ظاهرة الإرهاب هي الرد العفوي والممنهج على خواء المجتمعات العربية من حياة سياسية طبيعية، فانشغال النُخب الوطنية في مطلع نهضة الاستقلال ما بعد الحرب العالمية الثانية، باستكمال شروط السيادة لدولهم، ما بعد جلاء الاحتلال الاستعماري القديم عنها؛ مما جعلهم هذا ـالانشغال ـ يؤجلون الاهتمام بقضايا الحريات العامة الداخلية. فقد كان (الخارج) الإقليمي والدولي هو مبعث المشكلات الفورية. فالشعارات المرفوعة ما فوق القوى الحركية، كانت مشتقة كلها من مصطلح النضال القومي. أما الحريات فلم تُفهم في ذلك العصر الا عبر منظور جماعي كلي. إنها حرية الأمة أولاً التي تسبق حريات أفرادها. والسياسة هي أسلوب من أساليب ذلك النضال القومي الأشمل. ما يعني أن أخلاقية هذا النضال تفرض على الأفراد ألا يفكروا إلا بما تفكّره الأمةُ جمعاء. ههنا نوع من آمرية جماعية يتقبلها الفرد عن طيب خاطر، كما لو كانت نابعة من وجدانه الذاتي. إنها تلك الخلقية العقائدية التي فلسفها ذلك الجيلُ من روّاد الاستقلال تحت مصطلح الالتزام. ولنلاحظ أن الصيغة النحوية لهذه الكلمة تفيد معناها الفلسفي؛ كأنما الالتزام هو نتيجة خيار، وليس خضوعاً لإرغام ما. فالمناضل القومي هو الملتزم أساساً بما تمليه عليه عقيدته في اعتناق مبادئ الوحدة والحرية لأمته. فالنضال من أجل تحقيق هذه المبادئ هو حاكم السياسة. ذلك ما كان يفهمه جيل قومي وحّد سلوك أفراده ما بين السياسة والأخلاق تحت طائلة الالتزام الطوعي بآمرية الحرية التامة لجماعية الأمة كمدخل ضروري ووحيد لحريات أعضائها وفئاتها. لا مفاجأةَ إن ‘اتّهم’ ذلك الجيل بالمثالية. فلم تتحول مثاليته تلك إلى ما يشبه اتهامه بالخطيئة الأصلية إلا عندما مُنع أو عجز عن تنفيذها في واقع مجتمعاته.
يمكن القول أنه الأمر المفجع بل المخيف والمترتب على تكرار الاستعصاء في مثالية السياسة هو سقوطها الكارثي إلى حضيض نقيضها، إلى مصطلح سياسة الأمر الواقع. فالشعوب الناهضة حديثاً لا يمكنها أن تتقبل مناكفات الواقعية السياسية المبتذلة. لن تكون جاهزة لاستنباط الوسائل الذكية للتكيف معها؛ وللحد من أعطالها. لا يمكنها أن تسيطر على تداعياتها. بل قد ينتهي بها الأمر إلى الانقياد بضروراتها المتناقضة؛ فحين تعمَّم نظام الدولة الرئاسية ومعها حزبها الواحد وزعيمها الخالد، على معظم أقطار العرب المصنفة في عداد الدول المتحررة والمتقدمة آنذاك، وفشلت حروبها ضد العدو الاسرائيلي، تلك الحروب التي كانت بمثابة المسوغات الإيديولوجية لذلك النظام، لم يتبين لأصحابه ثمة شمّاعة وطنية أو قومية يعلقون عليها هزائمهم العسكرية سوى الانقلاب الأمني والبوليسي على مجتمعاتهم نفسها، واستئناف طقوس الولاء وحده لسلطانهم المطلق.
هكذا دبّ انفصال عضوي بين حكام المرحلة ومحكوميها. أمست دولة الحزب الواحد وزعيمها الأوحد هي التجسيد غير العفوي لنموذج السجن الدولاني الأكبر لمجتمع كامل ببشره ومصالحه، بعقوله ومؤسساته، بتاريخه وحاضره وتربيته المستدامة. والأنكى من كل هذا أن أصحاب هذه السجون الكبرى لا يكفون عن مطالبة سجنائهم أن يكونوا هم الحرّاس المباشرين على ذواتهم. فالحريات الشخصية والعامة لا تموت من تلقاء نفسها الا عندما يصبح ضحاياها حلفاءَ موضوعيين لجلاديهم، أي عندما يلزمون أنفسهم بالانقياد ‘الطوعي’ كذلك لشريعة الخوف كتسويغ أخلاقوي لمفردات الانصياع ومعاقرة طقوسه ومباذله اليومية الفاجرة.
غير أن تاريخ المعتقلات يحدثنا أنه مهما تضّخمت حجوم السجون لا يمكنها أن تستوعب شعوباً كاملة. وإن كان للاستعمار التقليدي بعض التجارب المريعة في هذا الصدد. لكن أنظمة الطغيان العربي كانت لها مساهماتها الناجحة في ابتكار نوع المعتقلات الجماعية بما كان يساعدها في إلقاء القبض العقلي وحتى الجسماني على المجاميع السكانية، حتى وهم في بيوتهم ومع أطفالهم. كانت حيطان البيوت كأنها مزروعة بآذان الطاغية.
أربعون أو خمسون عاماً من أسر معظم المجتمعات العربية في معتقلات الخوف والذل إزاء النفاق السلطوي. كانت تكدّس رمادَ الكرامات المسحوقة، لتنفجر في لحظات موعودة، حِمماً جماهيرية هائلة، قد تصلح وقوداً لثورات سياسية كبرى، كما يمكنها أن تحرف ثورات أخرى عن شرعتها الإنسانية الأصلية التي انطلقت منها. وفي مفصل هذا الانحراف تترعرع فوضويات الغرائز الجمعية المكبوتة في ظل انعدام رقابة ثورية عامة أو دولانية. و’الإرهاب’ هو أخطر محرض لهذه الغرائز، وأذكى مستغل لصخبها وغضبها العفوي. فيمنحها بعض العقلنة تحت هالة الأيديولوجيات المؤسطرة دينياً وعقائدياً.
الإرهاب ليس حالة طارئة، ولا هو فقط من صنع الأجهزة الاستخبارية، دولية أوإقليمية، فإن له مواده الأولية، متوفرةً في واقع الطغيان السلطوي الذي ناءت تحت كلكله معظم مجتمعاتنا على أثر الهزيمة القومية الشاملة أمام الغزو الصهيوني واستقرار دولة اسرائيل ما وراء الحدود المسروقة من جغرافية محيطها العربي حولها. فلم يزدهر الارهاب إلا على أطلال هذه الهزيمة المتمادية إلى ما بعدها، أي بامتناع المهزومين عن معاودة إعداد قواهم للرد المحتوم بنيوياً وتاريخياً. فقد صنع الطغيان السلطوي من دول المحيط العربي حول حدود اسرائيل، المسروقة، من شمالها وشرقها وجنوبها، صنع منها قلاعَ حراسةٍ حاميةٍ لتلك الحدود، وضد كل حراك ثوري جديد عازم على استرداد الكرامة المهانة مع الأرض المسلوبة، واستئناف صراع الوجود، وليس الحدود وحدها، ضدالغزاة الصهاينة الطارئين.
الإرهاب هو الابن غير الشرعي للطغيان. ودولة القمع التي تستبدل عدو الخارج الغازي، بعدو الداخل المصطنع، جاعلة من حقوق الإنسان أهدافاً (وطنية) للقتل والاضطهاد والتحريم شبه الديني، هي الداعية المبّشرة بثقافة الإرهاب، حيثما يغدو العقل الفردي والجمعي، هو المطارَد والمنفي المستديم، والمدان بـ’جرائم’ الحريات الطبيعية والمكتسبة. لن يتبقى غير القتل كمؤسسة وحيدة لانقيام الحضارة. مجرد مصطلح لفظي لأحدث وسائل القتل والتعذيب والإذلال.
عندما تصاب دولة القمع بأصناف الطغيان، عندما يصبح أمن السلطات مشروطاً بفعالية الطغيان وحده، تنتحر أواخر ما تبقى من مفردات الحياة السياسية العامة. حتى مظاهر الدعايات السلطانية الكاذبة قد تفقد جدواها. ينحدر الطغيان نفسه من قمة السلطة ليترجم بعض جحيمه العلوي إلى براكين إرهابِ الهوامش المجتمعية. فلن يتبقى ثمة فارق في الطبيعة أو في الدرجة بين طغيان القمة وإرهاب المهمشين؛ فينسحب المجتمع الأصلي إلى ما وراء الأحداث العامة أو المعلنة، ناجياً بما تبقى له من مصالحه وأهدافه الحيوية المباشرة.
تتضاعف مهمات الثورة إزاء هذه التحولات البائسة. تكاد تضلّ أرضَها وميادينها وشعبها. لكنها مضطرة دائماً إلى اجتراح وسائل النصر ما بين جلاميد الطغيان السلطوي والإرهاب الشعبوي. إنها الواعدة بإعادة إحياء السياسة ما بين العقول والقلوب؛ فالبشر لا يمكن اختزال تصنيفهم ما بين خانة للأسياد وأخرى للعبيد. فما عليها أن تحققه عودةُ السياسة يوماً ما إلى كل غابةٍ متوحشة هو أن تحرر الحشود من الانحصار ما بين معسكرين للآكلين والمأكولين؛ ذلك أن الثورة الحقيقية هي آخر مشروع تاريخي في ثقافة التطور، هادف إلى غاية أحادية، أن يعيد الثقة إلى البشر الصادقين بقدرتهم على إبطال كل التصنيفات السابقة على الثورة، والبدء أولاً هو الانفكاك الإرادي من بين فكيْ هذه الثنائية الزائفة؛ إما أن تكون طاغية أو إرهابياً.
فما زالت للحرية الحقيقية حكمتها الأخيرة، والمهم أن نترقبها، ونكتشف صوتها البريء وسط هذا الصخب الدموي المتصاعد يوماً بعد يوم.
لا سبيل إلى مواجهة حاسمة مع الإرهاب ما قبل انهدام قلاع الطغيان على رؤوس رموزها وحراسّها وحواشيها . والربيع العربي يعي أن معركته أمست مضاعفة الميادين ما بين العنوانين المشؤومين، لكن الطغيان سيظل هو سبب كل علّة في مسلسل الخيبات التي أمسى ينوء بحملها ثلاثة أجيال من ثوارنا المتتابعين دون كلل أو ملل . فحين تتحقق بعض الأحلام الكبرى يصبح للتضحيات الكثيرة السابقة على تحققها قوة البراهين التاريخية الخالدة على صدقية المخيال الثوري العربي.
نسمح لأنفسنا أن نقول هذا القول، وإن كان له رنين صوتي حزين في هذه الظروف المعتمة التي تكتنف أخطر ما عاشه العرب في هذا العصر من أصعب الانعطافات الإنسانية وليس السياسية فحسب . ذلك أن جوهر الثورات التاريخية الغارقة في بحور الدماء غالباً، هو اعتقاد روادها أنهم قادرون في نهاية المطاف على اجتراح النصر لأممهم ما فوق المقتلات العبثية. وإنه اعتقاد قد أثمر قليلاً أو كثيراً نجاحاتٍ لحريةٍ لن تولد كاملة دفعة واحدة. كما حدثنا التاريخ وليس الفكر وحده.

‘ مفكر عربي مقيم في باريس