نظرية الأمن الشامل التي من المفترض أن توفرها المنظمة الأممية، أضعفتها النزاعات الجيوسياسية التي تتصاعد وتيرتها، في الوقت الذي تغيب فيه بشكل واضح استراتيجية عمل أممية لمواجهة ما يهدّد البشرية من الأخطار والأزمات المتعددة. منظمة الأمم المتحدة التي جاءت لتعوض فشل منظمة عُصبة الأمم تفشل بدورها في تنظيم العلاقات الدولية، وإنصاف الشعوب، وتدارك أخطاء بدايات القرن الماضي. يبدو أنه بالفعل العالم أكبر من خمس دول تتحكم في مصير الأمم والشعوب، وفق قانون وضعه المنتصرون في الحرب الكونية الثانية. وهذا الواقع الدولي وصل ذروة عقمه القانوني والسياسي، ولم يعد قابلا للاستمرار في نظر العديد من الدول والقوى الصاعدة، التي تربطها تحالفات وتسعى لبناء تكتلات كبرى لإعادة توزيع القوة الاستراتيجية.
الولايات المتحدة في هذا العالم، الذي تظهر بوادر إعادة تشكيله من جديد، تجد صعوبة كبيرة في أن تهضم حقيقة تراجع تفوّقها المطلق في المجال الاقتصادي، وفي ميدان التكنولوجيا العسكرية الحديثة والمتطوّرة، هذه المجالات تميل كفّتها لصالح الصين وروسيا الاتحادية. وآخر تمظهرات هذه القوة المتنامية التي تسعى للتفوق على من تقود قاطرة العولمة والتحكم في اقتصاديات العالم، وإدارة التوازنات لما يزيد عن عقدين، ما كشف عنه البنتاغون من تجاوز الصين لأمريكا في مجال القوة العسكرية البحرية، بشكل لا يمكن لواشنطن مسايرته أو اللحاق به ولو في المدى المنظور. إنّ انسحاب أمريكا المذل من أفغانستان، وأيضا حربها الهجينة ضد العراق، وما خلفته من وصمة عار نتيجة ما فعله المحافظون الجدد وقتها، هي حصيلة تعكس إخفاق الإدارة الأمريكية في ما سمته «عالمية الحرب على الإرهاب»، التي أعلنها منظرو الحرب من صقور الجمهوريين، إثر سقوط برجي التجارة العالميين، وما يشهده العالم اليوم من تعقيدات في الصراع الدولي والتحدّيات العالمية في شرق آسيا وعلى الجغرافيا الأوراسية، وكذلك في الشرق الأوسط، جميعها تنبئ بمرحلة جديدة معقدة، ليست بتلك السهولة التي أتيحت للولايات المتحدة الأمريكية إثر انهيار الامبراطورية السوفييتية، حين وجدت نفسها أمام طريق مفتوحة لإعادة تشكيل نظام عالمي يكون أحادي القطب، لم تكتف فيه بممارسة الهيمنة على المنطقة العربية فحسب، بل امتدّ طموح سيطرتها على أجزاء كثيرة من العالم، في غياب الخصم القوي الذي كان يفرض التوازن، ويمنع تفرّدها وغطرستها المكشوفة.
الواقع الدولي وصل ذروة عقمه القانوني والسياسي، ولم يعد قابلا للاستمرار في نظر الدول والقوى الصاعدة، المرتبطة بتحالفات وتسعى لبناء تكتلات لإعادة توزيع القوة الاستراتيجية
بسبب ما أقرت به النيوليبرالية من أسس وقواعد ربحية ذات أولوية، تغاضت الحكومات عن نزعات لا ديمقراطية داخل الانتخابات والمؤسسات القومية. وحتى الديمقراطيات الغربية الأقدم تختبر في الوقت الراهن صعودا غير متساو، وركودا اقتصاديا، أزمة مالية، واستقطابا سياسيا وطريقا مسدودة بسبب أزمات الطاقة والغذاء والتضخم المالي وغلاء الأسعار، وهي تفشل في التعامل مع هذه المشكلات بل تزيدها تعقيدا بسبب دعمها للحروب ومزيد إشعال فتيلها، عوض العمل على تسويات سياسية لإعادة ترتيب مناخ مضطرب ومتأزم، يحدث على الجغرافيا الأوروبية، كما كان الحال زمن الحربين العالميتين. الغرب يشدد على فكرة عدم استخدام السلاح الأطلسي داخل العمق الروسي، بالتوازي مع تقديمه الأسلحة الفتاكة والاستراتيجية لأوكرانيا، وتأكيده على حقها في المواجهة على نحو الإصرار على استمرار الحرب من جهة اصطفاف الناتو حول كييف في مواجهة القوات الروسية. هل هي حرب بالوكالة أم تورط مباشر؟ الأمور بدت مكشوفة في هذه المرحلة أكثر من الفترات الماضية من زمن احتدام المعارك. استولى الغرب على احتياطيات النقد الأجنبي الروسية. من ناحية أخرى، دفعت العقوبات الأخيرة التي سلّطها الغرب الأطلسي على موسكو، إلى البحث عن الذات بشكل مكثَّف بين بقية البلدان، التي لا تعتمد على الدولار. وقد أثبتت حرب الرسوم الجمركية الأمريكية مع الصين، وحرب العقوبات المالية مع روسيا، صحة هذه المخاوف، وأظهرت الخطر الواضح والقائم، الذي يواجهه البلدان رغم قوة الموارد التي يمتلكانها. في الأثناء، الصين أشارت إلى أنّ لعبة القواعد وتغيير الأنظمة التي مارستها واشنطن مع حفنة من البلدان لن تقودهم إلى أي مكان بعد الآن، ما يعني تمسكها بإعادة توزيع القوة الاستراتيجية، ووضع خط عريض تحت ما يسمى النظام الدولي القائم على قواعد. هذا النظام انتهى في نظر بكين وموسكو أيضا، ولم تعد العربدة والتدخل الخارجي وإسقاط الأنظمة وتفتيت الدول متاحة لأمريكا وحلفائها المتذيلين، كما كان الحال لأكثر من عقدين. ومع أن الأمن القومي يأخذ أبعادا جديدة، والمنافسة بين القوى العظمى تنتقل إلى مجالات مختلفة، فإن الإدارة الأمريكية لم تستطع حتى الآن أن تواكب التطورات. فالتمويل الحكومي للأبحاث التكنولوجية في القطاعين العام والخاص واصل انخفاضه بمرور السنوات، واحتفظت وزارة الدفاع بأكبر نسبة من التمويل، لكن تلك الجهود أصبحت مشتتة عبر مختلف الوكالات والإدارات، وكل منها يسعى لتحقيق أولوياته الخاصة في غياب استراتيجية وطنية. وبالنظر إلى ما يحدث في بحر الصين الجنوبي وغيره من بؤر التماس المرجّحة بين الصين وأمريكا، لا تزال مخاوف واشنطن من التقدم التكنولوجي الصيني تتركز بالأساس على الجانب العسكري، في حين أن القدرات الدفاعية ليست سوى جانب واحد من صراع الريادة التكنولوجي بين القوى العظمى. في الداخل الأمريكي، يتقلّب المسؤولون العاملون. ويتململ قادة البنتاغون عاجزين عن قول الحقيقة. كذلك يفعل سكريتاريات الصحافة في مناصبهم، محاولين عدم قول أيّ شيء قد يُوقعهم أو يُوقع رؤساءهم في ورطة ما. لا يتمثّل الخطر في تقدير ستيفن والت في أنّهم سيمُسَكون لكذبة ما، بل يكمن الخطر الحقيقي في أنّهم قد يتكلّمون بالحقيقة بشكل عفوي من غير قصد. كيف يُمكن للمرء أن يحظى بمناقشة صادقة حول الإخفاقات المتكرّرة لسياسة الولايات المتحدّة في الشرق الأوسط، أو في منطقة القوقاز، أو افريقيا التي يُسلب فيها نفوذها، حينما قد تكون هناك عواقب مِهنيّةٌ كالحةٌ ناتجةٌ عن تحدّي وجهات النظر التقليدية؟
من الطبيعي أن يفسح النظام العالمي المتحوّل الطريق لمزيج متنوّع من النزعة القومية الحِمائية، ولمجالات النفوذ والمشاريع الإقليمية للقوى الكبرى. صراع عالمي لإعادة توزيع القوة في النظام الدولي تتجاوز أبعاده المعارك التي تجري في أوكرانيا. وعدم وجود حل دبلوماسي محتمل، يوفر حافزا إضافيا لموسكو وواشنطن لتسلّق سلم التصعيد، الذي يمكن أن يبلغ في أعلى درجاته شيئا كارثيا حقا. التهديد باستعمال النووي أكبر خطر محدق، وتزويد أوكرانيا بأسلحة تصل إلى العمق الروسي، هو دفع واضح نحو تطور المواجهة إلى سيناريوهات فادحة. ومن الغريب أن يتحدث الغرب وأمريكا تحديدا بأنّ وجود حلف شمال الأطلسي شرق أوروبا، وفي كل من بحر البلطيق والبحر الأسود، غرضه دفاعي وليس لاستفزاز أحد. وماذا عن محاولات ضم دول أخرى للحلف على غرار فنلندا والسويد، وربما أوكرانيا، وهي دول محاذية لروسيا وتنتمي لاتحاد الجمهوريات السوفييتية سابقا. من المهم جدا أن نفهم كما أكّد ميرشايمر أيضا أن الولايات المتحدة اخترعت هذه القصة عن أن بوتين شديد العدوانية. وأنه مسؤول بشكل أساسي عن هذه الأزمة في أوكرانيا، وتدور الحجة التي اخترعتها مؤسسة السياسة الخارجية في الولايات المتحدة، وفي الغرب بشكل عام، حول الادعاء بأنه مهتم بإنشاء روسيا عظمى، أو إعادة إحياء الاتحاد السوفييتي السابق.
كاتب تونسي