إن الغالبية العظمى من القوانين التي لاتزال نافذة في العراق بعد عام 2003 هي قوانين شُرعت في ظل أنظمة شمولية، ولم يسع أحد بعد سقوط نظام البعث، إلى إلغاء هذه القوانين، أو تعديلها، بوصفها لم تعد صالحة للعمل في سياق نظام «ديمقراطي» مفترض.
وكان المدير الإداري لسلطة الائتلاف المؤقتة، قد عمد إلى تعليق العمل ببعض هذه المواد بموجب الأمر رقم 7 الصادر في حزيران 2003، أي بعد أقل من شهر من الاحتلال الأمريكي للعراق. ومن بينها المواد المرتبطة بالعقوبات المتعلقة بجرائم النشر (المواد 81 ـ 84) والجرائم الماسة بأمن الدولة (المواد 156 ـ 189، 190 ـ 195، و198 ـ 199، و201 ـ 219) والجرائم الواقعة على السلطة العامة والهيئات النظامية والاعتداء على الموظفين وغيرهم من المكلفين بخدمة عامة (المواد 223 ـ 224، 226 ـ 228، 229) فقد وجدت سلطة الاحتلال أن هذه المواد تتعارض مع الديمقراطية، فهي تعطي الوصاية إلى الدولة وسلطاتها ومؤسساتها وموظفيها بوصفهم «أوصياء» على وعي وإدراك وسلوك المواطنين «القاصرين».
لكن البنى الذهنية للطبقة السياسية العراقية التي جاءت بعد 2003، لم تكن بدورها، تؤمن بالديمقراطية يوما، لذلك لم تستوعب ذلك وعمدت الحكومة العراقية المؤقتة التي تسلمت مهامها في 30 حزيران 2004 من سلطة الائتلاف، بموجب الأمر رقم 3 الصادر في 8 آب 2004، إلى إعادة عقوبة الإعدام، وإلغاء تعليق المواد الأخرى المتقدمة، وإعادة العمل بها، الأمر الذي يوضح الطبيعة الذهنية للنخب السياسية العراقية التي لا تجد في القوانين الشمولية أي تناقض مع «الديمقراطية» تحديدا تلك المتعلقة بحرية التعبير.
لذلك نجد المشرع العراقي اليوم، مثلا، عند تقديمه مشروع قانون «حرية التعبير عن الرأي والاجتماع والتظاهر السلمي» الذي يناقش حاليا في مجلس النواب، يستنسخ المادة 372 كاملة من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 بجميع فقراتها، والتي تم تعديلها في العام 1995 كي يمعن في مناهضة حرية التعبير والرأي من جهة، ولغرض استخدام هذه المواد الفضفاضة القابلة للتأويل، في معاقبة منتقدي النظام ومعارضيه وفق «القانون»!
قبل يومين صوت مجلس النواب العراقي على تعديل ثلاث مواد من مواد قانون العقوبات، من بينها المادة 226 التي تتعلق بما أطلق عليه في القانون «الجرائم الماسة بالهيئات النظامية». فهذه المادة كانت تنص على أن «يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على سبع سنوات أو بالحبس أو الغرامة من أهان بإحدى طرق العلانية مجلس الأمة أو الحكومة أو المحاكم أو القوات المسلحة أو غير ذلك من الهيئات النظامية أو السلطات العامة أو المصالح أو الدوائر الرسمية أو شبه الرسمية». لتتحول بموجب التعديل إلى أن «يعاقب بالحبس أو الغرامة من أهان بإحدى طرق العلانية السلطات العامة التشريعية أو القضائية أو التنفيذية أو السلطات الإقليمية أو المحلية أو دوائر الدولة الدوائر أو شبه الرسمية».
تحولت القوانين في العراق من قواعد عامة مجردة إلى «أدوات» للاستخدام السياسي، وتحكّم الفكر الشمولي بنسخته الزبائنية، في تشريع تلك القوانين. وهي بعيدة تماما عن كونها رديفا للعدل ودعامة أساسية للديمقراطية
كما أضيفت فقرة ثانية إلى هذه المادة تنص على أنه «لا تعتبر إهانة وفقا لما ورد في البند (أولا) أعلاه كل قول أو فعل يمارس في إطار حرية التعبير عن الرأي بحدودها الدستورية والقانونية، أو حق نقد السلطات العامة بقصد تقويم الأداء أو إبداء المظلومية»!
وبعيدا عن ركاكة الصياغة القانونية، فالمادة لا تعرف معنى «الإهانة» من الأصل، وهي تحصن كل سلطات الدولة البطريركية/ الأبوية، وليس الديمقراطية، من أعلاها إلى أدناها من فعل غير معَرَّف! وكل ما فعله هذا التعديل أنه عدل الحكم من السجن 7 سنوات، إلى الحبس لمدة تصل إلى 5 سنوات!
أما الفقرة الثانية فهي تجسيد للعبث؛ فالذي سيقرر أن قولا أو فعلا ما هو «إهانة» أو أنه «لا يعتبر إهانة» هنا، هو «القاضي وحده، ومن خلال سلطة تقديرية مطلقة! فهو سيقرر أن القول أو الفعل «س» هو إهانة تستوجب الحبس لمدة يمكن أن تصل إلى 5 سنوات، وهو من سيقرر أن القول أو الفعل «ص» لا يعتبر إهانة بل جاء في إطار حرية التعبير عن الرأي في حدودها الدستورية والقانونية العائمة وغير المحددة أصلا! أو أنه جاء بقصد «تقويم الأداء وإبداء المظلومية»!
وهذا يعني أن التعديل أسوأ بكثير من النص السابق؛ حيث أعطيت للقاضي سلطة مطلقة في تكييف الفعل، خاصة في سياق قضاء غير مهني بشكل مطلق، وهو ما سيجعل هذه المادة سيفا مسلطا يكرس سلطة القضاء الذي تغول بشكل منهجي في العراق، وتحول إلى لاعب سياسي يحظى بسلطة مطلقة وحصانة مطلقة!
إن فكرة «إهانة» السلطات العامة ذات حمولة شمولية لا تتسق مع نظام يصف نفسه بأنه ديمقراطي، لأنها تنطلق من فكرة بطريركية/ أبوية الدولة تتناقض تماما مع مفهوم الديمقراطية، وكان الأولى إلغاؤها كما فعلت سلطة الاحتلال وليس تعديلها، لكن ذهنية الطبقة السياسية العراقية كم أسلفنا، لم تستطع حتى اللحظة الخروج من نسق الفكر الشمولي!
المفارقة هنا أن التعديلات شملت أيضا إضافة فقرات إلى المادة 11 من قانون العقوبات، والتي نصت على عدم سريان القانون على «الأشخاص المتمتعين بحصانة مقرر بمقتضى الاتفاقيات الدولية أو القانون الدولي أو القانون الداخلي». وهذه الفقرات هي استنساخ للفقرات ب وج من المادة 63/ ثانيا من الدستور العراقي التي تتعلق بحصانة عضو مجلس النواب، مع إضافة فقرة جديدة تنص على أنه في غير تلك الحالات «ولجميع الجرائم فإنه لا يجوز توقيف عضو مجلس النواب أو اتخاذ الإجراءات الجزائية ضده، إلا بعد استحصال موافقة رئيس مجلس النواب ونائبيه»!
وهذه الفقرة تنتهك أحكام قرار بات وملزم للسلطات كافة أصدرته المحكمة الاتحادية العليا بالرقم 90/ اتحادية/ 2019 قررت فيه أنه إذا كان عضو مجلس النواب متهما بجريمة من جرائم الجنح التي يعاقب عليها القانون بالحبس الشديد أو البسيط من ثلاثة أشهر إلى خمس سنوات أو الغرامة، أو كان متهما بجريمة مخالفة والتي يعاقب عليها القانون بالحبس البسيط لمدة أربع وعشرين ساعة إلى ثلاثة أشهر أو بالغرامة «فبالإمكان اتخاذ الإجراءات الجزائية بحقه بدون استحصال اذن مجلس النواب، لأن ذلك يخل بمبدأ المساواة الجنائية الذي هو مظهر من مظاهر المساواة أمام القانون»!
لقد تحولت القوانين في العراق من قواعد عامة مجردة إلى «أدوات» للاستخدام السياسي، وتحكّم الفكر الشمولي بنسخته الزبائنية، في تشريع تلك القوانين. وهي بعيدة تماما عن كونها رديفا للعدل ودعامة أساسية للديمقراطية، كما يصفها اللورد دينيس لويد في كتابه «فكرة القانون»!
كاتب عراقي