تحدثنا في مقال سابق عن واحد من أهم مظاهر تسييس الأقليات في العراق، وهو الأرقام الاعتباطية التي اعتمدت لتحديد عدد مقاعد كوتا الأقليات في مجلس النواب العراقي؛ فرغم أن الدستور العراقي قد اشترط مقعدا واحدا لكل مئة ألف نسمة، مع مراعاة تمثيل جميع المكونات فيه، لكن تحديد مقاعد الكوتا اعتمد، بالنهاية، على تقديرات ارتجالية مرتبطة بالسياق السياسي وعلاقات القوة بدلا عن تحقيق العدالة في التمثيل!
لقد قررت المحكمة الاتحادية العليا (القرار رقم 43/ اتحادية/ 2021 بتاريخ 22 شباط/ فبراير 2022) أنه استنادا إلى المادة 49/ أولا من الدستور التي نصت على تمثيل كافة مكونات الشعب العراقي في مجلس النواب، فإن منح كوتا مقعد واحد لكل من الايزيديين والشبك والكرد الفيليين، هو أمر غير دستوري، في حين أبقت على كوتا المسيحيين (5 مقاعد) وكوتا الصابئة (مقعد واحد) وأنه لا بد من «تشريع نصوص بديلة بما يكفل تحقيق مبدأ المساواة بين المكونات المذكورة (الايزيديين والشبك والكرد الفيليين) مع المكونين المسيحي والصابئي». ولم تشر المحكمة إلى المعيار الذي اعتمدته في حكمها بأن مقاعد الكوتا الأولى تُخلّ بمبدأ تكافؤ الفرص والمساواة، وأن مقاعد الكوتا الثانية تحقق ذلك. وكان واضحا أن التسييس، كالعادة، هو المعيار، وواضح أن هناك إرادة سياسية لزيادة مقاعد هذه المكونات، وكعادتها أيضا، حققت المحكمة الاتحادية تلك الإرادة!
وفي سياق مشابه، استُخدِمت المحكمة الاتحادية أداةً للعقاب في موضوع مقاعد الكوتا في إطار الصراع السياسي بين الحزبين الكرديين، الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني، على مقاعد الأقليات؛ فمن المعروف أن الأقلية المسيحية والتركمانية تعيش بشكل أساس في محافظتي أربيل ودهوك، وهو ما جعل الحزب الديمقراطي الكردستاني يسيطر على المقاعد الـ 11 المخصصة ككوتا للأقليات، بموجب قانون انتخابات برلمان الإقليم.
وفي سياق صراع سياسي آخر لا يقل شدة بين أربيل وبغداد (الحكومة الاتحادية) حيث استخدمت المحكمة الاتحادية أيضا لمعاقبة أربيل وتقويض سلطات الإقليم في قرارات متتالية صدرت خلال العامين الأخيرين!
هذان الصراعان وحدهما هما ما يفسر قرار المحكمة الاتحادية العليا المرقم ( 83 وموحدتيها 131 و185/ اتحادية/ 2023) الصادر في 21 شباط/ فبراير 2024 الذي قرر أن يفتقد إلى تحقيق مبدأ المساواة لجميع المحافظات والتي يجب أن تتحقق وفق النسب السكانية لها، وبالتالي، فإن اتباع نظام الدائرة الواحدة للإقليم من شأنه أن يؤدي إلى عدم تمثيل جميع المحافظات المكونة للإقليم بشكل عادل ووفق النسب السكانية، وإلى الإخلال بمبدأ المساواة وانعدام تكافؤ الفرص للجميع، وأن ما ورد في القانون حول مقاعد المكونات يتعارض ومبادئ المساواة المنصوص عليها في المادة 14 من الدستور، ويتعارض مع مبدأ تكافؤ الفرص وفقا لما جاء في المادة 16 من الدستور، مما يقاضي الحكم بعدم دستوريتها!
ومرة أخرى كانت الاعتباطية والتسييس هما الحاكمان في هذا القرار؛ فمسألة النظام الانتخابي وتوزيع الدوائر لا علاقة له مطلقا بمبدأ التكافؤ والمساواة، بل هو خيار تشريعي. والمفارقة هنا أن هذين المبدأين الواردين في المادتين 16 و20 من الدستور العراقي، إنما تتعلقان بالمواطنين وليس بالجغرافيا، وما دام المواطنون في الإقليم يرشحون ويصوتون بشكل متكافئ، فهم يشاركون عمليا في الشؤون العامة ويتمتعون بحقوقهم السياسية!
اتباع نظام الدائرة الواحدة للإقليم من شأنه أن يؤدي إلى عدم تمثيل جميع المحافظات المكونة له بشكل عادل ووفق النسب السكانية، وإلى الإخلال بمبدأ المساواة وانعدام تكافؤ الفرص للجميع
كما أن الحكم المتعلق بكوتا الأقليات تعمد «إغفال» المادة 49/ أولا من الدستور التي نصت على مراعاة «تمثيل كافة مكونات الشعب العراقي» في مجلس النواب الاتحادي، وهو ما يوجب مراعاة ذلك في مجلس النواب في الإقليم، فقررت إلغاء الكوتا لأنها «تتعارض» مع مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص!
وإمعانا في التسييس والارتجال، أصدرت الهيئة القضائية المختصة بقضايا الانتخابات، في 20 أيار/ مايو 2024، قرارا بتخصيص خمسة مقاعد لكوتا الأقليات في برلمان الإقليم «بواقع مقعد واحد في محافظة دهوك، ومقعدين في محافظة أربيل، ومقعدين في محافظة السليمانية». والحقيقة أن المحكمة لم تشر أيضا، لماذا خمسة مقاعد وليس أكثر أو أقل، وما المعيار الذي اعتمدته في هذا التحديد، ولماذا وزعتها بهذا الشكل الذي لا علاقة له بآلية توزيع الأقليات جغرافيا في الإقليم. والأهم كيف لهيئة قضائية أن «تطيح» بقرار للمحكمة الاتحادية الذي نص على أن الكوتا غير دستورية من الأصل؟
وكان تصريح المتحدثة الرسمية في المفوضية العليا لشؤون الانتخابات، لا يقل اعتباطية حين قالت إن هذه المقاعد الخمسة ستوزع على الشكل الآتي: مقعدان في أربيل للمسيحين والتركمان، ومقعدان في السليمانية للمسيحيين والتركمان، ومقعد واحد للأرمن في دهوك، ولم تحدد هي الأخرى معيار هذا التوزيع الذي لم يكن موجودا في قرار الهيئة القضائية!
فمن المعروف أن المسيحيين والتركمان يشكلون كتلة ديمغرافية كبيرة في محافظة أربيل، لكن وجودهم في السليمانية محدود جدا. لهذا رفضت الأحزاب الخمسة التي تشكل المكون المسيحي في الإقليم هذا التوزيع.
الفضيحة هنا أن ثمة قرارا سابقا للمحكمة الاتحادية العليا (بالرقم 99 و104 و106/ اتحادية/ 2018 في 21 حزيران/ يونيو 2018) نصت فيه على أن جعل العراق النسبة الكوتا للمكون المسيحي في دائرة واحدة وبتنظيم سجل انتخابي خاص بهم، مسألة تنظيمية لا تخالف أحكام الدستور! بل إن الصابئة سبق لهم أن حصلوا على قرارين من المحكمة الاتحادية بالرقم 6/ اتحادية/ 2010 و7/ اتحادية/ 2010 قضيا بعدم دستورية قصر مقعد الكوتا الخاص بهم على محافظة واحدة هي بغداد، وطالبت فيه تشريع نص جديد يضمن أن تكون المقاعد المخصصة لهم «ضمن دائرة انتخابية واحدة» على مستوى العراق ككل!
قرارات المحكمة الاتحادية، كما أقول دائما، لا يمكن فهمها إلا في سياق سياسي، بعيدا عن الدستور والقانون أو حتى المنطق، فثمة إرادة سياسية بحرمان الديمقراطي الكردستاني من مقاعد الكوتا الـ 11 التي يهمين عليها سياسيا، ومن ثم تزيد من وزنه العددي في برلمان الإقليم (حصل الحزب على 45 مقعدا في آخر انتخابات جرت في العام 2018، ومع مقاعد الكوتا أصبح يتحكم بـ 56 مقعدا) وهو قرار يصب كليا في مصلحة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني الحليف التقليدي لإيران والفاعلين السياسيين الشيعة.
لكن القرار أثار حفيظة المكون المسيحي، وقد يثير حفيظة المجتمع الدولي، بإعادة تخصيص 5 مقاعد للكوتا من ضمن الـ 100 مقعد، بدلا من مقاعد الكوتا الـ 11 التي ألغتها المحكمة الاتحادية، وتوزيعها بطريقة يحصل فيها الاتحاد الوطني على مقعدين دون وجود أقلية مسيحية او تركمانية حقيقية في السليمانية!
احترام التعددية وتحقيق العدالة في المشاركة السياسية، هو الضامن الوحيد للاستقرار والسلم المجتمعي، لكنّ التلاعب بالدستور والقوانين، وحرمان الأقليات من حقها في التمثيل العادل، والتلاعب بهذا الحق باستخدام مؤسسات الدولة القانونية ولأهداف سياسية مفضوحة، فهو إيذان بخراب العمران كما علمنا ابن خلدون!
كاتب عراقي