احتضنت مدينة سطات التي تبعد عن الدار البيضاء حوالي ستين كلم شرقا، المعرض الوطني للصردي في دورته الثانية (21 ـ 24 آذار/مارس). تعذر عليّ الحضور لتقديم مداخلة حول ربط التراث الثقافي لمنطقة الشاوية بالتنمية، رغم رغبتي الأكيدة حضور هذا النوع من الفعاليات الثقافية التي باتت تفرض نفسها، معلنة عن تحول في التعامل مع البادية التي ظلت إلى أمد قريب مبعدة من أي اهتمام.
وحين يقام معرض حول الصردي فإن في ذلك اعترافا بثروة وطنية وما تمثله بالنسبة للإنسان ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا.
يعد الصردي أحسن وأجمل سلالات الشياه المغربية، التي تكثر في منطقة الشاوية، بل يذهب بعض المتحمسين إلى التأكيد على أنه أحسن السلالات على المستوى العالمي. يتميز الصردي بضخامته وعلوه وأناقته وجماله. ولذلك يعتبر الخروف النموذج للأضحية، كما تقدمها السنة النبوية. فهو كما ينعت: يأكل من سواد، وينظر في سواد، ويمشي على سواد، إشارة إلى اللون الذي يطبع عينيه وفمه وقوائمه. ولذلك يتم الإقدام على شرائه كثيرا في عيد الأضحى، وفي المناسبات، خاصة ممن لهم إمكانيات مادية بسبب غلائه بالقياس إلى غيره.
زارنا في اتحاد كتاب المغرب في الثمانينيات وفد من الكتاب السوفييت. وسألنا أحد الأعضاء: هل تشمون رائحة الشياه في إبداعاتكم الأدبية؟ تفاجأ الجميع بالسؤال لأن انشغالات الكتاب لا علاقة لها بالبادية وعوالمها. وحين سئل عن سبب السؤال، أجاب بأنه من مطار محمد الخامس إلى الرباط كان يرى على طول الطريق بين الفينة والأخرى قطعان الغنم، فتوهم أن حضوره الكثيف في الحياة لا يمكن إلا أن يتجلى في الإبداع. كنت وقتها أطرح مقولة «المغرب الثقافي» التي تصب في اتجاه تجسيد الروح المغربية وخصوصيتها في الكتابة والتشكيل والسينما، ليكون ذلك بمثابة القيمة المضافة التي يمكن أن يقدمها الفن والأدب المغربيان للثقافة العربية والإنسانية. وفي الوقت ذاته بدأت اللغة النقدية الجديدة تفرض نفسها. وكان على رأسها مصطلح «السرد». فكان التهكم على التجديد النظري وعليه بربطه بـ»الصردي»، ولم يكن يدور في خلدهم أن العلاقة بين الصردي والسردي قائمة فعلا في الوسط الفلاحي، الذي يمرح فيه الصردي من خلال الإبداع الشعبي الأصيل لأنه مرتبط بالحياة. فالصردي لقيمته الجمالية والاجتماعية، كان يحظى بحضور كثيف في الأغنية الشعبية، سواء في العيطة أو القصيدة الشعبية أو المثل، وكلها تتحقق بشكل أو بآخر، من خلال السرد، علاوة على الحكايات والأخبار الشعبية المتداولة حوله يوميا.
لقد صار الصردي دليلا على الجمال، حتى إن وصف العيون السوداء حين يكون المراد تقديمها على أنها الأجمل لا يتم إلا بتأكيد أنها «صردية».
يذهب الشاعر الشعبي إلى اعتبار الصردي أغلى قيمة من أي شيء، بل إنه يُفضّل حتى على الولد: «الحولي الصردي/ أعز من ولدي». وفي ذلك تعبير عن التعلق به إلى أقصى حد، ولذلك يكون التأسف على زواج بنت جميلة من القبيلة ورحيلها إلى قبيلة أخرى (ليساسفة) بتشبيه جمالها بالخروف: «مزوقة كالخروف/ داوها ليسوف». وفي كلمة «المزوقة» أبلغ تعبير عن الجمال المتكامل. في حين يأمل شاعر آخر ألا تكون المخدة التي يتوسدها إلا من صوف الغنم: «بغيت خديدية/ من الحولية»، ويكون ذلك كل مبتغاه الذي يحلم به. وينبه آخر صديقه داعيا إياه للذهاب إلى السوق لبيع خروفه الذي غدا سمينا، وشراء كل المستلزمات التي تخصه: «تسوّق الحسن/ الخروف أسمن».
من التعلق الشديد بالصردي إلى اعتباره موردا أساسيا للحياة مرورا بوصفه بالجمال، والرغبة في الحصول على صوفه ليكون مسندا، تبرز لنا خصوصية الصردي وقيمته الخاصة، وهناك حبات كثيرة من العيطة، تؤكد هذا الحضور المتعدد للخروف في الحياة اليومية الشعبية.
لقد صار الصردي دليلا على الجمال، حتى إن وصف العيون السوداء حين يكون المراد تقديمها على أنها الأجمل لا يتم إلا بتأكيد أنها «صردية». فيقال «العين الصردية»، تماما كما يوصف الخد بـ»الراوي» من الرواء، والحاجب بـ»الخروبي»، إشارة إلى شجرة الخروب، وكلها صفات مستقاة من البيئة الفلاحية. وفي قصيدة «الوشم الرقيق» التي يؤديها الفنان الشعبي أحمد ولد قدور، وهو من المنطقة، تستعير الغزالة جمال عينيها، وهي التي يضرب بها المثل، من الصردي فتصفهما بـ»العيون الصرادة». وفي قصيدة الزجال الشعبي الحاج محمد المذكوري المدعو قربال تلح الزوجة على طلب شراء الحولي الصردي مفضلة إياه على باقي سلالات الأغنام: «يكون وجهه صردي/ يركب عنه ولدي/ من الكعبة مكدي/ شحمته مطوية».
إن تتبع موقع الصردي في السرد الشعبي، سواء من خلال الحكايات، أو الأخبار، أو الأشعار المغناة يمكن أن يكون مبحثا خاصا. ويكشف لنا ذلك عن غنى التراث الشعبي الذي يقدم لنا عوالم نفتقدها في أدبنا الحديث. لقد ظل التمايز بين المدينة والبادية منذ الاستقلال سببا رئيسيا في تهميش البادية ثقافيا واقتصاديا. ولقد ساهم ذلك في جعلها مستثناة من التنمية، وإن ظلت قاعدة انتخابية لفرض الأمر الواقع من خلال اللعبة الديمقراطية. صار الحديث الآن عن ربط الأدب بالحياة وكأنه شيء جديد، في حين هو الأصل. وما الرغبة في شم الشياه في الإبداع سوى اختزال دقيق لتلك العلاقة.
٭ كاتب مغربي
سواء بالسين او الصاد فطعم المذاق لا يقاوم
–
الصردي في فن العيطة و الازجال احتل مكان
–
الغزال و المها في امهات القصائد
–
تحياتي