أعاد ميخائيل فارشافسكي، أبرز وجوه «أقصى اليسار» في نصف القرن الأخير بإسرائيل، التشديد في مقابلة له مع جريدة «الأومانيتيه» اليسارية الفرنسية، على القسمة غير القابلة للتجسير، الآن أكثر من ذي مضى، بين مجتمعين. أحدهما الموجود في تل أبيب، والراغب بأن يدير الظهر للصراع الذي لا يبدو أن له من آخر مع الفلسطينيين، ويحتمي بفقاعته الأوروبية. والثاني يتشكّل من خليط اليهود الشرقيين «المزراحيم» والمتدينين «الحريديم» واليهود «الروس» سواء ضمن نطاق أراضي 1948 أو في مستوطنات الضفة.
هذا المجتمع الآخر الذي لا ينتسب إلا لماماً لمؤسسي الدولة «الأشكيناز – العمّاليين» منغمس بكليته في منطق الحرب والاضطهاد المستدامين ضد الفلسطينيين، ويتّسم في الوقت نفسه بالحنق على المجتمع المتأورب النزق في تل أبيب، سواء لأنه مقتنع بأنه يضحي أكثر منه من أجل إسرائيل اليوم، وينال منها الأقل، أو لأنه غير قادر على مجاراة الأشكيناز العلمانيين على مستوى الشرعية التاريخية المتنبتة سواء من كارثة المحرقة أو من المسار المفضي إلى قيام الدولة الصهيونية إبان حرب 1948.
ربما يكون فارشافسكي ذهب بعيداً في حديث القسمة بين «مجتمعين». وربما يكون الطيف الحاضر لهذه القسمة عنصراً أساسياً لفهم كيف وطّد اليمين التنقيحي، «حيروت – الليكود» هيمنته المزمنة على المؤسسة الحاكمة منذ انتخابات 1977 وإلى اليوم، بما أن الليكود هو صلة الوصل بين هذين المجتمعين «الكوزموبوليتي» و«الطرفي» إنما تحت قيادة الأشكيناز العلمانيين التوظيفيين للرمزيات التوراتية.
إنما الملفت في كلام فارشافسكي أنّ استعارة «الرجل الأبيض» التي ستعني من زاوية النظر العربية إسرائيل كمشروع، ورعاتها في الإمبراطورية الشمال – أطلسية، هي استعارة موجودة بشكل آخر ضمن المجتمع اليهودي نفسه في إسرائيل: فشتات المزراحيم والحريديم واليهود الروس» ينظرون إلى الأشكينازي العلماني على أنه «الرجل الأبيض» بالنسبة إليهم. وهذه النظرة لن تقلل البتة من عدائيتهم تجاه الفلسطينيين بل ستزيدها ضراوة. فإسرائيل الطرفية تستشعر نظرة فوقية إليها، على أنها «فلسطينية» أيضاً، من جانب الطبقة الوسطى العليا الأشكينازية العلمانية. بالنسبة لهذه الطبقة «التل-أبيبية» فإن مستوطني الضفة لا يختلفون في معاشهم كثيراً عن العرب، ويورطون إسرائيل فوق هذا بسلوكيات ثأرية من قبل السكان العرب. في المقابل، يحتاج المجتمع الطرفي لأن يثبت بأنه بات هو «أم الصبي». وبما أن لا ذاكرة محرقة يرثها، ولا ذاكرة حرب استقلال بمقدوره أن يضارع بها العلمانيين الأشكيناز، فهو يعكف أكثر على إحياء المروية التوراتية للصراع مع العمالقة والبلشتييم.
وفي الحصيلة، يتحول هذا الانقسام ضمن إسرائيل بين مجتمعيها «المدائني» و«الطرفي» إلى معمل حراري يُعيد إنتاج «النخبة البيضاء» الأشكينازية – العلمانية، سواء في العسكر أم في السياسة أم في الاقتصاد أم في الثقافة، بدلاً من أن يمتد الصدع بالمجتمع ليصبح على نحو مؤثر ومزمن تصدّعاً على مستوى النظام السياسي وجهاز الدولة.
السؤال يطرح نفسه حينها إذا كانت الحرب الحالية تندرج ضمن مواصلة هذا السياق، أو هي تنذر على العكس من ذلك بأن يتحول الشقاق بين مجتمعين داخل يهود إسرائيل إلى معطى ملتهب لن يعود من الميسّر التحكّم به والسيطرة عليه بالوسائط نفسها.
بشكل أو بآخر، أعطى كلام فارشافسكي للأومانيتيه هذا الانطباع، بأن التصدّع سيبرز الآن أكثر بين إسرائيل الكوزموبوليتية وبين إسرائيل الطرفية. بالتالي، ليس بديهياً الأخذ بالتحليل المعاكس، القائم على أن عمليات «حماس» في 7 أكتوبر ساهمت في «التوحيد الوجودي» ليهود إسرائيل في بوتقة واحدة، وعلى نحو غير مسبوق من قبل.
يتحول هذا الانقسام ضمن إسرائيل بين مجتمعيها «المدائني» و«الطرفي» إلى معمل حراري يُعيد إنتاج «النخبة البيضاء» الأشكينازية ـ العلمانية، سواء في العسكر أم في السياسة أم في الاقتصاد أم في الثقافة
ثمة تناقض ليس بمستطاع هذا التوحيد الوجودي مجاوزته. ليس فقط بين «مجتمعين» إنما أيضاً بين اقتضاءين: فمن جهة، اقتضاء محاسبة المتسببين من الجهة الإسرائيلية بغياب المعلومة وانعدام اليقظة وانتفاء الحيلة بإزاء هجمات «حماس» حين حصولها، إن لم يكن متاحاً الذهاب لأبعد والمساءلة حول السياسات الحكومية المتراكمة حيال قطاع غزة ودورها سواء في تصعيد الخطر الآتي من جهته، مع زيادة الرخاوة تجاه هذا الخطر. فأن يُفوِّض مجتمعٌ قيادةً سياسية وعسكرية لقيادة حرب كلّية، لها في جانب أساسي منها سمة التصادم مع «الإسلام – العالم» ككل وليس فقط مع حماس، دون أن يكون المجتمع نفسه على ثقة بهذه القيادة، بل على ثقة بانعدام أهليتها بالأحرى، فليست هذه بمعادلة مألوفة لمن يبحث عن نصر حاسم وثأر شافي. ولو بقي لصالحه ميزان القوى التكنو-عسكري، المدعوم من الملأ الإمبريالي – الغربي، وهذه نقطة أساسية ما عاد جائزاً المكابرة عليها، وإن لم تكن وحدها الفيصل في الميدان.
الصدع المجتمعي في إسرائيل لا يمكنه أن يتحول من تلقاء نفسه إلى صدع كياني. إنما في المقابل، فاتورة رأب أو إدارة الصدع المجتمعي هي التي تزيد، وهي مرشحة لأن تزيد اليوم أكثر.
لأجل ذلك، على سبيل المثال، فإن اتساع القناعة بأن نتنياهو «ظاهرة هرمة» لا يترافق مع نجاح جدي بتجاوز هذه الظاهرة. نتنياهو هو عنوان لرهان. رهان «السلام مع العرب الأبعدين، إنما من دون، وعلى حساب، الفلسطينيين، الأقربين». يعني عملياً الرهان على أن السلام مع العرب الأبعدين يُمكِّن إسرائيل من الإجهاز على الحقوق الأساسية للفلسطينيين.
مهما بلغ مستوى تفاوت هذا الرهان في إسرائيل اليوم، إلا أن ما من طرح مقابل داخلها يقف على طول الخط في مواجهته. ما من طرح مضاد قادر على إحداث استقطاب سياسي بينه وبين هذا الرهان المتهافت.
ما كان أخصام نتنياهو في العشرية الماضية إلا منافسين «تلطيفيين» للنموذج الذي يمثله هو. أما «معسكر السلام» في إسرائيل فهو أثر بعد عين. لا يعني هذا أنه لم يكن هناك ما يشبه هذا المعسكر من قبل.
في أواخر السبعينات من القرن الماضي كان هناك بالفعل «احتمال» لهذا المعسكر. نشأ هذا الاحتمال على اليسار، تحت تأثير التزامن بين منعطفتين. فمن جهة، فوز اليمين التنقيحي بقيادة مناحيم بغين لأول مرة بالانتخابات في مايو 1977. ثم بعد ذلك بأشهر قليلة حلول الرئيس المصري أنور السادات في القدس واعتلائه منبر الكنيست. أُنجز السلام مع مصر تحت قيادة اليمين. في المقابل نشأ معسكر السلام على اليسار في الفترة نفسها، غيرة من هذا اليمين في جانب، واقتناعاً بأن اليمين يريد، بالسلام مع مصر، الهروب من أي تسوية تخفف من ثقل الاحتلال المباشر للأراضي الفلسطينية على إسرائيل. مفارقة معسكر السلام أنه نشأ بالتقاطع بين ظاهرتين. الأولى، حركة «السلام الآن» الناشئة أساساً من حراك ضباط احتياط اعتبروا أنفسهم ورثة مدرسيين للسردية الرسمية حول حرب 1948، وبالتالي اعتبروا أن التزامهم الصهيوني ونظرتهم للصهيونية كحركة تحرر وطني توجب عليهم عدم الوجود في وضعية استعمار مباشر للأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. والظاهرة الثانية، هي «المؤرخون الجدد» وهؤلاء بدلاً من تطلب الانسحاب من المناطق الفلسطينية انطلاقا من حرصهم على المثل الصهيونية، وعلى السردية الرسمية التي تقدم حرب 1948 كحرب استقلال عن الاستعمار البريطاني والرجعية العربية المتعاونة معه، أعملوا تفكيكاً في هذه السردية، فخرج بينهم من يظهر أن بريطانيا كانت تقف بالمرصاد للحركة العربية في فلسطين أكثر، وأن الفلسطينيين خرجوا من ديارهم في «النكبة» بالتطهير الإثني، وليس تحت نوبة هلع.
الظاهرتان، «السلام الآن» و«المؤرخون الجدد» كانتا أشكينازيتين بالأساس (مع استثناء العراقي المولد آفي شلايم بين المؤرخين) وإن انطلقتا من منظارين مختلفين، الأول يتمسك بالصهيونية كحركة تحرر وطني، حسبه، ويريد منح الفلسطينيين ما لهم بشرط أن يثبتوا له أنهم هم أيضاً حركة تحرر وطني، وفقاً لمقصوده هو. والثاني يفكك سردية حركة التحرر الوطني الصهيونية هذا، ليقف بعد ذلك في منتصف الطريق، أو ليتوب مجدداً للسردية الأم، كما فعل المؤرخ بني موريس غداة الانتفاضة الثانية 2002، أو بالضد من ذلك، ليثابر في مساره التفكيكي للسردية المهيمنة ويتعرض جراء ذلك للمحاصرة والتخوين (طوم سيغيف) أو لوضعية النفي (ايلان بابيه).
إنما، منظوراً للمسار بالمجمل، يمكن التفكير بأن تولي اليسار المؤسسي، حزب العمل، عملية السلام لاحقاً، تكفل بالقضاء عملياً على هاتين الظاهرتين.
ومن ثم جاء تهميش حزب العمل نفسه، لنفسه وبنفسه، إذ لم يكن قادراً على الذهاب بعيداً في تبني حل الدولتين والمضي به، بل قامت كل «فلسفة أوسلو» على «تأجيل البت». كان «العمل» يطلب في كل مرة أن يتنازل الفلسطينيون له عن أمر، خشية أن تهزمه المزايدة الليكودية في عقر داره وتتعطل عملية السلام. ومن دون الأخذ بالحسبان أن المفاوض الفلسطيني عليه هو أيضاً أن يشق طريقه وسط متحفظين ومستائين ومتربصين، محليين كانوا أم إقليميين.
رغم كل هذا، كان هناك، في هذه الحدود، معسكر سلام وانتفى. مضت على ضموره عشرين عاماً، ولا معسكر سلام إسرائيلي جديد في الأفق. فإسرائيل «الكوزموبوليتية» تريد، لو استطاعت، أن تدير ظهرها للنزاع بين إسرائيل الطرفية وبين الفلسطينيين كأنه لا يعنيها. وإسرائيل الليكودية مقتنعة في المقابل بأن السلام الوحيد الممكن والمجدي هو السلام من دون الفلسطينيين.
كاتب من لبنان