“القدس العربي”: تعاني الصناعات الاستخراجية في العراق من الإهمال منذ سنوات الغزو الأمريكي الأولى إذ توقفت معظم تلك الصناعات، وبقي اعتماد العراق محصوراً بإنتاج النفط وبيعه الأمر الذي جعل العراق يعاني من هشاشة الاقتصاد وتعرضه للانهيار وجعله مثقلاً بالديون بسبب اقتراض العراق مليارات الدولارات من صندوق النقد الدولي أو من بعض الدول الغنية من أجل إسعاف اقتصاده ودعم ميزانياته السنوية التي تعاني من العجز الدائم.
العراق بلد زاخر بالثروات الطبيعية. فإلى جانب النفط هناك كثير من المعادن المهمة مثل الغاز والفوسفات، كما يحتوي على كميات كبيرة من الكبريت. وقد كان العراق من أكثر بلدان العالم تصديرا له غير أن هذا المورد الاقتصادي المهم أصبح نقمة على العراقيين خلال السنوات الأخيرة بعد تعرض مخازنه للاشتعال بين فترة وأخرى ما يتسبب في وفيات وحالات اختناق ودمار للمحاصيل الزراعية. كل هذا بسبب الإهمال الذي لحق بهذه الشركة الكبيرة وعدم الاهتمام بهذا المورد الاقتصادي المهم.
وتعتبر شركة كبريت المشراق من أهم وأبرز شركات الصناعات الاستخراجية ومن أقدمها حيث بدأ إنتاج الكبريت في أوائل السبعينيات من القرن الماضي. ويحدثنا حول هذه الشركة المهندس أحمد علي إذ يقول: “أنا من أوائل الذين عملوا في هذا المنجم الضخم مع شركة بولندية كانت وقعت عقد الاستثمار مع الحكومة العراقية آنذاك”. ولفت إلى أن العراق كان من أكثر دول العالم تصديرا للكبريت خلال فترة السبعينيات والثمانينيات ولكن الإنتاج انخفض بشكل كبير خلال فترة التسعينيات بسبب فرض العقوبات الاقتصادية على العراق. وذكر أنه على الرغم من العقوبات الاقتصادية كان العراق يصدر الكبريت إلى عدد من دول العالم، وكان يدر إيرادات مهمة إلى خزينة الدولة. ولكن الفترة التي عقبت الغزو الأمريكي تعرضت الصناعات الاستخراجية إلى الشلل ومن بينها شركة كبريت المشراق التي توقفت بشكل تام، وسرقت المصانع والآليات التابعة لها، وأصبحت مهجورة بشكل كامل، وبقي الموظفون يأتون صباحاً إلى أماكن عملهم يشربون الشاي ويغادرون ظهراً بدون أي عمل حقيقي.
سعد صالح مسؤول شعبة العلاقات في قسم الإعلام في الشركة العامة لكبريت المشراق قال لـ “القدس العربي”: تعتبر شركة كبريت المشراق من الشركات العملاقة التي كانت تجلب مردودات مالية كبيرة للعراق في الفترات السابقة فضلاً عن توفير رواتب الموظفين والعمال في الشركة ذاتياً. وأشار إلى أن الشركة تمر اليوم بأسوأ حالاتها نظراً للإهمال الذي طالها منذ سنوات الغزو الأمريكي الأولى للعراق، لافتاً إلى أن الشركة قامت ببيع بعض مخزونها من الكبريت عام 2006 بعد عجزها عن الاستخراج بسبب تعطل معامل الاستخراج والإنتاج فيها. وأضاف كان معدل التصدير حوالي 1000 طن يوميا ً، وأن سعر الطن يتجاوز الـ 400 دولار آنذاك وهذا ما يجعل مادة الكبريت من أهم المصادر الاقتصادية التي يجب أن تستغل استغلالاً صحيحاً. وأوضح أن موظفي الشركة اليوم يحصلون على رواتبهم من الحكومة، بينما لو كانت الشركة تعمل وتصدر منتوجاتها لكانت رواتب الموظفين تدفع من خلال الإيرادات إضافة إلى تشغيل آلاف العاطلين عن العمل.
عقبات أمام الاستثمار
في الوقت الذي تدعو فيه الحكومات إلى الاستثمار لاتزال الجهات التنفيذية تضع العقبات والعراقيل أمام المستثمرين حسب ما يقوله المستثمر أحمد اللهيبي الذي عبّر عن استعداده ومجموعة من المستثمرين عن رغبتهم بالاستثمار في الصناعات الاستخراجية مثل النفط والغاز والفوسفات والكبريت. وكانت جميع المحاولات باءت بالفشل عازياً السبب إلى عدم إتاحة فرص الاستثمار أمامهم، بل تعرضهم إلى حالات الابتزاز التي يتعرضون لها من قبل المافيات المتنفذة في المكاتب والوزارات إضافة إلى الروتين المعمول به في دوائر الدولة واضطرارهم لصرف آلاف الدولارات مقابل الحصول على كل توقيع أو موافقة. وأضاف أن أغلب المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال غدوا يستثمرون أموالهم في كردستان أو خارج العراق حفاظاً على أموالهم، ولسهولة الإجراءات المتبعة مع المستثمرين هناك.
دول وراء عدم النهوض بالصناعات
يقول الباحث في الشأن العراقي الدكتور عمر عبد الستار لـ “القدس العربي” إن إيران وبعض الدول عملت على أن يكون العراق رئتها الاقتصادية التابعة لها، وهذا لا يتحقق إلا في عراق ضعيف اقتصاديا. فالعراق القوي اقتصاديا سيكون منافسا لها. وأوضح أن تعطيل صناعات العراق يندرج ضمن هذا الهدف ليكون سوق العراق سوقا لإيران كما أن سوق العراق السياسي والعسكري سوقها أيضا.
وعن أسباب توقف الصناعات الاستخراجية أجاب قائلاً: أعتقد أن ذلك يعود لعدم وجود فلسفة اقتصادية لحكومات عراق ما بعد 2003 وهروب راس المال في ظل الفوضى الأمنية، وفساد وابتزاز الميليشيات وتوقف المنشآت الصناعية وتعرض الكثير منها إلى الحرق والسلب. وأشار إلى أنه لا يُسمح للعراق بإنتاج الغاز والكبريت لأن إيران تبيع الغاز لنا وتصدر الكبريت إلى باقي دول العالم وبهذا يكون العراق خارج المنافسة.
الإيرادات المالية
يقول الباحث الاقتصادي عبد الرحمن محمد إن الثروات الطبيعية الموجودة في العراق لا تقل أهميتها عن النفط لو استغلت استغلالاً صحيحاً، مبيناً أن الغاز والكبريت والفوسفات وغيرها معادن لا يمكن الاستغناء عنها وتدخل في كثير من الصناعات الحديثة لذلك تعتبر مورداً اقتصادياً مهماً للدولة المنتجة والمصدرة لها. وأضاف أن آخر ما تم تصديره من الكبريت كان في عام 2006 أي بعد الغزو الأمريكي بثلاثة أعوام في إطار اتفاقية سابقة بين العراق وبعض الدول المستهلكة. وأوضح أن العراق كان يصدر يومياً حوالي 1000 طن، وكان سعر الطن أكثر من 400 دولار مشيرا إلى أن هذه الواردات تكفي لتغطية نفقات وزارة الصناعة بالكامل مع وجود فائض في ميزانية الوزارة. ولفت إلى إمكانية زيادة الإنتاج إلى أكثر من 5 آلاف طن يوميا وهذا يكفي لسد العجز الحاصل في ميزانية الدولة السنوية. وتابع أن حكومات ما بعد الاحتلال لم تعتمد إلا على النفط وهذا من أكبر الأخطاء التي وقعت بها تلك الحكومات وجعلت العراق يغرق بالديون الخارجية.
وقال إن من المحتمل خلال العشرة أعوام المقبلة لن تبقى أسعار النفط على حالها إذ سوف تشهد انخفاضاً كبيراً فالدول المستهلكة للنفط أصبحت تعتمد بشكل كبير على الطاقة المتجددة وهذا يجعلها تخفض استيرادها من النفط الأمر الذي سيؤدي إلى انخفاض أسعاره إلى مستويات قياسية، وستكون الدول المصدرة التي تعتمد بشكل كامل على واردات النفط في مأزق اقتصادي كبير وسيكون العراق من أول الدول المفلسة. لذلك على الحكومات أن تعي خطورة الأوضاع وأن تستثمر ما لديها من ثروات تكون مساندة للنفط، لافتاً إلى أن العراق خسر مليارات الدولارات بسبب توقف تلك الصناعات خلال العقد الأخير، إضافة إلى مليارات الدولارات التي يخسرها العراق سنويا جراء شرائه الغاز وعدم استثماره للغاز الموجود في أرضه.