الصمت البراغماتي

لقد قرن اللسانيون والسيميائيون الصمت بالكلام أو بإنتاج المعنى، سواء أكان ذلك الإنتاج باللغة أم كان بغيره. وطرح الصمت في هذا السياق مقابلا للكلام والحق أن هذا التقابل ليس تقابلا عالما، بحكم أنه تقابل مبسط يؤمن به الناس العاديون من أزمان بعيدة وليس أدل عليه من كلامهم في الأمثال عن هذا التقابل بين كلام من فضة وصمت من ذهب.
ربما جعل التقابل بين الصمت والكلام بالنظر إلى حالتي السكون والحركة التي نجد فيها تقابلا ثنائيا بين السكون عن حركة الكلام (السكوت) والانخراط فيها (الكلام). الصمت سكون الحركة القولية عن أن تنتج ملفوظا أو جزءا من ملفوظ سكونا وقتيا أو آنيا. لهذا يعرف الكلام بأنه نطق بين صمتين، ويستعار للبياض الذي في الكتابة صورة الصمت في المنطوق. ليس من الاعتباطي في شيء أن السكون والسكوت كانا متجانسين في اللفظ. وليس اعتباطيا في شيء أن النحاة العرب قابلوا في النظام الصوتي بين الحركة والسكون، رغم أنه لا يوجد في الصوتيات شيء اسمه السكون، وإن كانت الكتابة تفرد له علامة صفر على الحرف، ففي المسألة توزع للمقاطع يجعل أحدها مقطعا منفتحا ينتهي بحركة، والثاني منغلقا ينتهي بحرف (وليس بسكون). وبهذا نعود إلى التقابل بين حرف حركة وليس بين سكون وحركة. السكون والحركة شيء طبيعي مسقط على هذا التصور لتقابل لا وجود له بين الحركة وعدمها وهو السكون.
الصمت في اللغة هو الذي يسمح لنا بأنْ نحدس بأن كلاما أو جزءا من الكلام انتهى وبدأ كلام أو جزء من الكلام جديد. وهذا التقابل في الحقيقة غير وجيه بين استرسال الكلام وتقطعه وليس بين الكلام في ذاته والصمت في ذاته. الصمت في السياق اللغوي ليس مقابلا للكلام أو التلفظ أو النطق، بل هو ضرب من مقابل دقيق لتدفق الكلام واسترساله ولوصوله في حالات التنغيم القصوى إلى أقصى درجاته.
للصمت بعد براغماتي كالذي للكلام، وهو الذي يعنينا في هذا المقال. ونحن سنسمي صمتا براغماتيا كل صمت قصير أو طويل استعمل في سياق تواصلي لغوي إشاري لإفادة شيء مخصوص، يفهم من المقام أو السياق بمقارنته بالكلام أو بغيره من وسائل التواصل العلامية. من الناحية السيميائية توجد فرضية تقول إن للصمت الفعل السيميائي نفسه الذي للعلامة، وحين تغيب العلامة يكون لغيابها دليل على وجود فراغ أو خلل في التوازن بين الفكر وحمالته اللغوية. هذا الضرب من التفسير يقتضي أن اللغة هي حالة ملء فراغ صامت، وأن دور اللغة أن تشغل أحياز صمت لم تكن اللغة تعرف كيف تستحوذ عليها. نحن نوافق على أن يكون للصمت فعل سيميائي يقبل التشفير والتفكيك، ولكننا لا نوافق أن يكون للصمت الفعل السيميائي نفسه الذي للكلام، بحكم أن كل نظام سيميائي يعمل بشكل مختلف وأن لاختلافه في العمل تأثير في اختلاف فعله وتأويله.
صحيح أنك يمكن أن تعاقبني بالصمت، ويمكن أن تعاقبني بالكلام. يمكن أن تجازيني بالصمت ويمكن أن تجازيني بالكلام، لكن وأنت تعاقبني بالكلام ستعاقبني بمحتوى دلالي فيه نسبة من المواضعة المتقاسمة بين اللغوي والبراغماتي، بين قوانين القول وقوانين الثقافة، لكنك وأنت تعاقبني بالصمت تكون قد عاقبتني بشيء له مفعول نفسي يختلف من شخص إلى آخر أكثر مما له قوانين ثقافية متواضع عليها سلفا. يضاف إلى ذلك أن حجم الصمت وقيمته العقابية أو الثوابية تكون بالنسبة إلى قيمة الكلام العقابية والثوابية؛ فمجال معاقبة الصمت يكون في السياق الذي يكون فيه الكلام منحة وهدية، ويكون الكلام أمرا مرغوبا فيه؛ ومجال مكافأة الصمت يكون في السياق الذي يكون فيه الكلام عقابا، فحين ينقطع أو يكف عنه يصحب الصمت مكافأة أو قل تعففا وترفعا من الأذية بالكلام.

أنت تصمت عقابا لمن جرحك بالكلام أنت لا تصمت انتقاما منه فقط؛ بل انتقاما كذلك من وسيلة الاجتماع، ومن رباط يجمعكما هو التواصل بالكلام. مزعج أن تقول صباح الخير فلا يرد التحية من قرر معاقبتك.

إن الصمت أنواع مختلفة، ويشغل في سياق التواصل بالعلامات وظائف متنوعة ويحمل دلالات مختلفة باختلاف السياق، أو النظام التواصلي الذي يكون فيه. مجموعة « صمت البحر» لكاتبها الفرنسي فاركور، وهو اسم مستعار لجان برولر؛ نشرت بشكل سري عام 1942 وهي تحمل عنوان أقصوصة مميزة فيها يعنينا فيها بيان دور الصمت البراغماتي.
تعود أحداث القصة إلى عام 1941 بعد سنة تقريبا من غزو جيوش هتلر باريس. وتبدأ أحداث القصة بقدوم ضابط ألماني شاب للإقامة عند سيد فرنسي وبنت أخيه (أو أخته)؛ وبالطبع لم يكن الضابط مرحبا به؛ غير أن ما خفف الأمر أن الضابط كان مهذبا يتكلم ولا ينتظر جوابا من صاحبي البيت؛ كان الصمت هو الشيء الثابت. لقد كان الصمت عقابا، ولكن الحديث أيضا كان عقابا. حديث الضابط الألماني وهو يصطلي حذو المدفأة في ليالي الشتاء، كان يصارع فيه البرد ولكنه كان يصارع أيضا جفاف الكلام ونضوب عين الحديث. معاقبة الضابط الألماني بالصمت يجعل من الصمت شكلا من أشكال المقاومة والاحتجاج على اغتصاب أماكننا ومشاركة بيوتنا، لكن الصمت لا يكتسب معناه في هذه القصة إلا عندما يتمتع السامع بقدراته العادية على السمع والكلام؛ غير أنه يمتنع عن الكلام. الصمت المناضل عنا ضد آخر يغتصب أشياءنا ثم يحدثنا عن مزايانا هو في أقصوصة فاركور مقابل للكلام المدافع عن غيرنا تجاهنا. لم يقل الشيخ لابنة اخته تعالي نصمت؛ بل كان صمتهما مواضعة. هناك دعوات منظمة إلى الصمت لكنها نادرة، ولكن الصمت قلما يخضه للمواضعة. وحده الكلام يحتاج المواضعة، ووحده الصمت قرار جريء أو جبان من أجل حبس الكلام. يمكن أن تصمت في وحدتك ويمكن أن تتكلم فيها؛ قيمة الصمت في عزلتك كقيمة الكلام فيها.
أنت تصمت عقابا لمن جرحك بالكلام أنت لا تصمت انتقاما منه فقط؛ بل انتقاما كذلك من وسيلة الاجتماع، ومن رباط يجمعكما هو التواصل بالكلام. مزعج أن تقول صباح الخير فلا يرد التحية من قرر معاقبتك. شيء جميل أن يتحدث الضابط الألماني عن جمال آداب الفرنسية وفنونها؛ ولكنه أمر قبيح أن يكون الضابط نفسه موجودا في المنزل من أجل معاقبة من أبدعوه. العقاب الحقيقي أن الشيخ كان يسمع المديح ويصمت فلا يشارك بالكلام تأكيدا أو نفيا. كان الضابط يجلس معهما ويشاركهما النار التي يصطلون عليها، ويحدثهم عن الفن والإبداع والجمال ولا يجيبان؛ وحين ينتهي الحديث يقول لهما: «أتمنى لكما ليلة سعيدة» فلا يردان. حين تمتد الأحداث يصبح الصمت من جانبيهما والحديث الأحادي من جانبه أمرا عاديا: يصبح ذلك عند القارئ كالمواضعة ويصبح عند الشخصيات كالوضع الراهن الذي يتطلب تعايشا: إنه تعايش بين عُملتين كل واحد يشتري بها ما يريد: الصمت عملة يشتري بها أهل البيت صمودهما، والكلام عملة يشتري بها الضابط حريته في سياق ارتهان النظام العسكري لها.
الحقيقة أن الشيخ والشابة كانا يستعملان نظاما سيميائيا يتخذ فيه الصمت شكلا دالا على الرفض، وردا على نظام سيميائي آخر هو الكلام. كان الغرض من الكلام قطع جليد العلاقة التي حلت على شعبين لأسباب ربما لم يصنعاها، بل صنعتها إرادة السياسيين، وكان الغرض من الصمت جعل الجليد أكثر إيلاما على ضابط سلبت قوميته حريته الفردية. باسم الوطن يعاقب الصمت سالبي الوطن، وباسم الإنسانية يريد الكلام أن يبعد غطرسة الجماعة. يصبح الصمت وطنا يناضل؛ ويصبح الكلام فردا مسلوب الإرادة يناضل من أجل استرجاع فرديته المسلوبة. والبحر الصامت هنا لا يسمع له هدير فهديره عميق.

٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    النفاق، أو الرياء، أو الصعود على أكتاف الصنم، ما دمت لا تستطيع تحطيمه، ليس فعل براغماتي،

    هو أول ردة فعل على عنوان (الصمت البراغماتي) من أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية، د توفيق قريرة، والأهم هو لماذا؟!

    الآلة، والحوار، وأخيراً، بعد كورونا العمل بل وحتى التجارة من خلالها،

    فرض أهمية لمعرفة، معنى الغش والفساد والإفساد بواسطة الآلة، حتى على الأقل، تحفظ الدولة، والشركة، والأسرة، والإنسان حقوقه، وأملاكه، واقتصاده بالمحصلة،

    أولويات الموظف شيء، وأولويات رجل الأعمال شيء آخر مختلف تماماً، في هذا الموضوع يا د ماجد أبو غزالة،

    فمثلاً، شوّه صورة أمه وأبوه، في المدرسة، حتى لا يعاقبه المُعلّم، على أي تقصير في عمل أي واجب في البيت

    http://www.youtube.com/shorts/YAtYcyb30pw

    هذا كان اعتراف الممثل الهندي، عن سر كيفية اجادته التمثيل، في رابط برنامج المحكمة،

    لأن طالما عقلية الإقتصاد أولاً، في جميع دول مجلس التعاون في الخليج العربي أو الفارسي،

  2. يقول S.S.Abdullah:

    فمن المنطقي والموضوعي النظام القضائي ليس مثل نظام دولة الكيان الصهيوني مع (رائد صلاح) وجمعيته، ما أن يخرج من السجن حتى يتم تلفيق قضية أخرى،

    من أجل دفعه للهجرة، كما هاجر أهل فلسطين بعد تأسيس دولة الحداثة القومية في عام 1947، أو هجرة أهل العراق وسوريا ومصر تحت قيادة دولة الحداثة القومية، أو بعد 2/8/1990 مع (البدون) في دول مجلس التعاون في الخليج العربي أو الفارسي،

    هو أول تعليق على عنوان (رجل أعمال فلسطيني: محكمة إماراتية أدانت وزيرا سعوديا لصالحي – (فيديو وتغريدات)) والأهم هو معرفة لماذا أصبحت دول مجلس التعاون في الخليج العربي أو الفارسي، صاحبة أكبر عشر صناديق سيادية في الاستثمار في عام 2020،

    وليس الكيان الصهيوني، الذي لم يصل حتى إلى الاكتفاء الذاتي، بل ما زالت ميزانية الدولة عالة على الدول الغربية، مثل ألمانيا أو أمريكا، سبحان الله.??
    ??????

  3. يقول بشير. من الصحراء الغربيه:

    شكراً، أستاذ توفيق. موضوع عميق المعاني والمضامين، يحتاج صفاء ذهن وصمتاً خلاقاً لفهمه. لك كل التحية.

  4. يقول صمت الحزم:

    تذكرت هذين البيتين لإبراهيم طوقان:
    قُلْ لمن عاب صمتَهُ،خُلِقَ الحزمُ أبكما
    وأخو الحزم لم تزل،يدُهُ تسْبِقُ الفما

إشترك في قائمتنا البريدية