بدون أية مقدمات، أو مؤشرات، انطلقت في العراق حركة احتجاجات واسعة، بدأت في ساحة التحرير، المكان الرمزي، وانتشرت إلى مناطق عديدة من بغداد بشكل غير مسبوق، فضلا عن امتدادها في المحافظات الوسطى والجنوبية. وقد ساعد العنف المفرط الذي استخدمته القوات الأمنية ضد المحتجين، وسقوط ضحايا مدنيين جراء استخدام الرصاص الحي، وإطلاق قنابل الغاز بشكل مستقيم باتجاه المحتجين بنية القتل، فضلا عن التعتيم الإعلامي، واستخدام الأساليب التي تستخدمها الدول الشمولية عادة مثل قطع الانترنيت، والدعاية المضادة وخطابات التشكيك والتحريض (كما في كل مرة، كان لا بد من استخدام كل ما يمكن مفردات وعبارات مستهلكة لاتهام المحتجين؛ فضلا عن التهمة الحاضرة دائما «البعثيون والصداميون»! ولم يشذ البيان الأخير الذي أصدره رئيس مجلس الوزراء العراقي عن هذه المنهجية، والذي تحدث أيضا عن «المعتدين غير السلميين الذين رفعوا شعارات يعاقب عليها القانون تهدد النظام العام والسلم الأهلي»!)، كل هذا أسهم في زيادة حجم هذه التظاهرات وحدتها، إلى الحد الذي اضطر السلطات إلى إعلان حالة حظر التجول في بغداد!
يشكل الغضب، والاحساس باللاعدالة، العامل الحاسم في حركة الاحتجاج الحالية، والملاحظة الأساسية هنا، هي الفئات العمرية التي تشكل نواة هذا الحراك، على عكس الحركات السابقة. فالغالبية العظمى من المحتجين ينتمون إلى فئة الشباب (17 ـ 29 سنة)، ومعظمهم يعاني من البطالة، أو بصورة أدق من عدم الحصول على فرصة التوظيف في الدولة. وهم يرون ان فساد الطبقة السياسية، والفساد البنيوي عموما، يؤدي إلى حرمانهم، من دون وجه حق، من المشاركة في الريع الذي يستحوذ عليه الآخرون. وبدا واضحا أن مطلب الخدمات والبنى التحتية قد ظل في خلفية المشهد! ولكن هذا الغضب، من دون وعي سياسي، يشخص أسباب الازمة، ومعالجاتها، قد يفضي إلى النهاية نفسها التي تعرضت لها حركات الاحتجاج السابقة. منذ أن بدأت حركة الاحتجاج في بغداد في شباط/ فبراير 2011، في سياق حركات احتجاج الربيع العربي، واعادت للمرة الأولى انتاج ثقافة الاحتجاج المدني التي غابت عن الشارع العراقي لأكثر من أربعين عاما. و التي قام بها أفراد وليس أحزابا أو حركات سياسية، وبالتالي لم يكن بالإمكان نسبتها لجهة او فئة محددة. مرورا باحتجاجات واعتصامات الجغرافيا السنية في كانون الأول/ ديسمبر 2012، والتي استمرت سنة كاملة، واحتجاجات تموز/ يوليو 2015، قبل دخول الصدرين على خطها لاحقا، ثم احتجاجات البصرة في آب/ أغسطس 2018، وصولا إلى احتجاجات اليوم، بدا من الواضح ان السلطة ليست لديها الإرادة الحقيقية للتعاطي مع هذه الاحتجاجات، وانها تسعى إلى قمعها أمنيا من خلال العنف المفرط أولا، ثم محاولة اللعب على عامل الوقت لتسويف أية مطالب يمكن أن يقدم بها المحتجون، خاصة في ظل عجز الدولة على تنفيذ أية إصلاحات حقيقية يمكنها أن تستجيب، ولو بالحد الأدنى، لمطالب المحتجين.
اندلع في الحالة المغربية، نقد قوي لتجربة الإسلاميين الذين سايروا نفس القراءة للوضع الدولي، وانتهى بهم المطاف إلى التوقيع على تراجع مواقعهم وتفكيك تحالفاتهم الاستراتيجية والحكم على عزلتهم السياسية
فالعراق اليوم يعاني من قطاع حكومي هو الأكبر على مستوى العالم قياسا إلى حجم السكان! وتبلغ نسبة الأفراد الذين يحصلون على رواتب من الدولة 45٪ من مجموع البالغين من السكان (يصل العدد إلى ما يزيد عن 7 ملايين ما بين موظف ومتقاعد ومتعاقد ورعاية اجتماعية)، وتشكل الموازنة التشغيلية ضغطا كبيرا على الموازنة العامة للدولة، وبالتالي لم يعد القطاع العام/ الحكومي متاحا لسنوات طويلة قادمة. في ظل عجز حقيقي عن تبني سياسات إعادة هيكلة اقتصادية حقيقية ومجدية، خاصة وان هكذا سياسات تتعارض مع منطق «إرضاء الجمهور الانتخابي» الذي يحرك السياسات الاقتصادية للدولة! فالعراق اليوم دولة ريعية بامتياز، ويقتصر دور الدولة عمليا على تدوير الريع النفطي داخل المجتمع، وهو عاجز تماما عن الخروج من هذه الدائرة.
في المقابل ما زال القطاع الخاص في العراق قطاعا طفيليا، يعتمد على الدولة بشكل أساسي. وهو عاجز تماما، حتى هذه اللحظة، عن الدخول في مشاريع إنتاجية حقيقية. وثمة معوقات عديدة لا تتيح لهذا القطاع الخاص الانتقال للقيام بدور مختلف، وهذه المعوقات تبدأ بمشكلات قانونية تتعلق بالبيئة الاستثمارية، مرورا بمشكلة الفساد البنيوي الذي يطالب بحصته من هذا القطاع، ولا تنتهي بمشكلات الأمن. وبالتالي يبدو من غير المنطقي الحديث عن إمكانية ان يكون للقطاع الخاص، على المستوى القريب، وربما المتوسط، أي دور حقيقي في موضوع التشغيل.
على مستوى الأحساس باللاعدالة فيما يتعلق بتوزيع الريع، يبدو من الواضح ان الفساد البنيوي في العراق، والعلاقات الزبائنية الحاكمة، واستخدامها كأداة سياسية للترضية من جهة، وللتدجين من جهة أخرى، لا تتيح أي إمكانية حقيقية لمعالجة هذا الأمر، خاصة في سياق تفشي ظاهرة الفساد داخل المجتمع نفسه، لتتحول إلى ظاهرة عامة لها القدرة على شرعنة نفسها سياسيا واجتماعيا ودينيا بمسوغات عديدة!
على مستوى الخدمات والبنية التحتية، يبدو واضحا أيضا، وبسبب من قلة التخصيصات، والفساد، وسوء الإدارة، أننا امام عجز حقيقي عن أي تطوير حقيقي في طبيعة الخدمات التي تقدم للجمهور، أو في تحسينها بالحد الأدنى.
على الرغم من الانتشار غير المسبوق لحركة الاحتجاجات الحالية، وعلى الرغم من التعاطف الكبير مع المحتجين الذي تعكسه وسائل التواصل الاجتماعي، إلا ان أعداد المشاركين فيها ما زالت محدودة نسبيا، ولم تصل إلى الحد الذي تشكل معه تهديدا حقيقيا. وبالتالي من الصعب تحديد المسار الذي يمكن أن تتخذه في الأيام والأسابيع القادمة، سواء باتجاه التصعيد، انتشارا وأعدادا، وهو ما قد يفرض واقعا مختلفا، لم نشهده من قبل، خاصة إذا ما تم ذلك في سياق الدفاع عن السلطة والموقع، ومن أطراف ذات طبيعة إشكالية مثل الفصائل المسلحة المرتبطة بإيران! أو باتجاه الخفوت تدريجيا، بعد تفريغ شحنة الغضب، بانتظار جولة أخرى، في ظل العجز التام عن تحقيق المطالب المرفوعة.
كاتب عراقي