تغلغل المذهب الواقعي في رواية القرن التاسع عشر، فتراجع البعد التخييلي، وغادر المؤلف دوره في أن يكون حقيقيا يحكي عن عالم غير واقعي فيه جنيات وشياطين، وأبطال خارقون وعواطف مشبوبة بطبائع وأهواء وجدانية، واتجه نحو ما هو واقعي ووقائعي ووثائقي. وما كان للمذهب الواقعي أن يسود لولا ما رسخه فلاسفة أوروبا، خاصة في عصر التنوير من أفكار ومفاهيم تنبع من الإحساس بالتفوق العرقي، والتعالي الثقافي، وتأكيد ما وصلت إليه أوروبا من تقدم علمي ونهضة معرفية، إلى جانب ما طرحه نقاد الواقعية من أفكار أيديولوجية حول الالتزام في الأدب، وأن الرواية ملحمة العصر البورجوازي.
وبسبب هذا وغيره تعددت صور الواقعية في كتابة السرد الروائي في القرن العشرين، غير أن ذلك لم يمنع بعض الروائيين من تجريب أساليب جديدة تستعيد تقاليد الإرث السردي الشرقي، وتبتعد عن الواقع، وتغرِّب في التخييل، مهتمة بالأشكال ومستفيدة من مستجدات العلوم الإنسانية، ومنها أدبيات علم السيكولوجيا التي أتاحت للسارد العليم الغوص داخل الشخصيات، وكشف تداعياتها الباطنية، فيغدو صوته متوحدا بصوت الشخصية، حتى كأنها هي التي تتكلم. وقد عرف هذا الشكل من التجريب الروائي باسم تيار الوعي. وإليه وجه منظرو الرواية الاهتمام، وأثاروا أسئلة كثيرة حوله، من قبيل متى يحق للسارد أن يتدخل؟ وما المسافة الفاصلة بين السارد والمسرود في حالة استعمال ضمير الغائب أو بين المؤلف والسارد في حالة استعمال ضمير المتكلم؟ وعلام يوجه السارد خطابه بالضمير المنفصل أنت، والمتصل الكاف وتاء المخاطبة؛ إلى القارئ أم إلى المسرود له أم إلى كليهما؟
إن هذه الأسئلة وغيرها جعلت من مفاهيم سردية كالصوت ووجهة النظر والمؤلف والوعي والضمير موضوعات رئيسية في نقد الرواية. ويعد الأمريكي برسي لوبوك من أوائل المنظرين، الذين عنوا بموضوعة الضمائر، فبحث في علاقة المؤلف بضمير المتكلم في روايات ديكنز ومردث. وأكد أن استعمال هذا الضمير يمكِّن المؤلف من تقديم عرض لما يريده القارئ من حقائق، هي في الأصل عبارة عن انطباعات باطنية إزاء مواقف ماضية أو حاضرة، لكنه فضَّل ضمير الغائب على ضمير المتكلم ،لـ(أنّ المؤلف الذي يسجل الأحداث يظل واقفا خارج كتابه وبعيدا عنه.. وقيمة كبيرة ستهدر وأن النشاط الذي يقوم به ذهنه سوف يتغير، ولن يعود عنصرا له دوره في التأثير) وعلى الرغم من ذلك، فإن لوبوك يرى في استعمال المؤلف لضمير المتكلم إمتاعا، يخالف به المألوف، ويحوّل نفسه إلى دراما.
واهتم الفرنسي رينيه ماريل البيريس، بتبدل عمل الضمائر في حالة التكثيف النفسي داخل روايات تيار الوعي ومنها، (الصخب والعنف) لفوكنر، وفيها تتداعى المونولوجات الداخلية من أذهان عدة شخصيات تنتمي إلى أسرة من المسيسبي، معظم أفرادها معيبون، وضمائرهم مجزأة وعلى قدر كبير من الاضطراب. ووصف البيريس تبدل الضمائر بالفظ، لأن فيه تتضاعف كتلة السرد، وتتناوب الأدوار، ويصعب من ثم تحديد تاريخ لها. ورأى أن التداعي المونولوجي يولِّد تصدعا فيختلط الماضي بالحاضر، ويغدو القارئ بطريقة مباشرة في ضمير البطل الذي يكون مكلفا بأن يشعر ويعيش والسارد يراقبه باستمرار. وهذا اللعب المزدوج يعطي السرد مرونة، ويشجع انسيابه في الزمن. ولم يخصص البيريس وقفة نقدية لواحد من الضمائر الثلاثة، لكونه رهن عمل الضمير بالسارد الذي وحده يعرف خاتمة الحكاية، وله رأيه فيها ويرويها بدلالة ما يعرف.
وأفاض روبرت همفري في التنظير لتيار الوعي وحدد تقاناته، مؤكدا أنه ليس نتاج الخيال أو الحالة النفسية، وإنما هو فيضان الوعي الداخلي. ولم يحدد مصدر هذا الفيضان: أهو وعي المؤلف بالتجربة الإنسانية، أم هي قدرته على تحليل الحياة الداخلية للشخصية؟ واعترف بأنه تفادى عن قصد مجموعة من المشكلات المهمة التي عنَّت له، وهو يدرس روايات دورثي ريتشاردسون وجيمس جويس ووليم فوكنر وفرجينا وولف. ولم يبحث في المقدمات التاريخية، ولا التفت إلى المؤثرات كما قلل من الافتراضات والتأويلات، معللا السبب بتعقد الموضوع والبحث عن الاختصار. بيد أن أهم مسألة أشار إليها همفري – في وقت مبكر- هي تدليله على اللاطبيعية في السرد حين تأخذ الرواية شكل حوار صامت فيه تخاطب الذات نفسها باستعمال واحدة أو أكثر من تقانات تيار الوعي. فتتجلى اللاطبيعية في:
1- السمة غير المنطقية وغير المترابطة في الوعي غير المعبر عنه بالكلام، وعدها همفري أعظم مشكلات كاتب تيار الوعي. ووجد أن حلَّ هذه المشكلة يكمن في الرمز كعملية سيكولوجية ينبغي أن تجري في الذهن على نحو محبوك واقعيا، فيكون القارئ قادرا على فك الشيفرة. ومن ثم تكون بلاغة الرواية تقليدية وطبيعية.
2 – الغموض في تيار الوعي، فمحتويات أي وعي هي إلى حد كبير لغز بالنسبة لأي وعي آخر. وهدف الأدب ليس شرح الألغاز. والحل – حسب همفري ـ يتأتى من تكرار لوازم بعينها كالمجاز والرموز والتداعي الحر والبلاغة والنثر الشعري ومناجاة النفس.
ـ إن كتابة تيار الوعي تتطلب التمكن من أمرين: 1/ تقديم الوعي على نحو واقعي عن طريق إدراك سمات الخصوصية. 2/ توصيل شيء ما للقارئ من خلال هذا الوعي. لكن هذا التمكن يكشف عن تناقض الوضع السردي أيضا، من ناحية موضوعية المؤلف وهو يقدم معلومات ينبغي أن تقنع القارئ وتجعله مشدودا إلى الرواية، ومن ناحية خصوصية التداعي التي توجب على السارد أن يضحي بالموضوعية في سبيل (إقناع القارئ بخصوصية الذهن وواقعيته على النحو الذي يقدم به وكذلك التعبير عن أفكار خاصة بهذا الذهن).
– ازدواجية وظيفة السارد بضمير المخاطب، ومثال همفري رواية (كل رجال الملك) 1946 لروبرت بن وارن، وفيها السارد ذاتي بضمير المتكلم، ولكنه يصبح موضوعيا حين يستعمل ضمير المخاطب مصورا الصراع الداخلي للشخصية بشكل درامي باستعمال المستحدثات الميكانيكية. وهنا يقع السارد في تناقض وهو يكشف عن الذهن الصامت من ناحيتين: الأولى تجاهل نظريات علم النفس الخاصة بالوعي، والثانية قبول الوصف الأساس الذي قدمته هذه النظريات للجيل الذي نشأ فيه. ولم يشر همفري إلى الطريقة التي بها يعالج السارد هذا التناقض. وبهذا تبقى الإشكالية قائمة في الجمع بين الصمت (مستوى ما قبل الكلام) الذي فيه يتداعى الوعي بالوصف المستقصي، وبمناجاة النفس بلا رقابة أو تنظيم أو منطق، و(مستوى الكلام) الذي هو تعبير عن الذاكرة بأفعال وأقوال منطقية وواقعية.
وما نراه هو أن بين الوعي بالتجربة والوعي بالشخصية مسافة موضوعية تختلف درجة الدقة فيها تبعا للطريقة التي بها ينظر المؤلف/ الروائي إلى شخصياته. فإن كان ينظر إليها بذاتية فذلك يتطلب السرد بضمير المتكلم وإن كان ينظر إليها بموضوعية فذلك يتطلب السرد بضمير الغائب. وفي كلا الحالين يكون الوضع السردي واقعيا. أما إذا كان الروائي ينظر إلى شخصية بعينها بموضوعية وذاتية في الآن نفسه، فإن السرد سيكون شخصيا ولا شخصيا والرواية تخاطبية والوضع السردي غير واقعي. الأمر الذي يستدعي من السارد المخاطِب وعيا عاليا بتجربة الشخصية بدءا من الأنا الأعلى إلى الهو الأدنى، فلا يكون أمام المسرود المخاطَب سوى أن يكون سامعا صامتا، كي يتمكن من استيعاب كل ما يُملى عليه من أحداث.
٭ كاتبة عراقية