يشرح محمد كمات (حزب الجمهوريين)، ضيف برنامج «نقاش» في «فرانس24»، تركيبة سكان الضواحي (والنقاش بصدد أحداث نانتير ومقتل الشاب نائل)، فيقول إن هناك اكتظاظاً بالسكان، في أحياء بُنيت في الستينيات والسبعينيات وفق تصور يساري، أحياء بعددِ سكان يصل إلى الآلاف، حيث البناية الواحدة يمكن أن تصل إلى عشرين طابقاً، لسكان جميعهم من مناطق هشة (للأمانة هنا تردد المحلل المتحزّب قبل أن ينتقي هذه الكلمات، ربما خشية الوقوع في مفردات عنصرية يعاقب عليها القانون)، ولم تتوفر لهم مسائل التربية، هم تقريباً من آباء وأمهات كانوا عاطلين عن العمل، أو عملوا في أشياء ليست في مستوى كبير (هنا يتدخل المذيع الحصيف فيوضح: مهن غير راقية)، وهذا ينعكس سلباً على التربية. وهنا يصل إلى النتيجة التي أطال التقديم لها (وهذه المرة من دون أن يرف له جفن): «هؤلاء أشخاص منعدمو التربية».
هذه الـ «هؤلاء» من العمومية، بحيث يمكن أن تشمل كل سكان الضواحي الفرنسية، فما أكثر هؤلاء الذين جاؤوا من «مناطق هشة»، وبالتالي فإن عبارة «انعدام التربية» ستتسع لتشمل مئات الآلاف (هو نفسه قال آلافاً على أي حال)، إن لم نقل الملايين من الفرنسيين.
«عديمو التربية» ليست زلة لسان، إنها نظرية، معتمَدة على نطاق واسع (ما دام وزير العدل نفسه يريد أن يفرض عقوبات على الأهل)، وقد نجد أنفسنا أمام فرنسا مقسومة إلى اثنتين: المهذّبين وعديمي التربية.
ثم ما هي تلك المهن غير الراقية؟ هل بإمكانك الزعم أن الآلاف من سكان الضواحي يعملون في صنف واحد، أو بضعة أصناف من المهن؟ قل لنا أرجوك إن كنت تريد من الجميع أن يعملوا مدراء شركات تأمين، أو أصحاب ماركات تجارية، أو رؤساء أحزاب، أو.. (بالمناسبة؛ أين تصنف مهنة الشرطي؟)، دلّنا على ذلك النوع من الأعمال الذي سينجب حتماً وآلياً أبناء عديمي التربية!
بعد يومين من كلام المعلق في «فرانس 24»، جاء تهديد وزير العدل الفرنسي بمعاقبة والدي الأطفال المشاركين في الاحتجاجات، قائلاً: «الآباء والأمهات الذين لا يهتمون بأطفالهم (دون 17 عامًا)، ويتركونهم في الخارج ليلاً، وهم يعرفون أين يذهبون، سيواجهون عقوبات تراوح بين السجن لمدة عامين وغرامة مالية بقيمة 30 ألف يورو».
هي نغمة إذاً، وتكرارها إلى هذا الحدّ مقلق فعلاً، فهي لم تقتصر على سياسيين فرنسيين، حيث بالإمكان سماعها من أبناء الضواحي أنفسهم ممن يعترضون على عنف الاحتجاجات. بل أسمعها بالفعل من كاتب سوري معارض للنظام في بلده، ووَدِدْتُ أن أقول له: تصوّر أن يقابَل المحتجون الذين نزلوا إلى الشوارع في العام 2011 في بلدك بالقول إنهم عديمو التربية، وأين هم آباؤكم وأمهاتكم! (وفي الواقع قيل أكثر من ذلك على نحو ما، لقد بدأت الاحتجاجات في ذلك العام تحديداً من أولاد (غير مهذبين!) كتبوا شعارات على الحيطان، ومن إهانة أجهزة الأمن لأهاليهم).
أن تقول للآلاف من البشر بالجملة إنكم عديمو التربية، لن يكون شيئاً طيباً للدولة التي تحتويهم، فإن كان الأبناء عديمي التربية سيكون الأمر في رقبة الأهل أولاً، والأهل هنا هي الدولة التي، على ما يبدو، أهملت كل الأسباب، بحيث وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه.
«عديمو التربية» ليست زلة لسان معلق في برنامج، إنها نظرية، معتمدة على نطاق واسع (ما دام وزير العدل نفسه يريد أن يفرض عقوبات على الأهل)، وقد نجد أنفسنا أمام فرنسا مقسومة إلى اثنتين: المهذبين وعديمي التربية.
لا يبدو إذاً أن المشكلة يمكن أن تحلّ حتى بتحقيق «العدالة لنائل»، أبرز الشعارات المرفوعة في الاحتجاجات، بمعنى الوصول إلى حكم عادل على الشرطي القاتل وحسب، فقد كشفت ردود الفعل والتداعيات والسجالات الساخنة أن إطلاق شرطي للنار على صبي من أجل مخالفة مرورية استسهالٌ يخفي وراءه ممارسات وانتهاكات للشرطة ونقابتها، في إطار قانون مطاط يحتمل أن يُقتل نائل وسواه من دون خوف من العواقب.
وعلى ما يبدو، وكما كتب مؤرخٌ، فإن «الشيء الثابت هو رفض القوى السياسية العمل على أحد عوامل هذا الخليط المتفجر، وهو الشرطة».
إطلاق النار على صبي من أجل مخالفة مرورية استسهالٌ يخفي وراءه ممارسات وانتهاكات للشرطة ونقابتها، في إطار قانون مطاط يحتمل أن يُقتل نائل وسواه من دون خوف من العواقب.
إن الشرطة من القوة وعدم الاكتراث بحيث أن وزير الداخلية السابق كريستوف كاستانير أعدّ، في يونيو/ حزيران 2020، خططاً لإصلاح الشرطة، و«شمل ذلك حظر خنق الأشخاص أثناء عمليات الاعتقال، وإصلاح هيئة مراقبة جهاز الشرطة، وتطبيق سياسة عدم التهاون مطلقاً مع العنصرية داخل الجهاز». لكن نقابات الشرطة قامت باحتجاج، صدر بعده قرار بتعيين جيرالد دارمانان بدلاً من كاستانير، في تعديل وزاري بعد شهر.
هذه الاحتجاجات ليست جديدة من نوعها في فرنسا، لكن مع ذلك كانت تنطفئ في كل مرة من دون حلول جوهرية، وكانت أعمال مماثلة في الولايات المتحدة وبريطانيا في الستينيات والثمانينيات «أدت إلى إصلاحات عميقة داخل أجهزة الشرطة». لذلك فإن المراقبين يتساءلون: «في فرنسا؟ لم يحدث شيء على مدى السنوات الأربعين الماضية».
الاعتراض على التعديات على الأملاك العامة والسرقات وأعمال الحرق في مكانه طبعاً، لكن النظر إلى ذلك فقط، والاكتفاء بمحاكمة عادلة لشرطي فرد (يحظى الآن بحملة داعمة تجمع له التبرعات)، نوعٌ من التضليل.
العدالة لنائل وحدها لا تكفي، لا بد من عدالة لـ «عديمي التربية».
* كاتب من أسرة تحرير «القدس العربي»