هذا المقال مُهدى إلى روح المناضل والمثقف السياسي الصادق هَجْرَس الذي غادرنا مطلع شهر نوفمبر الماضي في فرنسا، حيث قضى بقية سنوات عمره، عن عمر ينيف على التسعين سنة، والمقال لا يسرد مساره النضالي زمن الاستعمار ولا بعده، كما لا يحاول أن يذَكّر بمصيره، على ما انتهت إليه تجربة تاريخ اليسار في الجزائر، سواء زمن الحزب الشيوعي الجزائري قبل الاستقلال، أو حزب الطليعة الاشتراكية بعد الاستقلال.
والغالب في هذا المقال أنه يريد أن يقف على مسألة مهمة إلى حد ما، حسب زاوية النظر ودرجة الاهتمام، مثل ما وردت في كتابه الأخير «1949 أزمة بربرية أم أزمة ديمقراطية؟». والكتاب، كما أراده صاحبه هو الجزء الثاني من مذكراته، التي جاء جزؤها الأول تحت عنوان: «عندما تستيقظ أمة» الصادر عام 2015 الذي نوّه فيه بالدور العظيم الذي تجشمه المصلح الكبير عبد الحميد بن باديس في تربية وترقية المجتمع الجزائري، خاصة على صعيد بلورة مقومات الأمة، التي كثيرا ما كان يبحث عنها الصادق هجرس كأفضل سبيل إلى استحقاق الاستقلال وبناء الدولة. فقد كان يدرك بوعيه الكامل المكشوف منه والمستور، أن الحركة التقدمية أو اليسارية أو الشيوعية تنطوي على عجز ونقص في أصلها، ولا يمكن أن تكون إلا بالمزاوجة بين الحركة الوطنية والحركة الإصلاحية.
الصادق هجرس مناضل سياسي ومثقف إنساني وطليعة الرجال الذين حفلت بهم الحركة الوطنية الجزائرية، بمدلولها الواسع سعة الإنسان الأهلي، وجغرافية الجزائر. النضال السياسي كما دلت عليه تجربته التاريخية يعني من جملة ما يعنى الالتزام والانخراط وتحمّل المسؤولية وتبعاتها. وكونه مثقفا إنسانيا فلأنه تعلم في المدرسة الفرنسية، وواصل تعليمه العالي في اختصاص الطب العام، الذي لم يكن بعيدا في ذلك السياق عن السياسي، لأن وعاء النضال موجود لمن يرغب في الالتزام بتحرير الوطن واستقلاله ونقصد «جمعية الطلبة المسلمين لشمال افريقيا» في فرنسا. ما يظهره الجزء الثاني من مذكرات الصادق هجرس، أنه ثالث ثلاثة الذين صاغوا أهم وثيقة تناولت حقيقة «الأمة الجزائرية»، تاريخها والحركة الوطنية ومسارها، في كراس صدر عام 1948 تحت عنوان «تحيا الجزائر» باسم مستعار «إدير الوطني»، فقد صاغه مع زميلين له في حزب الشعب الجزائري وهما يحيى حنين، ومبروك بن الحسين بطلب من المناضل عمّار ولد حمودة. والوثيقة ذاتها أعادت نشرها دار «تافت ـ الجزائر» عام 2015، مع إفاضة مغرضة للعنوان «1949، وطنيون يردون على مصالي الحاج»، ونقصد أن العنوان جرى التصرف فيه من وحي المماحكات والسجالات والمهاترات السياسية، التي جاءت لاحقا ولم تكن من أصل الواقعة. والمقصود هو الوثيقة المهمة جدّا «نداء إلى الأمم المتحدة» التي توجه بها مصالي الحاج إلى الهيئة الأممية أواخر عام 1948، باعتباره رئيس حزب الشعب الجزائري، والرئيس الشرفي لحركة انتصار الحريات الديمقراطية، يؤكد على عراقة الشعب الجزائري مع تاريخه، ومقومات أمته، وقدرته على تقرير مصيره وبناء دولته وفق التوجه الجديد في العلاقات الدولية لما بعد الحرب العالمية الثانية.
الصادق هجرس، ثالث ثلاثة صاغوا أهم وثيقة تناولت حقيقة «الأمة الجزائرية»، تاريخها والحركة الوطنية ومسارها، في كراس تحت عنوان «تحيا الجزائر»
« تحيا الجزائر» وثيقة من جملة وثائق عجَّلت بها تداعيات الحرب العالمية الثانية نحو الاستقلال والتحرر وبناء الدول/ الأمم، على ما تقتضي هيئة الأمم المتحدة التي صارت المرجع العالمي لتصفية الاستعمار وتبرير عدم شرعيته. وقد احتوت على النقاط التالية: تمهيد، أهدافنا – القسم الأول، أسس عملنا: الأمة الجزائرية – الواقعة الكولونيالية – الفرق بين الأمة الجزائرية والاستعمار الفرنسي.
القسم الثاني، المبادئ الموَجِّهة لعملنا: الوطنية – الثورية – الديمقراطية، واليوم وبعد صدور كتاب الصادق هجرس «1949، أزمة بربرية أم أزمة ديمقراطية ؟»، الجواب عنده لاحقا أنها أزمة ديمقراطية محضة لجملة من الاعتبارات التي حفت الواقعة السياسية وما تلاها بعد ذلك، على ما نذكر في النقاط التالية:
ـ وثيقة «تحيا الجزائر أو «الجزائر ستعيش» هي رد أيديولوجي سياسي وسياقي على ما جاء في البيان، أو النداء المهم جدّا الذي تقدم به زعيم حزب الشعب مصالي الحاج إلى الأمم المتحدة، يؤكد فيه على تاريخ عريق للأمة الجزائرية مع مقوماتها وملامحها واحتمالاتها، على ما جاء في ميثاق الأمم المتحدة ولحظة تأهب شعوب العالم وأممه إلى تقرير مصيرها.
ـ بداية الحديث عن مقومات الأمة الجزائرية كبلد عربي وإسلامي مع محاولة التفصيل والشرح، خاصة بداية صدور صحيفة جديدة لحزب الشعب تحت عنوان «المغرب العربي»، رسخّ إلى حد كبير التوجه العربي والإسلامي للأمة الجزائرية المعيار الحاسم لتقديم الدليل على استحقاق الجزائر لاستقلالها.
ـ وثيقة «تحيا الجزائر الحرة»، وثيقة تعكس إلى حد كبير فقرا فادحا في الحديث عن التراث العربي والإسلامي، كأفضل قاسم مشترك واضح يؤكد ويبرهن صراحة عن حقيقة أمة قادرة بفعل مقوماتها الواقعية على استحقاق الاستقلال والتحرير من براثن الاستعمار. فصياغة الوثيقة عن حقيقة الأمة الجزائرية لا تكاد تظهر، إلا إشارة طفيفة جدّا على ما تَعَوَّد عليه اليسار الفرنسي في صياغته لمطالب الشعب الجزائري حيال الاستعمار، أي أن الغالب في صياغة المطالب وبلورتها يتم على خلفية هاجس مناهضة الاستعمار والكفاح السياسي والاجتماعي ضد الرأسمالية ومعاداة الإمبريالية والمتعاونين معها.
ـ التساؤل الذي وضعه الكاتب في عنوان كتابه: «أزمة 1949 هل هي بربرية أم أزمة ديمقراطية» الجواب التاريخي هو، أنها أزمة ديمقراطية لأنه سرعان ما دخل أكبر حزب شعبوي في ذلك الوقت في أزمة قوامها، شرخ خطير دك حصنه في عنوانه الجديد: حركة انتصار الحريات الديمقراطية، أي أن الديمقراطية انهارت في مهدها وقبل أن يفتح النقاش الجاد حولها وحول الحزب، أصوله ومصيره وعلاقته بالآخرين من الوطن ذاته. والمنعطف الخطير الذي عجّل بالثورة وقاد إليها هو أزمة 1953 إلى غاية صيف 1954 وتأسيس «اللجنة الثورية للوحدة والعمل».
وهكذا، على ما يمكن أن يُسْتَنتج من الفقرة السابقة أن الأزمة التي عرفت لاحقا بالأزمة البربرية، ما كان لها أن تظهر في غير مسار الحزب الشعبوي، الذي لم يحسم تفكيره عن وعي كبير بحقيقة الأمة الجزائرية، تاريخها ومصيرها ومقومات استحقاقها للاستقلال وبناء الدولة الوطنية. فخلاف ذلك لم تظهر أي نزعة جهوية أو طائفية، لا في الحركة الإصلاحية الدينية ونعني جمعية العلماء المسلمين الجزائيين، مع رصيدهم التاريخي والجغرافي من العالمين العربي والإسلامي، ولا في الحركة الإصلاحية السياسية على ما ناضل من أجلها حزب الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، خاصة أقطابه من المناضلين داخل مؤسسات الدولة وأجهزتها الفرنسية.
كاتب وأكاديمي جزائري
رحمه الله , و غفر لنا و له .
ولا حول ولا قوة الا بالله
وتبقى كذلك … إلى أن يتم التوافق بين الجزائريين على ديمقراطية جزائرية لا شرقية ولا غربية … نحن أمة يا قوم .
تغمده الله برحمته الواسعة، و ألهم ذويه الصبر و السلوان. لقد أثبت بتاريخه المُشرّف أنه في طليعة أعلام الجزائر وعيا و إخلاصا.
رحمه الله
شاهد عيان لفترة تاريخية اختلفت اتجاهات رياحها العاصفة. الحمد لله أن الأمة الجزائرية وقفت ولا تزال بفضل رجالات جعلوا الجزائر فوق كل اعتبار.