بعد عشر سنوات من الربيع العربي الذي تحول إلى صيف ساخن متوتر ثم إلى خريف وشتاء بارد، تحتاج النخب السياسية في الدول العربية إلى إعادة قراءة المشهد، لاستخلاص الدروس والعبر والاستعداد لجولة جديدة من جولات التغيير، فالحلم لم يسقط، لكنه وقع في مواجهة حقائق صادمة. الربيع العربي كان انتفاضة لتحقيق الحرية والانعتاق من سلطة الحاكم الفرد، بهدف تحقيق التنمية وتوفير لقمة العيش الكريمة وفرص العمل الشريفة النظيفة، وإقامة العدل في بلدان محرومة منه منذ قرون من الزمان. النظم القائمة في العالم العربي فشلت حتى الآن في اجتياز الاختبارات الرئيسية التي تمنحها مشروعية الاستمرار. فشلت في اختبار التنمية، وفي إتاحة فرص العمل، والعدالة، والديمقراطية، وفشلت في اختبار توفير الرعاية الصحية لمواطنيها، والاعتماد على الإرادة الوطنية في تحقيق الأمن القومي. فشلت حتى في منح مواطنيها الشعور بالأمل في غد قريب، فماذا تبقى لها من مقومات المشروعية بعد ذلك؟
وفي هذا السياق أتناول رؤية لثورات الربيع العربي من منظور غير عربي، حيث أعرض بعض ملامح تقييم اثنين من أهم المفكرين في العالم لثورات الربيع العربي، وأشير باختصار إلى بعض ما جاء عن ثورة 25 يناير وثورات الربيع العربي لدى كل من هنري كيسنجر في كتابه “النظام العالمي” وفرانسيس فوكوياما في كتابه “النظام السياسي واضمحلاله” الذي يمثل الجزء الثاني من كتابه الضخم عن نشوء وتطور واضمحلال النظم السياسية في العالم.
وحتى نستفيد من ملاحظات كل من كيسنجر وفوكوياما أعرض النقاط التالية استنتاجا من دراسات كل منهما:
أولا: التغيير السياسي وسيلة وليس غاية. وقبل أن تفكر في التغيير عليك أن تعرف أولا ما هي الغاية منه، وأن تعرف كيف يمكن أن تتحقق. وقد أكد كيسنجر أن الحكم على الثورات يكون بما تنتهي إليه ويتحقق بعدها، وهو ما يعني ان طبيعة الثورة لا تتحدد بطبيعة القوى التي قامت بها، أو الشعارات التي ترفعها، وإنما تتحدد بما تنتهي إليه من نتائج. وربما يكون ذلك أقسى الأحكام التي أصدرها كيسنجر على ثورات الربيع العربي.
ثانيا: أن النظام السياسي له مقومات أساسية يجب أن تتوفر في كل وقت، لأنها إذا غابت فإن الفوضى تحل محلها. فوكوياما تناول هذه النقطة بعناية وتفصيل في دراساته، لأن هذا هو موضوعه الأكاديمي، بينما كيسنجر يتناول العلاقات الدولية حتى وهو يعرض التناقض بين مفهوم الدولة الويستفالية، والمفاهيم الأيديولوجية المتداولة عن الدولة في الشرق الأوسط.
ثالثا: أن الديمقراطية الليبرالية عملية سياسية طويلة المدى، وليست انتقالا من حالة إلى حالة، وهي تحتاج لنضال طويل من أجل تحقيقها، والاستمرار في النضال لحمايتها وتطويرها.
رابعا: الثورة هي أيضا عملية سياسية، وليست مجرد قدرة على إسقاط حاكم، فاسقاط الحاكم ليس ثورة، وإنما هو خطوة تؤدي لخلق حالة فراغ سياسي يستفيد منها الطرف الأكثر تنظيما، والأشد قوة لفرض سيطرته وإدارة مؤسسات الحكم.
رابعا: من المهم جدا أن نتأمل ملاحظات هنري كيسنجر عن شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” الذي كان شعار كل ثورات الربيع العربي، والتحالفات التي دخلت فيها القوى الديمقراطية مع قوى ذات مصالح متناقضة، خصوصا في مصر وتونس.
خامسا: التقييم الذي قدمه كيسنجر عن السياسة الخارجية الغربية تجاه البلدان العربية شديد الأهمية، خصوصا الاستنتاج القائل حكومات الديمقراطيات الغربية انتقلت من تشجيع الثورة إلى “تشجيع التغيير من الداخل”. وأظن أن الإدارة الجديدة في البيت الأبيض ستتبنى هذا المنطق.
سادسا: قراءة كل من كيسنجر وفوكوياما وغيرها من علماء السياسة البارزين في العالم تؤكد أن السياسة علم، وأن التغيير علم، وأن الثورة علم، ولن يستطيع جيل الربيع العربي أن يتقدم وأن يحقق الحلم إلا بالعلم والجدية والوعي بمتغيرات الواقع المحلي والعربي والخارجي.
إن حلم تحقيق طموحات الربيع العربي لم يمت وما تزال جذوته مشتعلة. كما أن بناء الديمقراطية هو عملية تاريخية ممتدة، وليس انتقالا من حالة إلى حالة بين عشية وضحاها.
غياب المؤسسات
يقول فرانسيس فوكوياما في كتابه “تطور واضمحلال النظام السياسي” (2014) أن انتشار الديمقراطية يعتمد أساسا على مدى قبول شرعية مفهومها الذي يعتبر أن كل المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات وشروط المشاركة السياسية. ويستخدم الأكاديميون في مجال العلوم السياسية في الوقت الحاضر مصطلح “الطلب على الديمقراطية” لقياس درجة قبول مشروعية الديمقراطية، فكلما زاد قبولها تزيد الحاجة إلى إقامتها. وقد تناول فوكوياما ثورات الربيع العربي وعلاقتها بتطور النظام السياسي في كتابه المذكور، واستنتج أن إحدى المشاكل الرئيسية التي تواجه واقع ما بعد الربيع العربي في بعض البلدان مثل ليبيا يتمثل في غياب المؤسسات الضرورية، وأنه لحل تلك المشكلة يجب أن يوجد مصدر واحد رئيسي للسلطة، التي تمارس شرعية احتكار القوة في البلاد، وبدون ذلك لا يتوفر الأمان ولا فرص الازدهار الاقتصادي لأي مواطن. هذا الحل الذي يقدمه فوكوياما لا يعني بالضرورة إقامة نظام ديمقراطي، وإنما يعني فقط توفير الحد الأدنى من الشروط اللازمة لإقامة “نظام سياسي” ينهي حالة اللانظام والفوضى التي تلت ثورات الربيع العربي.
عجز القوى الديمقراطية
وكشف هنري كيسنجر في كتابه “النظام العالمي” (2014) أهم المعضلات التي واجهتها ثورات الربيع العربي وفشلت في حلها، وهي كيفية التعامل مع الفراغ السياسي الذي نشأ بعد سقوط رموز الحكم الفردي. وقال أن شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” الذي تردد بقوة في ميادين التحرير في مصر وتونس ودول الربيع العربي عموما لم يقدم إجابة على سؤالين رئيسيين، الأول يتعلق بتعريف كلمة “الشعب” تعريفا سياسيا دقيقا، والثاني يتعلق بطبيعة النظام الذي سيحل مكان السلطة القائمة. ومضى في تحليله مؤكدا أنه بمجرد نجاح ثوار ميدان التحرير في تحقيق هدفهم الأولي بإسقاط مبارك، فإنهم بذلك فتحوا بابا واسعا للصراع بين النظام الذي ظل قائما بأيديولوجيته كما هي، وبين الأيديولوجية الجهادية للإخوان المسلمين. من وجهة نظره فإن إسقاط مبارك كان لحظة فارقة بين النظام وبين الفراغ السياسي، الذي أصبح محركا لصراع عجزت عن المشاركة فيه بفاعلية القوى والعناصر الديمقراطية، التي تمتعت بقيادة الميدان، لكنها لم تكن تملك المؤسسات والقدرات التنظيمية والتعبوية للاستمرار في صراع لإدارة وإعادة تشكيل مؤسسات الدولة. ويصطدم هذا التقييم مع ما يتفاخر بعض قيادات الربيع العربي من أن عظمة تلك الثورات أنها كانت “بلا قيادة”. وقال كيسنجر أن القوى صاحبة الايديولوجية الدينية والعسكرية برهنت على أنها أقوى وأفضل تنظيما من عناصر وجماعات الطبقة الوسطى في ميدان التحرير.
الحريات والقيم الديمقراطية
هذه المعضلة التي واجهتها ثورات الربيع العربي في الداخل كانت تقابلها معضلة سياسية كبرى في السياسة الغربية تجاه المنطقة. وقال كيسنجر أنه على الرغم من تأييد الديمقراطيين والجمهوريين للثورة والتغيير، فإن وجهات النظر في الحزبين انقسمت بين تيارين، الأول يتبنى أسبقية “القيم الديمقراطية” والثاني يعطي الأسبقية لـ “الاحتياجات الاستراتيجية” المتعلقة بتوازن القوى في المنطقة. وقد وجد التيار الأول أن الفرصة أصبحت سانحة للمرة الأولى منذ منتصف القرن الماضي لتعزيز قوة التيار الديمقراطي الليبرالي في مواجهة أيديولوجيتين شموليتين هما الحكم العسكري، والحكم الديني. بمعنى آخر فإن كيسنجر يعترف ضمنا بأن الاستقطاب السياسي الحقيقي في مصر قبل ثورات الربيع العربي كان بين تيارين، هما التيار الديني المتمثل في الإخوان المسلمين والحركات الإسلامية الجهادية، والتيار القومي الذي يحكم بقوة المؤسسة العسكرية. ومن ثم فإن لحظة الثورة في ميدان التحرير كانت بارقة أمل لإنهاء ذلك الاستقطاب وفتح الباب لقوة ثالثة، هي التيار الديمقراطي الليبرالي، لكن هذا التيار كان يعاني من عجز في القدرات التي يمكن أن تجعله لاعبا رئيسيا قادرا على الاستمرار في الصراع، وانتهى به الأمر للتحالف مع مرشح الإخوان مرة، ثم التحالف مع المؤسسة العسكرية للتخلص من حكم الإخوان في المرة الثانية.
التعارض بين المصالح والقيم
أما التيار الثاني في السياسة الغربية تجاه ثورات الربيع العربي وما تلاها من حالة فراغ سياسي وصراعات، فإنه انطلق حسب كيسنجر من أولوية الاحتياجات الاستراتيجية وعدم الإخلال بتوازن القوى في المنطقة. وعلى الرغم من أن إدارة أوباما في ذلك الوقت أيدت رحيل مبارك، وأعلنت خطة للانتقال السياسي في سوريا داعية الأسد إلى التنحي عن الحكم، وخسرت سفيرها في ليبيا الذي تم اغتياله في بنغازي، فإنها سعت في السنوات التالية للتصالح مع الأنظمة القائمة، بالدعوة التي أطلقها أوباما في خطابه من جامعة القاهرة، إلى ما يمكن وصفه بأنه عملية “إصلاح ديمقراطي من داخل النظام وليس من خارجه” خصوصا بعد أن اقتنع صناع القرار في الديمقراطيات الغربية ذات المصالح الكبيرة في الشرق الأوسط، بأن إمكان تحقيق انتقال ديمقراطي من خارج النظام لا يجد التأييد أو القدرات في الوقت الحاضر. الأكثر من ذلك أن كيسنجر كشف النقاب عن حقيقة أن المؤيدين للانتقال الديمقراطي “لم يجدوا قيادات تدرك أهمية الديمقراطية إلا باعتبارها وسيلة لفرض سيطرتهم”. ولذلك وخوفا من انتشار الفوضى وتهديد المصالح الاستراتيجية، فإن صناع السياسة الغربيين وجدوا أن الطريق العملي في الوقت الحاضر يتمثل في تأييد الوضع القائم في كل من مصر وتونس، مع العمل على إصلاح الأوضاع غير المستقرة في البلدان الأخرى بما فيها ليبيا وسوريا واليمن، بما يحقق أولا إقامة “نظام سياسي” بالمفهوم الذي عرضه فرانسيس فوكوياما، وليس بالمعنى الديمقراطي الليبرالي، مع العمل على تشجيع الإصلاح السياسي من الداخل، وهي الاستراتيجية التي تميل إليها الإدارة الجديدة في البيت الأبيض.
تناقضات تنتظر الحل
ومن أهم الاستنتاجات التي قدمها كيسنجر في تحليله أن ثورات الربيع العربي “كشفت عمق التناقضات السياسية الداخلية التي تعيشها الدول العربية، لكنها عجزت عن تقديم الحلول لها”. هذا الاستنتاج ينطوي على حقيقة أن تلك التناقضات ما تزال قائمة، وأنها تنتظر الحلول العملية، وأنها حتى يتحقق ذلك لن تكف عن العمل، ولن تتوقف عن إفراز آثارها في كل نواحي الحياة. وكلما طالت فترة الانتظار للحلول كلما زادت حدة التقلصات وكلما تراكمت التشوهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهو ما نراه بوضوح في البلدان العربية بشكل عام، متجسدا في فساد العلاقة بين الدولة والمجتمع، ونضوب الروح المجتمعية، خصوصا بين الشباب، الذين أصبح حلم الأغلبية الساحقة منهم الهجرة إلى الشمال والغرب. لقد استطاع هنري كيسنجر أن يقدم تحليلا موضوعيا ومنصفا إلى حد كبير لثورات الربيع العربي. ويكفي في حق هذه الثورات أنها دقت جرس الإنذار، وكشفت التناقصات الداخلية العميقة التي تراكمت عبر عشرات السنين. وقال كيسنجر أن ثورات الربيع العربي جاءت حين أدرك جيل جديد من الشباب العربي أهمية القيام بانتفاضة من أجل تحقيق الديمقراطية الليبرالية، لكن هذا الجيل “تم إبعاده، وإرباكه، أو حتى سحقه”.
ومع ذلك فإن المخلصين لشعارات يناير يرددون بقوة حتى الآن شعار “لساها ثورة يناير”. الذين لا يدركون ذلك يجهلون التاريخ، ويتجاهلون دورة الحياة. إن ثورات الربيع العربي التي ألهمت عشرات الملايين من الشباب حول العالم، وثورة ميدان التحرير في مصر التي كانت أول ثورة في تاريخ البشرية يتم الحشد لها وتنظيمها لا مركزيا باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، ما تزال حتى الآن رمزا للأمل وللقدرة على تحقيق الحلم لتحقيق الحرية والعدالة والتنمية أو شعار “عيش – حرية – كرامة إنسانية” على الرغم من كل الحقائق الصادمة.
المقال عرض العديد من القضايا الجوهرية بافكار محللين استراتيجيين غير عرب، لكنه المقال برأيي اخفق في التأكيد على ام القضايا: الاقتصاد. فلم يعرف المقال مقصوده بالاصلاح التنموي؟ هل هي “اصلاحات” الدولة السلطوية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي؟ ام “اصلاحات” الليبرالية الجديدة منذ الثمانينيات حتى كارثة كورونا والازمات المالية والاقتصادية العالمية والعربية؟. وكلاهما اخفق في وعوده. سؤال وجودي بحجم العالم العربي.