رؤيا سندباديّة
عندما غادر الشابّ القروي العشريني يحيى النميري النعيمات (1955) بلدته التي تقع في أطراف البلد نحو العاصمة عمان، لم يكن يدري أنّ الطريق إليها، ثم إلى غيرها من عواصم العالم حتى حاضرة الضباب، بذريعة الكتابة والانخراط في حياة ثقافية وإعلامية واعدة، قد تكون نَهْبًا لأطماع قدميه؛ فقد كانت السماء وقتئذ تتلفّع بالغيوم، التي تنذر بكل شيء، وبالأدخنة الساخنة التي تطلع من أراضي «الحلم العربي»، وتغشى رموز البعث الحضاري التي تغنّى بها الشعراء التموزيون وغيرهم؛ من لبنان والعراق واليمن ومصر.
كانت الطريق التي سلكها تمتلئ بمشاهد «الأرض اليباب» بإيحائها الإليوتي، وبطوابير النازحين الفلسطينيين، الذين هُجّروا من بلادهم بالنار والحديد، على نحو بات يكشف عن واقع إقليمي ممزق ومشرذم، وسط تحديات جيوسياسية متراصّة. لكنّه لم يتراجع، ولم يندب خيبات الرفاق ومواجع شعراء النبوءات الكبيرة، وواصل المغامرة من انحراف إلى آخر، وكانت تتشكّل في قرارة نفسه تلك العبارة اللغز، التي أفصح عنها ذات منفى آتٍ: «خفتُ أن أتلفّت ورائي فأراني». وبدل بالاسم اسمًا آخر يومض برمزيّة مخنوقة: أمجد ناصر.
هل هو قدرٌ آخر للسندباد على «طريق الشعر والسفر»؛ قدرٌ قاس وأكثر رهبةً؟ عندما أصدر «مديح لمقهى آخر» (1979)، دشّن هذه الرؤيا السندبادية التي سترافق كل مغامرات عمله الإبداعي شعرًا وسردًا، وهي رؤيا مرئية ومحسوسة وحادّة، استعاضت عن أجنحة إيكاروس التي خبرها من قبله ومات بسببها، بـ«عينين نافذتين» مثلما أشار إلى ذلك سعدي يوسف في تقديمه للباكورة الشعرية، تخترقان ما هو سائد ومعطى ولا تثقان في نتيجة الإثمار الفوريّ؛ أي ظلت بمنأى عن الشعارية الأيديولوجية، وفي المقابل كان تستبطن داخل الاحتفاء بتفاصيل اليومي المحسوس سياسات الدالّ الشعري «حيث تشرع الكلمات في تأسيس معانٍ مختلفة عن المعاني المتداولة… المستنزفة». وقد مثّل امتحانًا أوّل لتجريب نظره الشعري في علاقته بالمكتوب، ستكون له ارتدادات جمالية خطيرة، ليس على عمله الشخصي، بل على مجمل ما كان يُكتب خلال السنين التالية.
في مكان آخر، كان صلاح عبد الصبور قد شارف على نهايته المفجعة بعدما أحسّ بفداحة المشروع الرؤيوي وخذلان الرفاق ولا جدوى «الصرخة في البرّية»، وترك للسندباد أن يوغل في الرحلة بدلًا عنه، وكأنّي بأمجد هو صاحب هذه الرحلة الصعبة التي عليها أن تفتح هداياها ومفاجآتها الباقية للآتين، لأنها ليست لأحد بعينه، وهي لا تعني امتدادًا لمشروع ما، بقدر ما هي تجاوز وانشقاق وعدم رضا، أو هي إيغال وكفى. «سندباد برّي» بتعبير عباس بيضون: في يده خطيئة ابن مقلة، وفي اليد الأخرى مصباح ديوجين، فما أكثف ليل الكتابة وأكذب نهارات الواقع.
من منفى إلى آخر
بدا «المديح» بنبرته الاغترابية أبعد من أن يكون تصالُحًا مع الذات في مكانها الجديد، بل بالأحرى نشيدًا تأبينيًّا لهواجس الذات التي انقذفت خارج المكان الأصل، ووجدت نفسها قَسْرًا في المكان «اللامكان» إذا صحّ أن نقول، فالمقهى مكان عبور لا إقامة، وبالتالي لا رجعة للذات عن المغامرة «هناك» فيما هي تمتلئ بقيم الحلم والغضب والتمرُّد للعبور إلى الطرق المنحرفة، ولسان حالها أن تزحف على «قلاع ودساكر العالم القديم». يوتوبيا، وفي جزء منها فطرة البدويّ وتذمُّره السريع من عالم يتحول، بل ينهار أمام عينيه: «والشِّعر ينأى/ وتنأى الأغاني/ وينأى الوطن».
لا يعرف على أيّ أرض يقف، لأنّ مبدعًا مثله، قلقا ومسكونا بشريعة البحث الدائب عن المعنى أو ما بقي منه في عتمة المستقبل، ولأنّ قلبه مفعم بخضرة دائمة، لا يترك المصباح يسقط من يده لحساب «راية بيضاء»، وأما الخطيئة أمام الفظاعات الكبرى فليس لها سوى أن ترعى «دليل الحائرين».
يظهر أنّ هاجس الذات الواعية بمصيرها القاسي أخذ يتبلور كخصيصة نصية، بله حالة كتابيّة جوهرية، في الدواوين الثلاثة التالية: «جلعاد كان يصعد الجبل» (1981) و«وصول الغرباء» (1990) و«رعاة العزلة» (1996)، ويرتفع بالعبور إلى كونه وسيلة عزاء وأداةً لاختراق المكان وبحث المفقود والمحلوم به باستمرار، على نحو يجعل الهوية بدورها مثار قلق وتغيّر دائمين، وهذا ما ينعته رشيد يحياوي بـ«الرؤية العبورية» بوصفها ضرورة وجودية في اختراقها الأمكنة والتعبير عن تشظِّيات الذات ورؤيتها للعالم المتبدّل. وقد تنوّعت أفعال العبور تبعًا لتطور تجربة الكتابة وأقانيمها «تحت أكثر من سماء»، على صعد الثيمات والرؤى والأشكال: العبور الجماعي، والعبور نحو الشتات، والعبور التطهيري، والعبور بالخفّة، والعبور إلى الجسد، ثم العبور في الأشكال، بوصفها مكاناً لعبور الكتابة نحو تحقيق مغامرتها، ليس فقط داخل شرط قصيدة النثر التي ابتدع فيها الشاعر أسلوبًا غير مألوف كما في «حياة كسرد متقطع» (2004)، بل كذلك قياسًا إلى التوتُّر الأجناسي بين الشعري والسردي، أو الانتقال من نوع أدبي إلى آخر من الأنواع التي كتبها الشاعر (رحلة، يوميّات، مذكرات، رواية، شذرات..).
وفي زعمي، أن التجربة برمّتها تفصح عن محفلين رئيسين متساندين؛ إذ يمثل كل واحد منهما تأويلًا للآخر:
– أوّلًا؛ هي تمثل مهجريّة جديدة في أدبنا المعاصر، أخذت تتوسع في تلك الحقبة وانضوى تحتها أطيافٌ من الجوّالين الهائمين الذين يقتفون آثار عوليس والسندباد بسبب من الوضع السياسي الجبري. وقد نشأت هذه المهجرية عند الشاعر منذ أن غادر وطنه وآثر المنفى والإقامة فيه اختياريًّا ومواجهته له في حضرة رعب الوجود وقسريّته، منفيًّا ومُطارَدًا في أتون أسئلة المصير والهويّة الملغزة على نحو ما يولِّد لدى الذات الفردية رَقْصًا على الأجناب بين الـ»هنا» والـ»هناك».
من منفى إلى آخر أكثر عرامةً، مع ما ينطوي تحت هذا أو ذاك من مفاهيم القلق والحيرة والبحث بالمعنى الوجودي، وأشكالٍ من التغرُّب والتيه والإحساس اللذوعي بسؤال الكينونة، أو الموتيفات التي ترخي على ذات الكتابة وهويّاتها أبعادًا وتأويلات متنوعة في سياقٍ مُعَوْلم وتستضيء باستراتيجية «الحضور الغياب»، لم يعد مهجر أمجد ناصر مهجرًا بالمعني القديم، لكنّه ليس المكان الذي تقلّ احتمالات عودة من يذهب إليه، ولا هو بمنأى عن مجريات الأحداث في بلده الأمّ. من هنا، ظلّ الشاعر في عبوراته يستثمر الهجرة كأفق للكتابة، بكيفيّةٍ توازيها قدرة الذات الكاتبة على التخييل والاندماج في مغامرة البحث عن نفسها داخل فضاء تتجاذبه مطالب «الهوية المفتوحة» وجدلية «الأنا» و«الآخر» غير القابلة للانفصام.
– ثانيًا؛ هي تكشف عن ظهور وعي حداثي مضادّ، بارودي وساخر، لاذ باستراتيجيات كتابية ستعمل على تنويع مرجعيات الذات والنص والعالم؛ وذلك منذ أن انزاحت من قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر، ومنها إلى الكتابة عبر النوعيّة، فلم يعد يعنيها يوتوبيا الأنا الشعري التي اطمأنّت إلى خلق أوطان بديلة بالرمز والأسطورة، أكثر من اهتمامها باكتشاف مناطق تعبير جديدة وجدت مُتنفّسها في أشكال من الاحتجاج الساخر والتهكم والمفارقة والمرح الديونيزوسي، كأنما هي تعويض عن «اللاشعور السياسي»، الذي أعلن خروجه على طرق التعبير والبلاغة المستقرة أو التي أصبحت سلطة في شكل قوالب وأنماط محددة.
وإذا كانت بعض التجارب ركّزت على الدال وأشاعت الغموض و«عطالة» الدلالة، فإنّ تجربة أمجد ناصر لم تهدم العلاقة بين دلّ وفهم، وظلّت الأدلة تحيل على مرجع ما، ليس ظاهر العيان، ولكن يتطلّب من قارئه بلاغةً ما.
لقد ظلّ أمجد ناصر ماشيًا بيننا منذ أربعين سنة، في طريق ملغزة لا تنتهي، يكتب مغامرته ويُكبّ عليها من لحمه وروحه بلا كلل، ولا يعرف على أيّ أرض يقف، لأنّ مبدعًا مثله، قلقا ومسكونا بشريعة البحث الدائب عن المعنى أو ما بقي منه في عتمة المستقبل، ولأنّ قلبه مفعم بخضرة دائمة، لا يترك المصباح يسقط من يده لحساب «راية بيضاء»، وأما الخطيئة أمام الفظاعات الكبرى فليس لها سوى أن ترعى «دليل الحائرين».