ارتبطت ولادة الحركة الشيوعية في السودان بثلاثة عوامل، تنوعت بين الفرصة والتحديات، فأما الفرصة فكانت الظرف التاريخي بداية بالربع الثاني من القرن العشرين، حيث كانت أغلب شعوب المنطقة ترزح تحت استعمار متطاول، عمل على كسر ذلك الارتباط بين الحياة الدنيا والعقيدة الدينية، فكان لا يتدخل في الشؤون الدينية طالما كانت تقتصر على الزواج والطلاق والعبادة المحضة، لكنه لا يسمح بالتداخل بين الهوية الإسلامية وقضايا الحكم والإدارة.
بعد عقود من هذه التربية الاستعمارية، تحول الفصل من مستوى القوانين والتشريعات، إلى فصل على مستوى الأذهان، فكان حتى المتدينون لا يرون ارتباطاً بين إيمانهم وقضايا حياتهم اليومية، بل كان الأمر في حالة بلاد السودان ذات الهوى الصوفي، يمضي لأكثر من ذلك، حيث كان يصعب على أولئك المتصوفة أن يربطوا بين التدين ومكافحة الاستعمار مثلاً، فالأول بنظرهم عمل يشغل الباحثين عن الخلاص الفردي، أما الثاني فهو اجتهاد منحصر في السياسيين، ولكل طريقه وخطه الذي قد لا يلتقي مع الآخر.
هذا العامل/الفرصة كان له أثر كبير في تزايد عدد المنتمين للفكر الشيوعي من المثقفين، الذين سلكوا منذ البداية خطاً علمياً دنيوياً، فلم يكن من الصعب أن يتبنى أولئك العقيدة الماركسية، التي تسعى لإيجاد تفسير للوجود طالما أنهم كانوا لا يملكون ما يعارضها.
العامل الثاني كان سلبياً وهو الصفوية، التي تميز بها خطاب الشيوعيين، فقد كانت خطاباتهم فوقية، ولغتهم نخبوية، مع أن المشروع الماركسي كان موجهاً في الأصل إلى العمال والطبقات البسيطة. هذا العامل الذي لم يكترث له الشيوعيون الأوائل، سوف تظهر قيمته بظهور أحزاب منافسة قادرة على التقرب إلى عامة الشعب، بلغته وهي تخاطب فيه ما لا يستطيع رفضه: عقيدته الدينية.
لم يتبق من المشروع الماركسي السوداني إلا بعض القصائد العامية والخطاب الحاد المهووس بمحاربة المظاهر والتيارات الإسلامية
العامل أو التحدي الثالث كان مرتبطاً بما سبق، وهو تنامي الصحوة الإسلامية، وظهور حركات وجماعات ترفض ذلك الفصل بين الدين وقضايا السياسة والتنظيم الاجتماعي. تمثّل التحدي في أن أصحاب هذه المدرسة لم يكونوا من الجهلاء أو العامة، ولكنهم كانوا أيضاً من المثقفين والنخبة، التي اطلعت على الحضارة الغربية، كما اطلعت على أصول ومدارس الفلسفة الشيوعية، وما كتب حولها من نقد أهمه، أنها فكرة إلحادية ذات تصورات لا تنحصر فقط، كما كان يروّج أصحابها، في إطار التنظير الاقتصادي والشراكة المجتمعية.
كانت خيبة الأمل كبيرة في منتصف الأربعينات مع الانطلاقة الرسمية للحزب، فعلى عكس ما توقع المتحمسون، لم تجلب خيمة الحزب الشيوعي غالبية المثقفين، والذي حدث أن معظم الأسماء التي آثرت دخول المعترك السياسي، فضلت الانضواء تحت مظلة إحدى الطائفتين التقليديتين: المهدية والختمية. توزُّع ولاء العناصر الطليعية بين الطائفتين الدينيتين، جعل الشيوعيين يوجهون سهام نقدهم للبيوت التقليدية، التي لم تحتفظ فقط بأتباعها محدودي الثقافة، ولكنها أيضاً تمددت لتكسب أراضي مهمة على صعيد الخريجين. كانت المعركة ضد عائلتي «المهدي» و»الميرغني» تمثل تطبيقاً جيداً للفلسفة الماركسية، سواء بالحديث عن هذه الأسر كعوائل «اقطاعية» أو بشرح مفهوم الدين/الأفيون من خلالها، عن طريق تشبيه الملايين من الموالين بالمخدّرين الذين يسمحون لتجار العقيدة باستعبادهم. هذه الدعاية التي كانت تصف البيوت الدينية بالرجعية، لم تحقق الكثير من النجاح على الصعيد الشعبي، لا على مستوى تغيير قناعة أولئك الموالين، ولا على مستوى كسب أعداد كبيرة من المتحمسين للفكر الذي بدأ يرتبط في الأذهان بالكفر. شكل استمرار الحركة الشيوعية في هذا المناخ تحدياً. في عام 1965 بدا وكأن الجماهير استغلت حادثة إساءة أحد الشيوعيين لمقام النبوة، من أجل الدعوة لحل الحزب وطرد نوابه من البرلمان. كانت تلك حادثة مهمة في تاريخ الحزب، وقادت لتغيير كثير من قناعات أصحابه، بإمكانية قبول أهل السودان بالشيوعية، حتى في ظل انتشار الوعي والتعليم، كما قادت للانتباه إلى أن الخطر الداهم ليس بيوتات الدروشة الصوفية، وإنما ذلك الحراك الإسلامي المنافس، الذي يقارعهم الحجة، ويستشهد بكتب ماركس ولينين لتفنيدها، ولبيان صعوبة الجمع بينها وبين العقيدة الإسلامية.
كان من نتائج كل ذلك أيضاً التفكير في الانقلاب كطريق مختصر لتحقيق الحلم الشيوعي. هذه النتيجة أدت للوقوف خلف انقلاب النميري، الذي رغم أنه بدأ فترة حكمه متأثراً بالأدبيات اليسارية، إلا أنه لم يكن مرضيا تماماً للأجنحة الراديكالية الشيوعية. هذه الأجنحة قامت في عام1971 بمغامرة انقلاب كارثية ودموية، لم توصلها للحكم إلا لحوالي الثلاثة أيام، قبل أن يعود النميري مرة أخرى منتقماً من الشيوعيين انتقاماً كان الأقسى في تاريخهم. مشكلة الشيوعيين السودانيين كانت، وما تزال، هي التعجل، فربما لو كانوا اكتفوا بما حققوه من خلال النميري، لكان وضعهم الآن مختلفاً، بل ربما لو كانوا نفذوا انقلابهم عليه، من دون شعارات مستنكرة من قبل عامة الشعب من قبيل «الخرطوم ليست مكة» ومن دون الإعلان عن هويتهم ونواياهم حيال دين الغالبية، لربما كانوا على الأقل سيحظون ببعض التعاطف والنجاح. أتاح سقوط الرئيس البشير فرصة جديدة للحزب الميت الذين وجد نفسه، وفي لحظة تاريخية نادرة، صاحب قرار سياسي، وما هي إلا أشهر منذ ذلك السقوط حتى توزعت الحقائب الوزارية والمناصب الدستورية والوظائف بين الشيوعيين والشيوعيين السابقين، والأحزاب أو التكتلات المتحالفة مع الشيوعيين، ورغم تحذيرات المتابعين بعد ظهور «تجمع المهنيين» وغيره من اللافتات بوجهها الشيوعي، إلا أن أغلب السودانيين تعامل مع هذه الحقيقة التي تتنافى مع مطلب الحكومة الانتقالية، التي تقودها كفاءات مستقلة، ببرود، بل انساق كثيرون بسهولة خلف حملات التشكيك والتخوين الممنهجة، التي طالت ناشطين معترضين على طريق المحاصصات الحزبية، الذي بدأت تسلكه الثورة، والذي حوّل شخصاً مثل القيادي الشيوعي صديق يوسف من مجرد أبٍ روحي لحزبه الصغير، إلى مرشد للحكومة، مساهماً في كتابة وثيقتها الدستورية «المحايدة دينياً» ومترئساً أو مشاركاً في أهم اللجان السياسية، بما فيها المعنية بإبدال وإحلال كبار موظفي الدولة. ربما كان حسن الظن، واعتبار أن اليسار هو المقابل الموضوعي لتجربة «الإسلاميين» التي كانت توصف بالفشل، وراء تمرير ذلك الاختطاف. توقع الناس أن تنتهج الحكومة الجديدة سياسات مغايرة لسياسة حزب البشير، الذي كان ينوي الانتقال التدريجي لليبرالية الاقتصادية، كما توقعوا حلولاً اجتماعية سريعة وتضامناً مع الطبقات الدنيا. كانت الصدمة كبيرة حينما توسعت الحكومة في سياسات رفع الدعم وفي الانحياز إلى الغرب ولمؤسساته المالية، ووصفاته القاسية، التي تضمنت ما لم يكن بالحسبان، كالرضوخ التام لبعض المحاور، وكالتساهل في موضوع التطبيع وغيره، وحتى حينما أتيحت الفرصة للحزب للإدلاء بدلوه، إبان المؤتمر الاقتصادي التشاوري، فإن أحداً من ممثليه لم يبد جاداً في طرح رؤية اقتصادية اشتراكية.
مع ازدياد ثقل التناقضات، لم يملك الشيوعي إلا إعلان خروجه من التحالف الحاكم، لكن هذا الخروج، للمفارقة، لم يكن يعني سحب المنتمين إليه، أو الذين دفع بهم إلى دوائر المسؤولية الحكومية.
يعترف قليلون بأن الحزب يعاني من تكلس وجمود، والحقيقة هي أنه لم يتبق من المشروع الماركسي السوداني إلا بعض القصائد العامية والخطاب الحاد المهووس بمحاربة المظاهر والتيارات الإسلامية، ينسحب هذا الفقر حتى على مبادرات التحرر الجنسي والأخلاقي المتأثرة بالهندسة الاجتماعية الغربية.
كاتب سوداني
اثبتت التجارب الكارثية للفكر العلماني ان الماركسية والستالينية هي مجرد يوتوبيا مثالية احدثت مئات البلايين من الخسائر الاقتصادية ومئات الملايين من الضحايا البشرية في الكتلة الاشتراكية وفي اعداؤها على صورة غياب للكفاءة والعدالة الاقتصادية وعلى شكل حروب باردة وحامية وفتن داخلية. انها مراهقة سياسية وعقلية لكن بتبعات انسانية ضخمة على البشر والقيم والاسرة والاقتصاد والمجتمع والبشرية.
للأسف ابناء ماركس وكانهم في فترة فك تسجيلات .. انضموا للعم سام .. لهذا لم يتبق شيء من الافكار هذه .