يُقدِّم النقد المزدوج نفسه بما هو نقد، كاستراتيجية بديلة عن كل نمط تفكير تراثي يسعى إلى طمس الوجود والكيان العربيين في أساس لاهوتي، وعن نمط آخر عقلاني يضع العِلم كعقلانية ديكارتية، في مركز المجتمع متجاهلاً مسألة اللّاوعي، وعن كل تفكير سلفي يرمي إلى نزعة توفيقية، أصبحت متجاوزة بين الدين والعِلم، تماماً كما يقدم ذاته بعيداً عن أيّ نزعة تاريخية مادية كانت أم مثالية، من شأنها أن تُرجع كل القضايا المطروحة إلى الشروط والقوانين والحتميات التاريخية. يُقدِّم نفسه بعيداً عن كل تلك الخطابات التي ظلّت سائدة ومعهودة في العالم العربي. فكيف يمكن بالتالي تحديد معنى النقد المزدوج، بما هو استراتيجية، وما هي مقومات هذه الاستراتيجية؟
إذا توقّفنا عند مفهوم النقد، كما صاغه المفكِّر والسوسيولوجي المغربي عبد الكبير الخطيبي موضوع مقالنا هذا، سنجد أنّه لا يتوقّف عند معناه السائد… أي كنقد أيديولوجي، بما هو صراع بين موقفين أو أيديولوجيتين متضادتين، بقدر ما يتعلق الأمر بنقد استراتيجي. لا يُحيل النقد المزدوج والحالة هذه إلى ميتافيزيقا معيّنة للحقيقة. لا يعني النقد ها هنا مقابلة حقيقة بأخرى أو مجابهة أيديولوجيا بأخرى، وإنما يعني حفر وتقويض، وتحلّل وخلخلة، وتفكيك النصوص في علاقتها الجدلية بالواقع المعيش، فضلاً عن ممارسة نوع من الجينيالوجيا- جينيالوجيا المفهوم- على المفاهيم التي تجعل مِن العالَم العربي موضوعاً لها. مِن خلال الانسلال إلى جوانيّة تلك المفاهيم، وتفجير ميتافيزيقيتها وثيولوجيتها: «اقتصاد واستراتيجية» هذا توضيح آخر للنقد المزدوج، توضيح يسمح لنا بأن نميّز بين المفاهيم التي لها قدرة أبيستيمولوجية يُمكن تَحيِينها، والمَفهُومات التي يجب أن نُصنِّفها في تاريخ المعرفة ليس إلاّ».
فبما أنّ الإشكال حسب صاحب النقد المزدوج في العالم العربي، والمعرفة التي أنتجت حوله هو إشكال استراتيجية في العمق، فهذا يُحيلنا أيضاً إلى التقائه بمفكِّري الاختلاف، مِن حيث الأسس الفلسفية التي يقوم عليها هذا النقد: الفكر كاستراتيجية. لا ريب في أنّ هذا الالتقاء مع مفكري الاختلاف، هو ما يجعله يأبى أن يصنف في حقل معرفي محدّد، وينفلت من كل تحديد، وإن كان ذلك الانفلات نفسه شكلاً من أشكال التصنيف واللّاانفلات في حدّ ذاته، من حيث هو نمط مِن التفكير متعدّد المفعولات. إن النقد المزدوج بمثابة استراتيجية تفكيكية؛ تفكيك مزدوج. إنه بمثابة سيرورة تفكيكيّة مزدوجة. تفكيك ماذا؟ تفكيك للميتافيزيقا الغربية، وفي اللحظة نفسها تفكيك للميتافيزيقا العربية والثيولوجيا الإسلامية.
إننا إذن أمام مفهوم مختلف للنقد يتجاوز معناه السائد. يدعونا إلى إعادة النظر في المعنى، الذي نعهده في السوسيولوجيا، كما نألفه في ما يسمى بالسوسيولوجيا النقدية. لم يعد اليوم مقبولاً الحديث عن النقد بمعناه المعهود، أي كرفض ونفي ومعارضة، إلخ. لم يعد كافياً القول بـ«اللّا»، خاصة أمام تسارع التاريخ الذي تتنفّسه المعاصَرة، سواء تعلّق الأمر بالنقد الأيديولوجي، أو الفلسفي، أو الأدبي أو الإبيستيمولوجي حتى. لهذا يجب إعادة النظر في مفهوم النقد السائد عندنا وعند غيرنا، خاصة في ما يقوم عليه من أسس ميتافيزيقية، إن لم نقل سلطوية الحكم المعرفي والأيديولوجي. لا يتعلّق الأمر ها هنا بممارسة ما يسمى في الأدب بـ«نقد النقد»، أو بممارسة ما ينعت بـ«ميتا النقد»، بل يتعلق الأمر بتفكيك النقد أو لنقل: تطعيم النقد بالتفكيك.
تلك هي استراتيجية النقد المزدوج. إنّها حركة مزدوجة من الداخل إلى الخارج ومن الهامش إلى المركز. إنّها حركة ساكنة وهجرة معمرة، ذلك هو السبيل إلى زحزحة وخلخلة المركز: من خلال الهامش، بِخلق هوامش جديدة ومتعدّدة.
يبدو أنّ النقد المزدوج كما صاغه كاتبه، لا يختلف كثيراً عن مضمون التفكيك la déconstruction كما نجده عند المفكر الفرنسي جاك دريدا. على الرغم مما يبديه هذا الأخير من تمييز بينهما. وما يمنحه من أفضلية للتفكيك على النقد، الذي يقوم على قرارات بعدية، تجعل منه أعلى سلطة تقويمية. على عكس التفكيك من حيث هو تفكيك للنقد في حدّ ذاته كسلطة نهائية للمحاكمة. كاد يكون النقد عند الخطيبي معنياً بهذا الفصل، الذي أقامه مفكر الاختلاف، إذا ما دأب على ربطه أو بالأحرى مطابقته بين النقد، وأيّ قرارات بَعدية وسُلط عُلياَ للمحاكَمة، لكنّه لا يفعل ذلك بتاتاً، بل العكس هو الصحيح، فالنقد المزدوج والحالة هذه لا يتأسس على أيّ محاكمة أيديولوجية أو ميتافيزيقية، وإنما يتأسّس على التفكيك نفسه، ذلك التفكيك الذي يجعل من مراميه المولِّدة له: مجاوزة الميتافيزيقا. هو تفكيك بالمعنى الذي صاغه دريدا، أي بالمعنى الذي يقف فيه عند مختلف الثنائيات الميتافيزيقية التي تولّدت عنها الميتافيزيقا الغربية. غير أن النقد المزدوج.. بما هو تفكيك مزدوج لا يتوقف عند هذا البُعد، بل يتجاوزه إلى تفكيك وخلخلة أسس الثقافة العربية التي تجعل من الهوية تطابقا ووحدة لا اختلافا وتعددا. بهذا يكون النقد المزدوج تقويضا مزدوجا لميتافيزيقتين. تتحدّد الأولى في التمركز حول الذات الغربية والهيمنة المعرفية، وتتجسد الثانية في ثبات وتجذر الأسس الدينية والثيوقراطية للثقافة الإسلامية. هو تقويض لكل ما مِن شأنه أن يَختزل مجتمعاتنا العربية في الهُويّة، بالمعنى الذي يَجعلها مرادفاً للأصل، والتطابق والوحدة والكلّية التي طالما وسمت الوجود والفكر العربيين.
من هذا المنطلق يَدعونا الخطيبي إلى نقد مزدوج: ينصب علينا كما ينصب على الغرب، ويأخذ طريقه بيننا وبينه، فيرمي إلى تفكيك مفهوم الوحدة، التي تثقل كاهلنا، والكلّية التي تجثم علينا، وهو يهدف إلى تقويض اللاهوت والقضاء على أيديولوجيته التي تقول بالأصل والوحدة المطلقة. لا يتعلّق الأمر بمُوضة التفكيك، التي استعاضت عن تَقادم النقد ولا مُوضته، أو بتطوّر خطي مِن النقد إلى التفكيك، أو قطيعة مطلقة في ما بينهما، وإنما يتعلّق الأمر بسيرورة معرفية بينية؛ بحركة هامشية مزدوجة لانهائية بين النقد والتفكيك، تقوم على الاختلاف والتعدّد لا التطابق والوحدة، تقيم على هامش كل موقع يقدم نفسه كمركز: «علينا أن نفسح المجال لفكر يتخلى عن الذاتية الحمقاء ليتمسك بالاختلاف».
تلك هي استراتيجية النقد المزدوج. إنّها حركة مزدوجة من الداخل إلى الخارج ومن الهامش إلى المركز. إنّها حركة ساكنة وهجرة معمرة، ذلك هو السبيل إلى زحزحة وخلخلة المركز: من خلال الهامش، بِخلق هوامش جديدة ومتعدّدة، بِخلق فجوات في جوانيّة المركز، ومن ثم تفجير المركز في الهوامش. على هذا النحو فإنّ النقد المزدوج لا يَتموضع بين الثقافتين العربية والغربية وحسب، بقدر ما يتموضع في فضاء البين- بين داخل الثقافة الواحدة نفسها. ممزقاً لكلِّياتها، مخلخلاً مراكزها، مولِّداً لفصائلها، فاضحاً لتناقضاتها، جارحاً لهُويّتها، ومبرزاً كم هي مختلفة مع ذاتها. إنّنا أمام استراتيجية رحّالة. هذا هو المعنى الفعلي للنقد المزودج: هذا هو النقد الممكن اليوم. وهل هناك ما هو أكثر راهنية من هذه الاستراتيجية؟ الكفيلة بمجاوزة القطبية الفكرية الثنائية عندنا، التي أثقلت كاهلنا، ومن ثمّ صياغة طريق ثالث قد يفتح أمامنا آفاقا جديدة للانعتاق من الوضع الراهن المأزوم لعالمنا العربي.
٭ كاتب مغربي