نيويورك-(الأمم المتحدة)- «القدس العربي»: اختيار المفردات والمصطلحات في بيانات ووثائق ورسائل الأمم المتحدة أمر مهم وغاية في الدقة. فجزء هام من عمل الأمانة العامة للمنظمة الدولية يتمثل في إصدار البيانات والتقارير والقرارات الإدارية والتحقيقات، أما الدول فدورها في صياغة القرارات والتوصيات والمعاهدات والخطابات.
الأمين العام للأمم المتحدة، يمثل استقلالية المنظمة الدولية، فهو، من المفروض، ألا يأخذ تعليماته من أحد وينضبط فقط لميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة وبقية الأجهزة الأخرى. لكن عادة ما يحاول الأمين العام في بياناته ألا يغضب الدول الأعضاء وخاصة الخمسة الدائمين في مجلس الأمن لقدرتهم على عرقلة عمله وعدم التجديد له إذا كان في دورته الأولى مثلما حدث مع الأمين العام الأسبق بطرس بطرس غالي.
من هذه المسؤوليات إصدار موقف يتعلق بالتطورات والأحداث والكوارث بشقيها ما كان من صنع الطبيعة أو من صنع الإنسان. وعادة يختار الأمين العام كلماته بعناية فائقة خشية أن يغضب الدول الكبرى. وهناك نوعان من المصطلحات تتكرر في بيانات الأمين العام: ما يعود على المتحدث وما يتوجه نحو الفاعل. فمثلا مفردات مثل يشعر بالقلق أو يشعر بالأسى، وقد أصيب بالحزن أو بالهلع- هذه مفردات تعكس حالة المتكلم دون أن تصدر حكما على الفاعل. أما المصطلحات التي تتوجه نحو الحدث فهي في جوهرها أحكام مثل «يدين الأمين العام، ويدين بأقسى العبارات، ويشجب الأمين العام».
نحاول في هذا المقال أن نراجع مواقف الأمين العام، أنطونيو غوتيريش، ومجلس الأمن الدولي والجمعية العامة وكيف انتهى العدوان من دون أن يصدر شيء حقيقي عنها جميعا.
الأمين العام واللغة المشحونة
بقي الأمين العام صامتا طوال فترة الاعتداءات على المصلين في القدس خلال شهر رمضان. اشتدت المواجهات في حيّ الشيخ جراح ومنطقة الحرم الشريف والمسجد الأقصى في العشر الأواخر من رمضان. أثارت الصحافة المعتمدة بمقر المنظمة الدولية موضوع صمت الأمين العام على الممارسات الإسرائيلية مع المتحدث الرسمي للأمين العام، ستيفان دوجريك، بشكل يومي بدون رد سوى بعض الكليشيهات المكررة مثل «الموقف المبدئي للأمين العام أنه ضد انتهاك حرية العبادة، أو أن جميع الأنشطة الاستيطانية غير مقبولة وهي انتهاك للقانون الدولي».
مساء الجمعة 7 أيار/مايو قامت القوات الإسرائيلية باقتحام الأقصى والتعرض للمصلين واستمرت المواجهات لساعات طويلة خلفت نحو 300 جريح فلسطيني. لم ينطق الأمين العام إلا مساء الأحد 9 أيار/مايو. فأصدر أول بيان حول التطورات قائلا: «يعرب الأمين العام عن قلقه العميق إزاء استمرار العنف في القدس الشرقية المحتلة، وكذلك احتمال إخلاء عائلات فلسطينية من منازلها في حيّ الشيخ جراح وسلوان. إنني أحث إسرائيل على وقف عمليات الهدم والإخلاء، تماشياً مع التزاماتها بموجب القانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان. يجب على السلطات الإسرائيلية ممارسة أقصى درجات ضبط النفس واحترام الحق في حرية التجمع السلمي».
فاللغة الملتوية تتجلى هنا. فهو مصاب بقلق عميق بسبب استمرار العنف… من دون أن يحدد من الذي يقوم بالعنف وكأنّ هناك طرفين متساويين يلجآن إلى العنف. وهذا طبعا تصوير مجحف بحق المصلين. نلاحظ هنا أنه لم يذكر اقتحام الأقصى على المصلين. وكذلك هو قلق على إحتمال إخلاء عائلات فلسطينية من منازلها. فهو احتمال فقط… وهو إخلاء وليس طردا أو تطهيرا عرقيا. فالإخلاء يعني أن هناك صاحب بيت يريد إخلاءه من السكان وربما لأسباب قانونية. فرق كبير بين الطرد والإخلاء. وعندما يتوجه لإسرائيل فهو يحثها فقط. لم يستخدم كلمة يطالب أو يحذر أو يؤكد على عدم شرعية الهدم والإخلاء كما أطلق عليه.
في اليوم التالي، الإثنين 10 أيار/مايو وبعد عدة تحذيرات لإلغاء مسيرة المتطرفين للتأكيد على ضم القدس كلها أطلقت حماس الساعة السادسة مساء بتوقيت القدس الحادية عشرة صباحا بتوقيت نيويورك رشقة صواريخ أدت إلى «فركشة» المسيرة. بعد ساعة فقط أي الثانية عشرة ظهرا أصدر الأمين العام بيانا شديد اللهجة «يدين فيه بأقسى العبارات إطلاق الصواريخ من قطاع غزة». هذه هي المرة الوحيدة خلال 11 يوما استخدم فيها الأمين العام كلمة إدانة وألحقها بأقسى العبارات. قتل الأطفال وتدمير المباني والبنى التحتية واستهداف المدارس والمستشفيات والعيادات الصحية لا تستحق استخدام كلمة إدانة ما عدا صواريخ حماس أما الغارات الجوية على المناطق الأهلية وقتل 65 طفلا و40 إمرأة فهي تصيب الأمين العام بالحزن والهلع. أما الفاعل فهو معفي من هذه المصطلحات. وهكذا بقي الأمين العام يدور في فلك اللغة نفسها. الفرق أنه في خطابه أمام الجمعية العامة يوم الخميس غير ترتيب ذكر الخسائر فسرد خسائر الفلسطينيين أولا ثم الإسرائيليين ثانيا، (ربما لضخامتها وربما لأنه يخاطب شخصيا جمعية عامة منعقدة بهذا العدد الكبير من الوزراء والمندوبين).
مجلس الأمن
عقد مجلس الأمن أربع جلسات حول موضوع العدوان على غزة، ثلاث منها مغلقة واجتماع واحد مفتوح. الإثنين 10 أيار/مايو كان اجتماعا مغلقا للتشاور بطلب من تونس والنرويج والصين، رئيس المجلس، ثم انضمت إلى الداعين ست دول أخرى منها فرنسا والنرويج وايرلندا. استمع الأعضاء إلى تقرير من مبعوث الأمين العام ومنسق الأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط، تور وينسلاند، الذي قدم تقريرا عن التطورات على الأرض في القدس الشرقية ومنطقة المسجد الأقصى وباب العامود. بعد ذلك وزع الوفد التونسي مشروع بيان صحافي حول التطورات في القدس وأبدى السفير مرونة في تقبل تعديلات على النص كي يحظى البيان بالإجماع. وكان التأييد للبيان قويا بين غالبية الدول الأعضاء إلا أن السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة، ليندا توماس غرينفيلد، طلبت فترة زمنية للتشاور. فعادت الجلسة وانعقدت يوم الأربعاء واستمعت إلى تقرير ثان من وينسلاند عن آخر التطورات وعدد المدنيين الذين سقطوا في غزة وإسرائيل. الوفد التونسي ومعه النرويجي قاما بتخفيف البيان الصحافي وقبلا بصدور «عناصر بيان صحافي» أي نقاط التي لو صدر بيان صحافي لتضمنها. وتتضمن العناصر التعبير عن القلق وخاصة في موضوع سقوط مدنيين ثم المطالبة بالتهدئة فورا. الموقف الأمريكي كما عبرت عنه السفيرة ليندا توماس غرينفيلد ظل رافضا لطلب وقف العمليات العسكرية قائلة: «إن الوقت لم يحن بعد لإصدار بيان من هذا القبيل وأنها ترغب في إعطاء فرصة للتحركات الإقليمية».
أخيرا عقدت جلسة مفتوحة لمجلس الأمن يوم الأحد 16 أيار /مايو أدلى فيها جميع الدول الأعضاء ببيانات إضافة إلى مصر وفلسطين والأردن والجزائر وإسرائيل. وقد كانت المشاركة على مستوى وزاري للعديد من الدول مثل فلسطين وتونس ومصر والأردن والصين وأيرلندا والنرويج. جلسة من نوع «قل كلمتك وامشِ». ولم يخرج عنها شيء. ثم قامت محاولة رابعة يوم الثلاثاء 18 أيار/مايو وعقدت جلسة مغلقة لكن الموقف الأمريكي لم يتزحزح.
الجمعية العامة والزخم الدولي
من المعروف أن قرارات الجمعية العامة عادة عبارة عن توصيات. لكن أهمية الجمعية في أنها تمثل العالم أفضل تمثيل. إنها الجهاز الوحيد الذي تمارس فيه بحق ديمقراطية عالمية وتتمثل فيها الدول صغيرها وكبيرها، فقيرها وغنيها على قدم المساواة.
بعد فشل مجلس الأمن وبطلب من المجموعة العربية ومجموعة منظمة التعاون الإسلامي، ثم انضمت إليهما مجموعة دول عدم الانحياز بعقد جلسة يوم الخميس 20 أيار/مايو. وقد طلب الكلمة مندوبو 70 دولة ثم ارتفع العدد إلى 103. وقد شاركت في الجلسة 12 دولة على مستوى وزراء الخارجية من بينهم تركيا وأندونيسيا وباكستان وفلسطين والأردن والكويت وتونس والجزائر. الهدف من الجلسة كان توليد مزيد من الزخم والضغط لفرض وقف إطلاق النار.
وحسب تصريحات وزير الخارجية الباكستاني، مخدوم شاه محمود قريشي، حول تفسير غياب مشروع قرار في الجلسة المستعجلة تلك قال: «رأينا أن الأولية لوقف انهمار القنابل على المدنيين في غزة. والسبب الثاني هو أن مجلس الأمن ما زال يبحث الموضوع، وحسب ميثاق الأمم المتحدة فما دام مجلس الأمن يبحث مسألة تتعلق بالسلم والأمن الدوليين فلا بد أن يعطى الفرصة حتى النهاية. والسبب الثالث أنه لم يكن لدينا الوقت الكافي للتشاور مع الدول الأعضاء والمجموعات الإقليمية لمناقشة مشروع قرار يمكن أن يتم التصويت عليه ويحظى بالإجماع. وكذلك لا نريد أن نفتح المجال لتقديم بعض التعديلات على مشروع القرار والتي قد تحرف الاتجاه العام للجلسة وتغير من مسارها». لقد كان المنافقون الأوروبيون جاهزين لتعطيل مشروع القرار إذا لم يتضمن إدانة صريحة لحماس وإطلاق الصواريخ. وهذا يعني إدانة للمقاومة التي يلتف حولها الشعب الفلسطيني في هذه المرحلة.
إن أهم ما تكرر في جلسة الجمعية العامة هو التأكيد على حل النزاع هذا بالعودة إلى الجذور كما قال رئيس الجمعية العامة، فولكان بوزكير: «هذا ليس حدثا منعزلا. لا يمكن فصله عن السياق الأوسع لهذه القضية التي استمرت عقودا طويلة بما في ذلك الاحتلال العسكري المطول للأرض الفلسطينية. إن الاحتلال فاقمه المأزق السياسي وانعدام المفاوضات، هو المصدر الأساسي لعدم الاستقرار وإدامة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. فالشعب الفلسطيني يعيش تحت الاحتلال منذ عقود. لهذا الاحتلال المستمر عواقب متعددة الأوجه، بما في ذلك انتشار الشعور بخيبة الأمل واليأس بين الفلسطينيين. في جوهره، يحرم الاحتلال الفلسطينيين من كرامتهم الإنسانية الأصيلة».
هذا هو ما يسمونه المجتمع الدولي والذي يدعوه المسؤولون الفلسطينيون في كل مرة تنتهك إسرائيل الحقوق. لا الأمين العام سينزل الميدان ليحارب نيابة عن الفلسطينيين ولا مجلس الأمن المحكوم بتركيبته غير المتوازنة ولا الجمعية العامة التي تعتبر قراراتها توصيات حتى لو تمكنت من ذلك. إذن ليس للفلسطينيين إلا أن يعتمدوا على أنفسهم أولا وشعوبهم العربية ثانيا وأنصار الحق في كل مكان في العالم. بهذا تنتصر القضية.
اوروبا و خاصة فرنسا و المانيا مجرد تابع ذليل لا قيمة أخلاقية له