يدور في بريطانيا منذ مدة جدل سياسي متنام حول دور الدين في الحياة العامة، كان آخر فصوله تصريح نائب رئيس الوزراء وزعيم حزب الديمقراطيين الليبراليين نك كليغ بأن على الملكة أن تتخلى عن رئاسة الكنيسة الأنغليكانية. موقف يؤخذ مأخذ البديهيات في معظم الديمقراطيات الغربية باعتباره مجرد تطبيق لمبدأ الفصل بين الدين والدولة. ولكنه يعد موقفا جريئا في هذه البلاد. ولهذا لم يسبق لأي سياسي بريطاني أن جاهر به منذ حوالي خمسة قرون، أي منذ أن انشق الملك هنري الثامن على الفاتيكان عام 1534 وأنشأ الكنيسة الأنغليكانية وجعل الملك رئيس الكنيسة و’حامي العقيدة’ بمقتضى الدستور. ومثلما هو متوقع، سارع رئيس الوزراء ديفيد كاميرون على الفور للنأي بنفسه عن موقف نائبه في الائتلاف الحكومي، موضحا أن هذا اقتراح ‘لا يأخذ به حزب المحافظين’ وأن الحكومة لن تسعى إلى تنفيذه.
ولكن كاميرون هو المسؤول عن إثارة هذا الجدل في المقام الأول. فقد نشر عشرات من العلماء والمثقفين والسياسيين الأحد الماضي رسالة مفتوحة في جريدة ‘الدايلي تلغراف’ قالوا فيها إنهم يحترمون حق رئيس الوزراء في التمسك بمعتقداته الدينية، ولكنهم يعترضون على ما دأب عليه منذ مدة من نعت لبريطانيا بأنها ‘بلد مسيحي’. أولا، لأن واقع المجتمع البريطاني المعاصر يدحض هذا الزعم. إذ إنه مجتمع متعدد الديانات والثقافات، فضلا عن أن أغلب الاستطلاعات تبين أن معظم البريطانيين لا يدينون بأي دين. وثانيا، لأن تكرر هذا الموقف على لسان رئيس الوزراء ‘يحدث الانقسام والاغتراب في مجتمعنا’.
ورغم أن جوهر الموضوع يستدعي نقاشا معمقا، فإنني سأكتفي الآن بمسألة الشكل. ذلك أن غرابة موقف كامرون تتأتى، قبل كل شىء، من كسره لقاعدة شكلية ثابتة في السياسة البريطانية: وهي عدم التطرق لمسائل العقيدة الشخصية. ولا شك أن ما حدث مع سلفه توني بلير يلخص المسألة بوضوح. والقصة أن بلير سئل في حوار صحافي عام 2003 عما إذا كان لمعتقداته الدينية دخل في ‘انسجامه’ الكلي مع جورج بوش (‘الرئيس المؤمن’!) وتأييده المطلق للعدوان الأمريكي على العراق، فإذا بمستشاره الإعلامي أليستر كامبل، الذي كان نافذ الكلمة لدى بلير وبالغ الغلظة مع زملائه السابقين من الصحافيين، يتدخل مقاطعا: ‘لا نخوض في موضوع الإله!’. قصة معروفة إلى حد أن ‘لا نخوض في موضوع الإله’ قد صارت من العبارات التي يكثر بها الاستشهاد في الصحافة البريطانية.
كان من حساسية كامبل لكل ما يتعلق بمسائل الدين، بحكم معرفته بطبائع المجتمع البريطاني المعاصر، أنه تدخل أيضا لمنع بلير من اختتام خطابه للأمة البريطانية عند بدء الحرب على العراق بعبارة ‘بارككم الرب’، هذا رغم أنها عبارة كثيرة التداول إلى حد يكاد يطمس محمولاتها الدينية الأولى. ولكن العبرة السياسية أن موضوع الدين في أوروبا محفوف بمخاطر ليس أهونها خسران السياسي أصواتا انتخابية إن هو حشر نفسه في زاوية انتماء أو موقف اعتقادي محدد. ولهذا فإن بلير لم يبدأ ‘الخوض في موضوع الإله’ وإلقاء المحاضرات في شؤون العقيدة ولم يعلن تحوله من الأنغليكانية إلى الكاثوليكية (التي تدين بها زوجته) إلا بعد خروجه من الحكم.