تأثيره الأدبي الحقيقي يمكن التماسه في جوانب شتى. وبعد ذكره لجوانب تأثير دانتي على كبار شعراء الغرب، يقول فضل إن تحليل ما يدين به بدوره لثقافتنا العربية والإسلامية يكشف عن مدى اتصال التراث الإنساني وتشابك علائقه، ويدفعنا إلى أن نكون أكثر حرية في الأخذ من هذا التراث اليوم، بدون أدنى حساسية، كما يدفعنا إلى مراجعة فهمنا لطبيعة الأصالة التي لا يمكن أن تعني العزلة السطحية وإدارة الظهر للإنجازات الإنسانية، بل تعني أن نأخذ بقدر ما نطيق الهضم والتمثيل والاستيعاب والإبداع.
إشارات متناثرة
في السياق ذاته يقول فضل، إذا كانت إسبانيا قد قامت بدور الوسيط في البث الحضاري قديمًا فإن علماءها في العصر الحديث، توفرت لهم الدوافع القومية والأدوات المنهجية للكشف عن مختلف مظاهر هذه الوساطة بكثير من الأناة والدقة والموضوعية، وكان أنجح نموذج لهذا هو موضوع التأثير الإسلامي في دانتي الذي استقطب من اهتمام الدارسين في الغرب أكثر من أي موضوع مقارن آخر، بينما نكاد لا نعرف عنه هنا، في موطنه الأصلي سوى إشارات متناثرة. هنا أيضًا يتحدث صلاح فضل عن مرحلة العطاء العربي، وعن منابع الثقافة المؤثرة، وعن كيمياء السعادة لابن عربي وملامح الاتفاق مع دانتي. نحن هنا أمام كتاب مهم، يستحق أن يُقرأ بكل تأنٍّ وروية وتأمل، للوصول إلى أكبر قدر من الاستفادة منه فكريًّا وثقافيًّا في آن.
٭ كاتب مصري