شاهدت قبل أيام المسلسل الوثائقي «3 زوجات، زوج واحد» على «نتفليكس»، الذي يتابع جماعة مكونة من عدد من العائلات المرمونية الأصولية (المرمونية الأصولية تختلف عن المرمونية العادية) التي تعيش في بيوت عند قاعدة جبل سليكروك في مزرعة روكلاند في مدينة موب في ولاية يوتا. المسلسل الوثائقي يتابع زيجات عدد من هذه العائلات المرمونية الأصولية، والكيفية التي يحيون بها في جماعة متلاصقة سكنياً ومعنوياً. في الزواج المرموني الأصولي (خلافاً مع الزواج المرموني العادي) يسمح بتعدد الزوجات بل ويتم تشجيعه، حيث ينظر للعائلة على أنها تقريباً تمثل مملكة الله على الأرض، لذا فإن زيادة عدد أفرادها بزيادة عدد الزوجات والأبناء إنما هو بناء لمملكة الله وتقوية لها على هذه الأرض تمهيداً لصنعها المتقن في الحياة الآخرة، وتثبيتاً لفرص المشاركين في هذه العائلات لأن يحيون كآلهة في تلك الحياة الآخرة (إن كان فهمي صحيحاً للفكرة المرمونية الأصولية).
أعتقد أن المسلسل عسير المشاهدة على النساء تحديداً، فنحن وحدنا نعرف هذا الشعور (منا من اختبرته ومنا من شهدته في حيوات أخريات) لامرأة تتشارك برجلها مع أخريات تعلم أنه يحبهن قلباً ويرغبهن قالباً. مثل هذا الشعور لا يختبره رجل إلا وسيفه يسبقه لغسل شرفه، أما المرأة فهي في معظم المجتمعات، إلا ما قل وندر، تختبر هذا الشعور على أنه أمر إلهي وواجب مقدس يجب أن تقبله وتتقبله بل وتشجعه.
في آخر المسلسل المذكور يظهر كيف تدافع هذه العائلات، نساء ورجالاً، عن حقها في اختيار هذه الحياة ضد حكومة تحاول تجريم الزواج التعددي لتفرق عائلاتها وتسحب أبناءها منها. تُظهر آخر حلقة من الموسم الأول من المسلسل كسب هؤلاء للجولة الأولى من حيث عدم تمرير قانون التجريم، إلا أنه يتم إعلام المشاهدين كتابياً في قفلة الحلقة أن القانون هذا تم تمريره لاحقاً دون تطبيق عنيف له. المهم، أنك لا تملك سوى الإعجاب بإصرار هذه الجماعة على الدفاع عن حقها في ممارسة إيمانياتها، بل وبتنحيها جانباً عن المجتمع، من حيث العيش في هذه المزرعة البعيدة المعزولة، لتخفيف وطأة الشعور بالاختلاف ونبذ المجتمع لهم ونظرته الدونية لممارستهم. إلا أن مشاهدة طريقة صنع اختيارات العائلات هذه ودفاعها المستميت عن أسلوب حياتها، كل ذلك على خلفية من مشاعر وآلام ومعاناة نسائها، ويبعث كذلك على طرح الكثير من الأسئلة النفسية والفلسفية المستحقة حول الكيفية التي نحوّر بها نحن البشر أفكارنا وقبولنا للممارسات المختلفة، والكيفية التي نفلسف بها مستحقاتنا في الحياة ثم الكيفية التي نقنع بها أنفسنا بأننا مقتنعون.
في المسلسل تبدو النساء كتلات من المعاناة، وعلى الرغم من أن هذه الجماعة تقدمية فهي ليست مرمونية أصولية تقليدية، حيث الرجل يقرر كل شيء أو لديه إمكانية احتجاز النساء رغماً عن إرادتهن، أو تكويم الزوجات اللواتي هن دون السن القانونية. في الواقع، هذه الجماعة تبدو متقدمة الأفكار بنسائها القويات صانعات القرار والمختارات لهذه الحياة، واللواتي باستطاعتهن، على الأقل كما يبدو في هذا المسلسل، رفض أو قبول الرجل بإرادتهن، كما أنهن يعملن في وظائف ويتحركن في الحياة بحرية كاملة. الصغيرات منهن يمكنهن أن يمارسن «التودد» إن صحت الترجمة أو courting وهو تعبير مماثل لمفهوم المواعدة أو dating ولكن بمنع تام لأي تقاربات جسدية، وذلك بعد إعطاء أب الفتاة موافقته الصريحة على بدء العلاقة، حتى تستطيع الصغيرة والصغير أن يبدأوا التفكير في الزواج كمرحلة قادمة بعد أن يكبروا قليلاً.
رغم كل ذلك، لا تبدو أي من هؤلاء النساء سعيدة تماماً بالوضع المفروض، إنما هن يتحملنه إيفاء لواجبهن وطاعة لعقيدتهن وليضمنّ مقاماً رفيعاً في الآخرة. العائلة المرمونية الأصولية تعتبر كل أعضائها (الرجل وزوجاته) متزوجين من بعضهم البعض (لكن العلاقة الجسدية هي فقط بين الرجل والزوجة) وتقريباً يمكن النظر لكل الأطفال على أنهم أطفال العائلة. تعيش هذه العائلات عادة قريبة من بعضها بعضاً، وتكون لديها -كما يبدو تشجيعاً من تعليمات عقيدتها- أعداد كبيرة من الأطفال. يُظهر لنا المسلسل المعاناة التي تقع على العاتق النفسي لكل امرأة من هؤلاء وهي تحاول أن تتعامل مع قدوم زوجة جديدة لزوجها، أو مع استحقاق أيامه التي يقضيها ممارساً حياته الخاصة مع غيرها، حيث تعترف أكثر من واحدة منهن أن هذا الخيال يعذبهن أكثر من أي شيء آخر، زوجها ملاصقاً لغيرها. هناك طبعاً العناية المستمرة بالأطفال والمنازل ومحاولة إبقاء درجة من الاتفاق والسلام بينهن كزوجات، إلا أن كل ذلك يبهت حين تبدأ الزوجات في الكلام عن هذه الحرقة في الصدر حين يغادرها زوجها ليذهب بائتاً في بيت أخرى.
وعلى الرغم من أن التخطيط للزوجة القادمة يتم من قبل كل الأطراف وبقبول الجميع، إلا أنه من الواضح أن ذلك لا يتم برغبة من الزوجة في جلب امرأة أخرى لحياتها، وإنما يتم برغبة منها في استيفاء أمر الرب وتحقيقاً لقاعدة رئيسية في عقيدتها. هنا يتجلى السؤال، ما معنى الاقتناع فعلاً؟ عندما تقوم بأداء فعل ما رغبة في مثوبة أو تفادياً لعقوبة، هل هذا يشكل اقتناعاً بصحة الفعل في حد ذاته؟ في العموم، هل توجد قناعة حقيقية صافية، هل توجد إرادة حرة حقيقية خالصة؟ في مقاربة للمرمونية الأصولية مع الإسلام، تتشارك الديانتان في التعددية الزوجية، إلا أن الإسلام حدد العدد بأربع زوجات، في حين أن المرمونية الأصولية تقول «هل من مزيد». إلا أن ألم ومعاناة وتشوش النساء هو واحد: لماذا ترمي القراءة الدينية إلى إعطاء كل هذه الحقوق والسلطة للرجال فيما تضع كل واجبات التحمل والمداراة والتعامل مع أقسى آلام الغيرة والشعور بالإهانة على كاهل النساء؟ ما الحكمة من هذا الاستنباط الديني للنصوص الشرعية؟ أم أن هذا مؤشر على جنس المستنبطين الذي لا يمكن أن يخرج عن نوعه الأوحد؟ المسلسل مؤلم، عذابات النساء وتشوشهن وانجذابهن بين إيمانيات عميقة ومشاعر إنسانية طبيعية متأصلة تدفع بالإعجاب بإرادات هذه النساء لإنجاح حيواتهن والعمل على استمرارها، وفي الوقت ذاته تدفع على الشعور بخالص الرأفة تجاههن، بسبب استتباب قناعات قد لا تكون قناعات، لربما هي مخاوف من عقاب أو من فقدان ثواب، مخاوف متنكرة في صورة إيمانيات تحت طبقات غليظة من البرمجة الزمنية والنفسية.
لمذا ينحكر الاستمتاع بالحقوق والتمتع بالقيادة على الرجال في القراءات والتفسيرات الدينية، فيما تتورط النساء في التحمل والصبر والطاعة والانقـــــياد؟ ما العامل المشترك بين كل المفسرين؟
أين العزيزة غادة الشاويش؟