العراق: المواجهة المؤجلة بين الجيش والحشد الشعبي

صادق الطائي
حجم الخط
0

تسير حكومة الكاظمي بخطوات متعثرة لإنجاز مهمة إجراء الانتخابات البرلمانية المبكرة في شهر تشرين الأول/اكتوبر المقبل، وفي خضم تكتل القوى السياسية من جهة، واتساع تيار المقاطعين للانتخابات من جهة أخرى، بدا المشهد العراقي متوترا، إذ سقط ناشط بارز في مدينة كربلاء الشيعية المقدسة صريعا برصاصات مسدس كاتم الصوت، واغتال مجهولون الناشط في حركة الاحتجاجات الشعبية إيهاب الوزني يوم 10 أيار/مايو الماضي، هذا الحدث، ونتيجة مكانة الضحية، أوقد جمرة التوتر مجددا، وذكّر باتقاد جذوة انتفاضة تشرين 2019 لذلك انطلقت حملة كبيرة على منصات التواصل الاجتماعي تطالب حكومة الكاظمي والسلطة القضائية العراقية بالكشف عن قتلة المتظاهرين والناشطين وتقديمهم للعدالة.
تم الاتفاق على أن يكون يوم 25 أيار/مايو موعدا لتظاهرة موحدة تتجمع في بغداد ويحضرها كل المحتجين من مختلف مدن العراق، لتنطلق تحت وسم موحد هو «#من_قتلني» مع رفع صور ضحايا الاحتجاجات العراقية وصور الناشطين والصحافيين الذين قضوا اغتيالا وتغيبيا، وكان التجمع هذه المرة قد توزع بين ساحة النسور المطلة على المنطقة الخضراء غرب بغداد، وساحة التحرير في وسط العاصمة بغداد.
تم تفريق تجمع ساحة النسور بشكل سلمي، لكن تظاهرة ساحة التحرير عوملت بعنف مفرط مرة أخرى وسقط جراء ذلك ضحيتان من المحتجين، وجرح العشرات نتيجة استعمال القوات الحكومية الغاز والهراوات وحتى الرصاص الحي، لتتجدد الأزمة مع حكومة الكاظمي على نفس أسس الأزمة السابقة مع حكومة سلفه المستقيل عادل عبد المهدي.

تفجر الأزمة

لم تستمر جذوة وعنف مطابات المحتجين نتيجة وقوع حدث دراماتيكي غير أولويات المشهد، إذ تم الإعلان عقب يوم واحد على التظاهرة ، في 26 أيار/مايو عن اعتقال اللواء قاسم مصلح الخفاجي، قائد عمليات الأنبار في هيئة الحشد الشعبي في منطقة الدورة جنوب غربيّ العاصمة العراقية بغداد. وأحيل مباشرة إلى قيادة العمليات المشتركة للتحقيق، وكرت بعد ذلك مسبحة التصريحات والاتهامات والاتهامات المضادة.
أولى الاتهامات التي ظهرت في منصات التواصل الاجتماعي بحق قاسم مصلح هي اتهامه بالمسؤولية عن قتل المتظاهرين وتصفية الناشطين والصحافيين، وقد وجهت عائلة الناشط المغدور إيهاب الوزني الاتهام المباشر لقاسم مصلح من على شاشة أحدى القنوات الفضائية، إذ أعلنت والدة الوزني أن ابنها كان قد تلقى وعلى مدى شهور تهديدات من قاسم مصلح شخصيا، الذي يعرفه جيدا لانهما أبناء مدينة واحدة، وكان الوزني قد أبلغ الجهات الحكومية بالتهديدات التي تصله قبيل مقتله لكن بدون جدوى.
كما اشير في نص إعلانات الحكومة أن أمر القبض القضائي الصادر بحق قاسم مصلح كان وفق المادة 4 إرهاب، أي إنه متهم بتنفيذ أعمال إرهابية، لذلك سرعان ما ربطت بعض الجهات بين نشاط قاسم مصلح في غرب الأنبار وخلايا الكاتيوشيا التي تضرب بين الحين والآخر قاعدة عين الأسد التي تتواجد فيها القوات الأمريكية، حتى إن بعض المحللين وصفوا اعتقال مصلح بانه «أمر اعتقال أمريكي».
لكن الكثيرين تسائلوا عن مدى أهمية الرجل، ومكانته في التراتبية العسكرية والحزبية في هيئة الحشد، وتكشفت سيرة قاسم مصلح عن رجل تقلب بين جهتي الحشد، المرجعية والولائية. إذ إتضح من سيرته أنه لم يكن عسكريا قبل 2003 لكنه انضم لقوة صغيرة تولت حماية العتبة الحسينية وكان مرتبطا إداريا بالقائمين على العتبات، ثم منح رتبة عسكرية وأصبح قائدا في لواء علي الأكبر، وهي ميليشيا مرتبطة بمرجعية النجف وتابعة لهيئة الحشد الشعبي، لكنه جمد، أو طرد من منصبه لاحقا، ليمنح بعد ذلك رتبة لواء ولينتقل إلى جانب الميليشيات المقربة من إيران، إذ أصبح قائد ميليشيا الطفوف المتواجدة غرب الأنبار، وهي منطقة استراتيجية تسيطر على حركة المقاتلين والسلاح على طرفي الحدود السورية.
اعتقال شخص بأهمية قاسم مصلح ومكانته في ميليشيات الحشد الولائي أشعل غضب «فصائل المقاومة الإسلامية» المرتبطة بفيلق القدس ودفعها لاتخاذ خطوة وصفت بانها أقرب لانقلاب عسكري على حكومة الكاظمي، إذ دخلت عشرات السيارات رباعية الدفع بمسلحيها وأسلحتها إلى المنطقة الخضراء حيث مقر الحكومة والبعثات الدبلوماسية، وكاد هذا التصرف أن يشعل حربا فيما لو كان رئيس الوزراء أو وزير الدفاع قد أمر قطعات الجيش بمواجهة ميليشيا الحشد المستعرضة في المنطقة الخضراء، لكن سياسة ضبط النفس، وتدخل زعامات شيعية على خط الأزمة أفشل هذا السيناريو.
جهات رسمية في هيئة الحشد، ومنصات تواصل اجتماعي مقربة من فصائل الحشد وأحزابه أطلقت تصريحات وتسريبات مفادها إن قاسم مصلح قد أفرج عنه، أو إن الإفراج عنه سيتم قريبا، كما أطلق بعض المحسوبين على الفصائل الولائية تصريحات خطيرة مشبهين هجوم ميليشيا الحشد على المنطقة الخضراء بانه خطوة لابد منها لكنها لم تكتمل، وفيما لو كانت قد اكتملت فهي أشبه بانقلاب حركة أنصار الله الحوثية التي أطاحت حكومة عبد ربه منصور هادي في صنعاء واستولت على السلطة.
هذا التصعيد واجهته حكومة الكاظمي بضبط للنفس وعلى غير عادتها ببعض الصرامة وإن بدت في مستويات متواضعة، إذ بدا وكأن الكاظمي يعلم مدى الفساد المستشري في مفاصل الدولة العراقية، لذلك أحال عملية التحقيق مع قاسم مصلح إلى لجنة الفريق احمد ابو رغيف، ومقرها قصر النهاية العتيد، ومع ان هذه اللجنة مختصة بالتحقيق في جرائم الفساد، لكن نتيجة ثقة الكاظمي بابي رغيف وتأكده من إن الرجل لن يخضع لتهديد الولائيين لذلك كلفه بمهمة التحقيق مع مصلح.

على شفى المواجهة
تصريحات قيادات الفصائل الولائية أبرزت موقفها الممتعض مما أقدم عليه الكاظمي، ووصف هادي العامري زعيم كتلة الفتح النيابية، ونائب رئيس هيئة الحشد، ورجل إيران القوي في بغداد عملية اعتقال مصلح بانها كسر لهيبة الحشد، وصرح قائلا إن «من يريد كسر هيبة الحشد هو الذي يريد أن يقوض هيبة الدولة.» وقال العامري في بيان؛ إن «الحشد بدمائه الطاهرة بنى هيبة الدولة، ومن يريد كسر هيبة الحشد تحت أي حجة كانت هو الذي يريد أن يقوض هيبة الدولة».
كما صرح العامري في لقاء تلفزيوني يوم 1 حزيران/يونيو الجاري، تعليقا على اعتقال قاسم مصلح؛ انه «كان هناك خطأ من الجانبين فعملية اعتقال مصلح كانت خطأ، كما إن ردة فعل فصائل الحشد الشعبي كانت خطأ أيضا». وتابع العامري قائلا؛ «أنا أبلغ الكاظمي بأمرين، الأول هو وجوب إخراج القوات الأجنبية من العراق، والثاني إعادة هيبة الدولة وخلق المناخات المناسبة لإجراء الانتخابات المبكرة» وأضاف؛ انهم «جادون في هذين الموضوعين، ومادام رئيس الوزراء يعمل في الاتجاهين فنحن ندعمه ونسنده ونقف معه، أما إذا انحرف عن هذين المسارين فلن نكون معه».
القيادات الشيعية بدورها عملت على فرز مواقفها وحاولت رسم خطوط فاصلة بين المقربين من طهران والمبتعدين عنها، إذ جاءت أولى المواقف الداعمة لخطوة الكاظمي من زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر الذي غرّد داعما ما قامت به الحكومة من هذا الاعتقال، ثم جاءت المواقف الداعمة الأخرى من حيدر العبادي رئيس كتلة النصر النيابية وعمار الحكيم زعيم تيار الحكمة، بينما نأى الساسة السنة والكرد بأنفسهم عن الأزمة، وتعاملوا معها على إنها صراع شيعي داخلي، بالرغم من تصريح بعض القيادات العشائرية السنية الداعمة لموقف قاسم مصلح والتي وصفته بالنزاهة في التعامل مع أبناء عشائر الأنبار.
هذه المواقف شدت أزر القيادات العسكرية والأمنية الرسمية، إذ صرح وزير الدفاع جمعة عناد سعدون بعد الحادث قائلا؛ إن «عملية اعتقال مصلح جرت بطريقة خاطئة» وتابع: «الأجدر كان أن يلتقي أحد قيادات الحشد مع القائد العام للقوات المسلحة، أو معي شخصيا لحل الموضوع، وليس التلويح بالقوة ولي الأذرع، لاسيما مع جيش يمتلك من القدرات ما تؤهله لمحاربة دولة، فكيف بـ 40 عجلة غير مدرعة تحمل مجاميع من الأفراد أن تقف أمامه؟». وجدد سعدون دعوته إلى «أن لا يعاد ما جرى مرة أخرى لاحتوائه على شبهة (عيب) بأن يحصل قتال داخل المنظومة الأمنية» وأشار إلى إن هناك جهات لم يذكرها، وصفها بأنها «تسعى لحصول فتنة في البلد، وتراقب عن بعد وتصب الوقود لتشتعل نيران الحرب الأهلية».
المتفائلون رأوا في خطوة الكاظمي بارقة أمل على تحرك، وإن كان متأخرا، باتجاه ضبط السلاح بيد الدولة وتحجيم دور الفصائل الولائية المخرب للوضع العراقي، بينما ضحك المتشائمون من هذه الخطوة التي ستنتهي كسابقاتها بالإفراج عن قاسم مصلح كما حصل مع قيادات ومقاتلين ميليشياويين ارتكبوا جرائم وأفلتوا من العقاب نتيجة سطوة ميليشاتهم وسيطرتها على الساحة العراقية. بينما يبقى المواطن مراقبا للمشهد، خائفا من اندلاع صراع بين القوى المسلحة، لن يعرف مداه، أو متى وكيف سينتهي، لكن سيكون المواطن البسيط هو حطب الصراع بالتأكيد.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية