العراق: التطبيع مقبرة الآمال والسيادة

في الآونة الأخيرة وعلى أنغام طبول الرقص العربي، للتطبيع مع الكيان الصهيوني؛ تصاعدت التلميحات والإشارات، سواء الظاهر منها أو المستبطن؛ عن نية العراق التطبيع مع الكيان الصهيوني، مع أن هذه الإشارات لم تتحول إلى واقع ملموس، أي تحرك رسمي واضح وبيَن ـ رغم أن هناك إجراءات رسمية، ولكنها غير مباشرة ـ كتب عنها الدكتور نديم الجابري، سنأتي عليها لاحقا ـ كما هو حاصل في بعض دول الخليج العربي، سواء المطبَعة حاليا، الإمارات والبحرين، أو التي سبقتهما قبل سنوات، مصر والأردن، أو التي هي في طريق التطبيع الذي تشير إليه؛ تصريحات المسؤولون في تلك الدول، ولو بصورة مبطنة وغير ظاهرة ولكنها في الوقت عينه واضحة، ما يجعلنا نضع هذه الإشارات في خانة جس النبض، وكسر الحاجز النفسي.
العملية الأخرى المتوائمة في السير مع الأولى، تهدف إلى مسح الذاكرة الوطنية العراقية، حتى يتم تمرير التطبيع المجاني، بلا ضجيج، أو أصوات رافضة أو مقاومة له. فهم يريدون لهذا التاريخ، أي تاريخ الصراع العربي الصهيوني، والعراق كان طرفا فاعلا فيه، ومؤثرا فيه، ومتأثرا به، أن يكون منسيا، أو على الأقل وضعه في خزائن الإهمال، على اعتبار أنه لم يعد ملائما لهذا العصر، الذي تسيد فيه بنو صهيون، وصار صانعا للأحداث في متغيرات المشهد السياسي والعسكري في المنطقة العربية وجوارها الإقليمي، كما يعتقد أنه لصالحه، وهو اعتقاد صحيح آنيا وغير صحيح بالكامل استراتيجيا. الإسرائيليون؛ فاتهم الوجه الثاني لحقائق التاريخ، التي هي الأكثر عملا في تنشيط الذاكرة الوطنية العراقية. في حضور الوجه الثاني لهذه الذاكرة، في الحاضر، بلا توجيه وقاعدة عمل له في حركة الواقع على الأرض، في الوقت الحالي، إلا أن فعله المعنوي والسياسي، حاضر في الوجدان العراقي بقوة، لا يمكن لأي متابع إغفاله. لذا، نلاحظ أن جميع المحاولات الإسرائيلية، المستترة وراء عناوين كثيرة جدا، لها وجود فعلي في المجتمع العراقي، لكنها غير مؤثرة، أو غير منتجة لهدف وجودها، بفعل الرفض الشعبي لهذه التوجهات؛ هذه المحاولات، تنحصر في إعادة تشكيل الأفكار والرؤى في المجتمع العراقي، لخلق قاعدة مؤيدة لهذا التطبيع مستقبلا، والعمل الدؤوب على توسعتها، ورفدها بروافد عديدة. الصحف العبرية، كشفت قبل ثلاث سنوات؛ أن ثلاثة وفود برلمانية عراقية كانت قد زارت إسرائيل، وجوبهت بالشجب والنفي من قبل البرلمان العراقي في حينها. الكيان الصهيوني قبل أكثر من سنة ونصف السنة كان قد أسس موقعا في الخارجية الإسرائيلية، وهو الموقع الذي يحمل عنوان: (موقع عراقي باللهجة العراقية) الذي عبره، أرسل مؤخرا، وزير خارجية إسرائيل يسرائيل كاتس رسالة، وباللهجة العراقية، إلى العراقيين؛ يدعوهم فيها إلى التواصل مع أبناء وطنهم من يهود العراق في إسرائيل. هذا الموقع يقول الصهاينة عنه؛ إنه يتصل بملايين العراقيين، على حد زعمهم، وهم في هذا يريدون أن يقولوا للرأي العام سواء العراقي، أو العربي أو الدولي؛ بأن العراقيين على استعداد كشعب للتطبيع مع الكيان الصهيوني، وهي محاولة بائسة لكسر رقبة الحقيقة على أرض الواقع، لأن الشعب العراقي كما هو حال بقية الشعوب العربية، له موقف مبدئي ووطني وعروبي وإسلامي وانساني من هذا الكيان، الذي يتجوهر في رفض الظلم والإجرام والاستلاب، الذي يمارسه الكيان بحق الفلسطينيين يوميا وعلى مدار الساعة، وتنصله عن حل الدولتين للصراع العربي الصهيوني؛ كي يتم دفن هذا الحل إلى الأبد، وضم القسم الكبير من أراضي الضفة الغربية، يهودا والسامرة كما تسميها التوراة؛ إن هذا الاعتقاد، اعتقاد خاطئ؛ لمخالفته حقائق النمو الديموغرافي للشعب الفلسطيني، المتمسك حد الموت بأرضه. الدكتور نديم الجابري أكاديمي عراقي، له مواقف وطنية مشهوده خلال السبعة عشر عاما الماضية، كتب قبل فترة في «البديل» العراقي، في ما يخص مقدمات التطبيع مع إسرائيل، ما ملخصه: رفع منع السفر إلى إسرائيل من جواز السفر العراقي – رسم علم العراق بما يشبه العلم الاسرائيلي، الذي رفض من قبل البرلمان العراقي- شطب عضوية مثال الآلوسي من البرلمان العراقي، الذي زار إسرائيل، لكن المحكمة أعادت عضويته.. وهناك فقرات أخرى ذات علاقة بموضوع التطبيع.
الحكومة العراقية لا يمكن أن تُطبع مع الكيان الصهيوني، أو ليس في مقدورها أن تتقدم ولو خطوة واحدة على هذا الطريق، لأنه طريق قاتل لها، أو أنها إن أقدمت على هذه الخطوة تكون قد عزلت نفسها عن جماهيرها التي لها موقف مبدئي من العلاقة مع إسرائيل، لا تحيد عنه أبدا.

التغلغل الإسرائيلي داخل المجتمع العراقي، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي يستهدف تهيئة البيئة لتمرير التطبيع المجاني

وفي الجانب الثاني وهو جانب مهم وحاسم، يتمحور حول خطابها الديني والسياسي، وموقفها من هذا الكيان. عليه، فإن أي خطوة على طريق التطبيع؛ تفرغ هذا القول من محتواه وجدواه؛ ما يجعل جماهيرها تتهمها بالخديعة، وبالتالي تنفضّ عنها. السياسية الإسرائيلية لنيدا منوهين، قالت في (الموقع العراقي باللهجة العراقية) وهو من مواقع الخارجية الإسرائيلية: نحلم قريبا أن نسافر من تل أبيب إلى بغداد. إن التركيز الإسرائيلي على العراق؛ والتغلغل بين ثنايا المجتمع العراقي، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، أو في غيرها من المنصات والمواقع، وهي كثيرة جدا؛ تستهدف في الأخير تهيئة البيئة السياسية والثقافية والمجتمعية لتمرير التطبيع المجاني، وهو ما لن يحدث في الأمد المنظور والمتوسط، ولن يحدث، إذ حتما سوف يستعيد العراق عافيته وسيادته، وقراره السياسي المستقل، ولن يتخلى العراقيون عن جهدهم وجهادهم لبلوغ هذه الغاية، أو هذا الهدف الوطني السامي. سفير عراقي؛ صرّح مؤخرا، أو أنه تناول في هذا التصريح العلاقة العراقية مع إسرائيل، وفُسر بأنه دعوة إلى التطبيع؛ ما جعل أصوات العراقيين ترتفع بالتنديد به حتى وصل الأمر؛ لدعوة الحكومة إلى تبديله. بهاء الأعرجي نائب رئيس الحكومة العراقية الأسبق، في مقابلة له مع قناة «نيوز» قال: إن جميع الظروف مؤاتيه للتطبيع مع إسرائيل.. لكنه عاد في اليوم الثاني، بعد أن جوبه تصريحه هذا بكم هائل من الشجب والإدانة، ومن قطاع واسع جدا من العراقيين، ومن المسؤولين أيضا، سواء في الحكومة أو خارجها، وفي ساعات قليلة، ما أجبره في مقابلة له، بعد يوم واحد على قناة «التغيير» أن يقول: إن الذي قلته يعبر فقط عن رأيي الشخصي.
الكيان الصهيوني يعمل ببطء وصبر، لانتزاع الاعتراف العراقي، حتى لو بعد زمن بعيد نسبيا، بانتظار ما تحدثه تحركاتها غير المنظورة، وتحت عناوين تحمل تزويرا، الصفة العراقية؛ من تغييرات سياسية وثقافية وغيرهما في رؤية العراقيين للعلاقة مع هذا الكيان. التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني لم يكن وليد اليوم أبدا، بل كان العمل عليه يجري في السر، خلال عقود مضت، داخل المجتمعات العربية في الدول المطبعة، سواء التي طبعت رسميا، أو التي تنتظر الظرف المناسب، كي تُقدم على التطبيع العلني. التغلغل الصهيوني في مجتمعات تلك الدول العربية المطبَعة؛ كان يجري بعلم وتخطيط وإرادة أنظمة الحكم في تلك الدول، التي طبّعت سرا، بل تعاونت مع هذا الكيان استخباراتيا في التآمر على أنظمة الحكم العربي الأخرى، التي لا تقل عنها استبدادا. أنظمة التطبيع العربي المجاني، كانت قد قامت قبل عدة سنوات؛ بفسح المجال واسعا أمام المنظمات الإسرائيلية والصهيونية في شتى فروع الثقافة والأدب والسياحة، وفي جميع مناحي الحياة في المجتمع؛ لإنتاج كتلة مجتمعية توائم نمط الحياة الإسرائيلية، على قاعدة الانبهار بالحرية الإسرائيلية، أي (حرية الناس) في الكيان الصهيوني، في تأثير نفسي تبادلي يعزز الرغبة في إعادة تشكيل المجتمع، كي يتماثل مع المجتمع الإسرائيلي، في الحرية الفردية، والادعاء زورا وبهتانا؛ أن العلاقة مع إسرائيل هي الضمانة الأكيدة للتطور والتقدم والاستقرار والسلام، وجلب أموال الاستثمارات؛ وفتح الأبواب على آخر تقنيات العصر. إن هذا الذي عملت عليه إسرائيل قبل عقود في مجتمعات الدول المطبعة برضا وإرادة أنظمة الحكم فيها؛ تعمل عليه في العراق، منذ سبعة عشر عاما، واشتدت وتائر التصعيد له في الآونة الأخيرة. السؤال الذي يظهر لنا هنا؛ هل نجح هذا المخطط؟ الجواب وبكل تأكيد لم ينجح ولن ينجح في العراق وحتى في الدول المطبعة لناحية الشعوب العربية في تلك الدول العربية.. سوى نجاح محدود جدا لن يكون له وجود إشهاري على أرض الواقع، أو أن هذا الإشهار يطوق في المهد، ويجري تحجيمه بطوق من الرفض الشعبي العربي.
كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية