ليست الرواية من حيث العمق غير قصة الإنسان موزعة على أحداث خيالية متشابكة ومتفرعة، تلتقي أحيانا وتفترق أحيانا أخرى، لكنها تظل محافظة على اللحمة التي تجمعها ولو من طرف خفي، لتساهم مجتمعة بشكل تعاقبي أو تقهقري في بناء حياة كاملة أو جزء منها على الأقل، لشخصية معينة أو مجموعة من الشخصيات.
لذلك على الكاتب أن يجعل من الحكاية عمودا فقريا لروايته، لتكون السداة التي تتماسك بها أجزاء الرواية، وفي حال غيابها ستكون رخوة لا يأخذها أحد مأخذ الجد. فقد انتهت إلى غير رجعة حساسية كتابية دعت إلى تداخل الأجناس، وهناك من عبر عنها بالكتابة عبر النوعية، فتداخل – نتيجة لذلك- الشعر مع السرد، حتى أصبحنا أمام قصص وروايات تحتفي باللغة في حد ذاتها، فتلهيهم عن الاهتمام بباقي مكونات العمل القصصي أو الروائي، كالشخصيات والأحداث والفضاءات، كما أن هذه الحساسية، وزيادة في الارتباك الذي تسببت فيه، توسلت بتقنية تداخل الأزمنة بشكل مبالغ فيه، من خلال هيمنة الزمن النفسي، بل اللاشعوري كذلك، وكانت الحكاية من ضحايا هذا التوجه، فلم نعد نظفر عند قراءة القصص والروايات بأي حكاية، رغم أن هذه الأخيرة تعتبر نسغ القصة والرواية معا، فهي التي تبقى راسخة في ذهن المتلقي بعد الانتهاء من قراءة المتن القصصي أو الروائي. والنتيجة النهائية لهذا التوجه كان كارثيا من حيث الإقبال على قراءة القصص، إذ ساهم في نفور القارئ العادي من قراءة القصة والرواية.
في العقدين الأخيرين تصالحت القصة والرواية مع البعد الحكائي فيهما، وهذا ما جعلهما ـ في رأيي- تستعيدان بعضا من ألقهما، ومن حسنات هذا التوجه أنه ييسر ترجمة كل من القصة والرواية إلى لغات أخرى، أما مع الكتابة «عبر النوعية»، فحين تترجم النص إلى أي لغة فلن نحصل سوى على حذلقات وفذلكات لغوية لا معنى لها. ولا يمكن تقديم حكاية الشخصية أو الشخصيات، بدون أن نعنى بالمكان أو الفضاء الذي تضطرب فيه، وكلما نوعنا الأفضية أتيحت لنا الفرصة لتطوير أحداث الرواية، وقد يحيل الفضاء على مكان أو أمكنة حقيقية، لكن مع ذلك ففضاء الرواية تخييلي بامتياز، وهو من صنع الكاتب ولا يمكنه التطابق مع الواقع.
ومن الملاحظ أنه خلال كتابة الرواية، يشتكي كثير من المبدعين من قصر النفس، ويسعون حثيثا نحو اكتسابه، وعلى المرء أن يعرف، أن هذا الأمر يتأتى فقط بالصبر والمجاهدة والممارسة، ومع ذلك هناك طريقة ينصح بها العارفون بأسرار الكتابة القصصية «قصة قصيرة ورواية»، ويمكن اعتمادها، لأنها غالبا ما تؤتي أكلها هنيئا طيبا، ويتعلق الأمر بمبدأ التداعيات، فمثلا إذا كانت الشخصية التي تكتب عنها في البستان، ففي البستان توجد أشجار مثمرة، والأشجار فيها فواكه، والفواكه تستدعي تاجرا والتاجر سيأتي بشاحنة، والشاحنة ستذهب إلى السوق وفي السوق تجار، شبابا وشيوخا، وكل شيخ أو شاب ينقلنا إلى بيته، وفي بيته أبناء ولكل ابن أو بنت حكاية وهكذا.. ويمكن أن تتخذ القصة طريقا آخر، مثلا، بالقرب من البستان الذي تتواجد فيه الشخصية طريق، والطريق يحمل الناس بشتى انتماءاتهم الاجتماعية، وقد تحمل رجلا أو امرأة، وقد يكون أحدهما راكبا حصانا أو سيارة، فتكون هذه السيارة مثلا مناسبة لحمل الشخصية إلى مكان قريب أو بعيد، لن يكون في أغلب الأحيان سوى قرية أو مدينة، وفيهما معا توجد مقاه ومحطات لنقل المسافرين، وفي المحطة تركب الشخصية حافلة، وفي الحافلة مسافرون، لا بد أن تتعرف الشخصية على أحدهم، وقد تحكي لنا حكايته، وقد تنسج علاقة ما مع هذه الشخصية الجديدة، وهكذا دواليك.
في العقدين الأخيرين تصالحت القصة والرواية مع البعد الحكائي فيهما، وهذا ما جعلهما ـ في رأيي- تستعيدان بعضا من ألقهما، ومن حسنات هذا التوجه أنه ييسر ترجمة كل من القصة والرواية إلى لغات أخرى.
ولا يخفى على أحد أن التراث العربي والإنساني مليء بالمواقف التي يمكن للقاص استثمارها، من خلال تسليط الضوء عليها من وجهة نظر مختلفة، أو التركيز على جانب منها لم يوله الناس اهتماما قبله. كما يمكنه أن يستدعي منه شخصيات وأحداثا ليستثمرها في قصته في رؤية معاصرة، فينطقها بما يرغب في التعبير عنه.. كما يمكنه أن يلجأ إلى التناص مع نصوص تراثية، إما مع منطوقها المباشر، أو الضمني، كما يمكنه أن يتخذ من البنية العميقة للنص التراثي هيكلا خفيا لنصه، حتى يمنحه نوعا من التأصيل الذي قد يضفي عليه جمالية خاصة، وهو الأمر الذي قام به الكاتب التونسي محمود المسعدي في روايته الجميلة «حدثنا أبو هريرة قال» والتي تعد بحق من أجمل الروايات العربية في القرن العشرين، رغم أنها لم تنل ما تستحقه من اهتمام على المستوى العربي، فهي بحق مغامرة إبداعية عميقة وظفت التراث بشكل فعال ومنتج، من خلال لغة تحاكي عصر أبي هريرة وبيئته الاجتماعية..
وعلى الكاتب أن يعي أن الرواية عمل تخييلي، أي أنها من ورق أو من كلمات، لذا حين يكتب روايته عليه أن يتخلص من وهم الواقعية، ويسعى في المقابل إلى خلق «واقعيته» الخاصة، و»واقعيته» ليست سوى فنه الروائي، الذي يتعين أن يقدمه لنا نابضا بالحياة، من خلال التحكم في الشخصيات والأحداث والفضاءات والزمان، واللغة، أي يقدم لنا قطعة فنية منسجمة العناصر والمكونات… فرواية «مئة عام من العزلة» رائعة، ليس لأنها نقلت لنا الواقع، بل لأنها استطاعت خلق واقعها، الذي أضحى إضافة نوعية إلى الواقع الحقيقي، ومع ذلك يبقى «واقعا» مختلفا، تتكرر فيه أسماء الشخصيات من جيل إلى جيل بشكل مربك، وحين تموت أرسولا مثلا تصعد جثتها أمام أعيننا إلى السماء.. حقا ما أروعه من «واقع»، يجنحه الخيال.
كما أن الحوار مهم في في كتابة الرواية لأنه يجعلنا نصغي مباشرة إلى الشخصيات دون وساطة من الكاتب، لكن يجب الانتباه إلى هذا الحوار فنجعل الشخصية تتحدث بما يلائم مستواها الثقافي والاجتماعي. فمن الغريب جدا أن تجد شخصية في إحدى الروايات تتحدث بلغة عالمة أو لغة الشعراء، رغم أن الكاتب يقدمها لنا كونها تعاني من الأمية، أو ذات مستوى تعليمي بسيط، ما يخلق نوعا من الانفصام، الذي يتعين على القاص تجاوزه من خلال إنطاق الشخوص، بما يلائم مستواها التعليمي وانتماءها الاجتماعي.
وكلما كان الحوار قصيرا ومتوترا أدى وظيفته، فلا أغرب من استرسال الشخصية في الحديث بشكل مسهب، يؤدي حتما إلى الملل، ويبدو للقارئ كلاما مفتعلا لا فائدة منه.
كما أن أهمية الحوار تتجلى كذلك في خلق الجو الدرامي المطلوب في الفن القصصي، لأننا بواسطته سنكون أمام الفكرة ونقيضها، فلكل شخصية تصورها ومصالحها، ومن الإيجابي جدا إبراز ذلك في حوارها مع بعضها بعضا، لتطوير أحداث القصة بشكل درامي. فالرواية الناجحة تتمتع بدرامية قوية «والدراما» في أبسط تعريفها هي الصراع، ولكي تتحقق في القصة فكّر دائما في الشيء ونقيضه، وضع للشخصية الرئيسية شخصية مناقضة تمنعها من تحقيق أهدافها.
وأنت تكتب روايتك تذكر دائما أن القارئ يهوى تلك الانفلاتات» الفانتازتيكية» أو العجائبية، التي بقدر ما تبدو مفاجئة وغير معقولة ولا يقبلها المنطق، إلا أنها تكسر «واقعية» الأحداث وتمنحها كثيرا من الطرافة المرتجاة، وتحلق بالخيال إلى أقصى الحدود، وهي حقيقة انفلاتات جميلة، تجعل القارئ ينفلت من صرامة الواقع، كما يحدث وأنت تتحدث عن «شخصية» في إحدى قصصك فتقول: بعد ليلة أرق يمشي «س» وحيدا في شارع مقفر في إحدى المدن الكبرى.. الصباح يتثاءب ما يزال، محاولا طرد وسن مرتبك من الأحداق.. يتوقف «س» عند بركة اصطناعية، بينما تهب على سحنته لفحات نسيم منعش، في تلك اللحظة تحديدا تفاجئه حورية بحر بظهورها المربك.. تطفو على سطح البركة وما تلبث أمام ذهوله أن تحدثه…
وأنت تكتب روايتك لا تنس كذلك أن الحبكة من التقنيات الأساسية في الكتابة القصصية، وعلى الكاتب أن يوليها أهمية خاصة، حتى يتقن كتابة رواياته ويضمن لها حدا أدنى من التشويق، والحبكة تعني في أبسط تعريف لها أن يكون الحدث التالي نتيجة للحدث السابق. ولتوضيح الفرق بين الأحداث بحبكة وبغيرها نورد المثالين الشهيرين التاليين.
حدثان بدون حبكة: مات الزوج و بعد أسبوع واحد ماتت الزوجة.
حدثان بحبكة: مات الزوج وبعد أسبوع واحد ماتت الزوجة حزنا عليه.
ويعد الوصف من العناصر المهمة في كتابة الرواية، وهو فن قائم بذاته يحتاج كثيرا من الدربة لإتقانه كي يبهر القارئ، خاصة إذا كان وصفا يتخلله بعض المجاز بدون أن يستغرق فيه بشكل كلي، ويتألق الوصف في الرواية كذلك حين يكون مساهما في تطوير الأحداث، وحين يكون بمثابة معادل موضوعي يعكس لنا بشكل غير مباشر الحالة النفسية للشخصيات.
٭ كاتب من المغرب
لست أدري لماذا لا تعتمد جامعاتنا روائيين مبدعين لتدريس الرواية وما يتعلق بكتابتها أو أجواء إنتاجيتها، فالرّوائي يتكلم من داخل النص، عليم بطبقاته ومكوناته وظروف انبثاقاته، كما هو هذا المقال الذي يعد فعلا مرجعا في كتابة الرواية، أو بالأحرى فهمها فهما دالا على طبيعتها وهيكلها الفني وعلاقات كاتبها بها، فكثير من المفاهيم أعاد لها الأستاذ لغتيري اعتبارها بعد ان كدنا نصدّق انّ الرواية مسار لغوي وكفى..
شكرا جزيلا أستاذ لغتيري…
المقال تعليمي بحت، فقد أملاه علينا أستاذنا الدكتور الراحل نعيم اليافي ونحن في السنة الرابعة حين كنا طلابا في كلية الآداب، لذا أرى أنه لم يقدم جديدا أو إضافة إلى هذا الفن الراقي…
كلام جميل ، أشكر الكاتب المحترم عليه .. فهو ، على الأقل ، ابتعد عن ذكر الجوائز والجهات المانحة للجوائز وما شابه …
تحية تربوية للكاتب والروائي المغربي الكبير. مزيدا من التألق والإبداع خدمة للراية المغربية عامة والقارىء المغربي خاصة.
لك مني أجمل تحية تقدير واحترام.
مقال مفيد ومركز يجمع بين النظري والتطبيقي ويتكلم بلغة واضحة بعيدا عن التقعير واللف والدوران حول الفكرة، ويعالج موضوعا جديرا بالمناقشة لأن البعض فهم التداخل بين الأجناس فهما خاطئا فصار يكتب طلاسم وأوهاما ظانا نفسه روائيا أو قاصا يساير موضة الكتابة وما هو بذلك.
فلك مني أستاذي تحية وسلام
دمت دائما منارة أدبية و دام عطاؤك