أطلق سكان المستعمرات البريطانية في العالم الجديد شعار “لا ضريبة بدون تمثيل” للاعتراض على صدور قوانين تمس أوضاعهم الاقتصادية، بدون أن يحصلوا على تمثيل مباشر لائق في مجلس النواب البريطاني.
وعلى أساس هذا الشعار بدأت الفصول الأولى من الثورة الأمريكية التي أفضت إلى استقلال المستعمرات البريطانية وإعلان الولايات المتحدة الأمريكية، ولذلك، فإن المواطن الأمريكي عادة ما يوصف بدافع الضرائب، بدون أن يكون في ذلك أي انتقاص أو تقليل من شأنه، فمقابل الضريبة التي يدفعها يحصل على وضعية قانونية واضحة، وتترتب عليه واجبات مقابل الحقوق التي يحصل عليها.
ففي هذه المنطقة من العالم سقطت الغشاوة مبكراً أمام مواطنين ما زالت في ذاكرتهم الجمعية، القصص الخاصة بترويض العالم الجديد، التي تؤكد أن أقاويل مثل نظرية الحق الإلهي ليست سوى رطانة أوروبية لا يمكن أن تجد مكانها في الورشة الكبيرة التي أتاحت الفرص حتى للمنبوذين وشذاذ الأفاق لتأسيس حياة جديدة.
يكاد الحديث عن الضريبة وأحوالها ينذر بموجة جديدة من الاضطرابات في المنطقة العربية، فالغضب لم يكن وحده الدافع وراء خروج الملايين إلى الشوارع والميادين، فقبل ذلك، وعلى امتداد عقود من الزمن توالت عملية سقوط الأقنعة عن الأنظمة العربية، ووجد الإنسان العربي نفسه يخرج من حالة التخدير الشعاراتية والخطابية، بالصورة التي أخرجته هائماً على وجهه، وليس ثائراً كما اعتقد من يتابعونه لفترة من الزمن، فما حدث لا يمكن وصفه بالثورة من الناحية العملية بقدر ما كان تعبيراً عن لحظة اكتشاف خيانة طويلة ومستقرة، وما حدث لم يكن تعبيراً عن الغضب وحده، ولكن على إيقاظ الإنسان العربي من غيبوبته بصورة فجة وغير لائقة، فالوعود التي كانت تحملها الأغنيات والأناشيد تبددت، فلم تعد الأغلبية الساحقة تجد مقعداً مناسباً لأطفالها في مدارس يمكن أن تعلمهم شيئاً ذا جدوى، أو سريراً في مستشفى يمكنه أن يوفر له العناية اللازمة في حالات الطوارئ، وكانت لحظة الاستفاقة صعبة ومرعبة.
في دول الربيع العربي فإن أياً من موجاتها لم تنتج سوى إعادة تمركز للدولة العميقة ومؤسساتها التقليدية
تستخدم لفظة إنسان في استعراض حالة الإنسان العربي، الذي يدخل عالم ما بعد الدولة الراعية أو الرعوية بصورة قصدية، فليس ثمة ما يمكن وصفه بالمواطن في السياق العام لتجربة الدولة العربية، كما أن وصفاً مثل الكائن العربي يحمل، على الرغم من دقته، شيئاً من انعدام اللياقة والعوز في التهذيب، إلا أن ما يستغربه الإنسان العربي يبقى في ظل تصاعد واجباته بصورة مطردة بدون أن يتحدث أحد عن حقوقه، فالدولة تطلب من سكانها أن يدفعوا تكلفة الدولة، لا تكلفة الدور الذي تقوم به الدولة، وبذلك، فالدولة تصبح كياناً منفصلاً عن الإنسان، وينتفي مفهوم علاقة المواطنة.
سقطت أقنعة المقاومة وتحرير الأرض والإنسان، بمجرد أن أصبح السلام هدفاً استراتيجياً في حد ذاته، وانقلبت العلاقة مع اسرائيل، الزائدة الاستعمارية، إلى علاقة خوف من وحش خرافي بعد أن كانت تدعي اسرائيل نفسها بأنها دولة مسالمة وصغيرة في وسط يحفل بالعنف والعداء، ولذلك لم تعد الحالة التعبوية مبرراً للتراجع الاقتصادي، وفي مرحلة لاحقة هجمت السوق المفتوحة بوصفها الحل السحري على مختلف الأنظمة العربية، ولكنها لم تكن سوقاً مفتوحة بالمعنى الحقيقي، ولم تكن فرص العمل تتولد من خلال أنشطة إنتاجية فاعلة، ولكن من خلال عمليات بيع متواصلة للثروات الوطنية، وتحالفات احتكارية تمكنت من الاستيلاء على القطاع العام وبدأت تدخل في لعبة السياسية لتفصيل وتقييف القوانين لمصلحتها، وبدلاً من وجود ممثلين شعبيين ضمن أحزاب سياسية، تجمع مصالح الطبقات والفئات المختلفة، أصبحت أدوار الوكلاء هي التي تحدد التوجهات العامة للدولة، فلا وجود لمنافسة يمكن أن تبرر التوجه المجاني للسوق المفتوح كنمط اقتصادي له مزاياه وعيوبه، ولا وجود لسيطرة على الموارد يمكن أن تستمر في صيانة عملية الاسترضاء لبعض الطبقات، سواء من خلال الدعم أو بعض الخدمات المجانية.
باتت اللعبة البرلمانية التي تحمل القرارات الحكومية لحيز الشرعية التجميلية، مكشوفة أمام التعطيل السياسي، والانفراد بلون واحد أو درجات متنوعة للون الطبقة صاحبة النفوذ، ولم تعد ثمة معارضة تستطيع أن تخوض نزالاً حقيقياً بأن تقدم برامجها وبدائلها، فالسقف المحدد سلفاً يوحي بالانهيار في أي لحظة، ويمكن أن يتم حرق الأرضية بالكامل من خلال تقييد الحريات والاعتقالات والتضييق على سبل المعيشة، كما أن الاختراقات داخل المعارضة من خلال لعبة تعرية بعض المعارضين من وقت لآخر بسحبهم للسلطة والحصول على رتوشهم في المشهد العام تعمل بصورة فاعلة على ضرب أي مشروع معارض حقيقي، وتداول السلطة غير وارد وكانت نتائجه في مصر والجزائر وخيمة على مستوى الدولة، وفي دول الربيع العربي فإن أياً من موجاتها لم تنتج سوى إعادة تمركز للدولة العميقة ومؤسساتها التقليدية.
يجد الإنسان العربي نفسه أمام جدلية منطقية، فالقطاعات الاقتصادية التي تم تحريرها لم تعد تستوعب الفوائض البشرية بصورة لائقة، كما أن وجودها شبه الاحتكاري وتوجيهها للسياسات الاقتصادية يحول دون الانعطاف تجاه القطاعات الكثيفة العمالة، ويقف الشعور بالمظلومية وعدم تكافؤ الفرص محرضاً أساسياً للسلبية لدى قطاعات واسعة من المواطنين، التي رصدت تغول الطبقات المسيطرة على الفرص، من خلال حصولها على تعليم خاص بإمكانيات نوعية، ورعاية صحية وتغذية وترفيه أفضل من غيرها، الأمر الذي يجعل حديثاً عن تحسين الخدمات أمراً غامضاً وغير مفهوم، لأن كثيراً من الخدمات أصبحت أصلاً مرتبطة بوجود المحتكرين والمقاولين الكبار الذين اغتذوا على الدولة ومناقصاتها وعطاءاتها.
سيطرح التمثيل نفسه بقوة مع موجة التحول إلى السوق المفتوح، ومع الدولة التي تبحث عن أسباب لاستمرار أدوارها التقليدية، أو ستطل الفوضى برأسها من جديد بصورة أعمق لأن الغشاوة الأيديولوجية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار أصبحت مهددة بالزوال أمام الحقائق المريرة، لا توجد خيارات كثيرة، فالدولة في المنطقة العربية تمضي بدون زخم اقتصادي يستطيع أن يمول سلوكها الاحتكاري، باستثناء بعض، وليس جميع، دول الخليج، وعدا ذلك، فإن استمرار عملية الاحتكار الاقتصادي والسياسي يبدو أمراً متعذراً، والتواجد على خريطة العالم يحتاج إلى بنية إنتاجية مستقرة بجذور شعبية، وعدا ذلك، تبقى رؤية طبقة معينة، وأحياناً حفنة من الأشخاص ودوائر المقربين منهم هي التي تقود الجميع إلى مزيد من التورط في حالة من التوتر والقلق الاجتماعي يفاقم من المعازل ومن الاستبعاد الاجتماعي الذي يتجلى سياسياً.
التمثيل سيكون كلمة السر التي ستوقظ الإنسان العربي مرة أخرى من نومه القلق، وبعد أن اعتقد الجميع بأن موجة الربيع العربي انتهت إلى غير رجعة، ونالت من التشويه الحصة الكبيرة التي تجعل الإنسان العربي يتحسس رأسه مع تعبيرات الاحتجاج والخروج للمطالبة بدولة تمثله لا تمثل عليه.
كاتب أردني