عجزت الطبقة السياسية السنية التي ظهرت بعد لحظة نيسان 2003، عن الدفاع عن مفهوم الدولة ومنطقها، واستتبع ذلك فشلها في تمثيل مصالح جمهورها، بسبب سذاجتها السياسية في البداية، وبسبب من انتهازيتها وأطماعها الشخصية في مرحلة اللاحقة.
وإذا كانت السذاجة السياسية لأداء الطبقة السياسية السنية في المرحلة التالية لسقوط النظام، يمكن تفهمها وإيعازها إلى تعّمد النظام السابق التجفيف المنهجي للحياة السياسية في العراق خارج إطار حزب البعث، خاصة بعد فشل الجبهة الوطنية التقدمية التي أعلنت عام 1973 وفقدت معناها سريعا. و أيضا بسبب التماهي التاريخي بين النخب السنية والدولة، والذي تكرس بسبب نظام «التبعيث»، وانعدام أي مساحة للعمل السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي خارج احتكار حزب البعث للمجال العام، ليتحول هذا التماهي إلى تماه بين النخب السنية وحزب البعث نفسه، وقد أزيحت هذه النخبة من خلال قانون اجتثاث البعث ومنعت من ممارسة أي دور سياسي، ليهيمن الحزب الإسلامي على التمثيل السني، مع شخصيات أخرى فصلت من حزب البعث في مرحلة سابقة، وبعض منتهزي الفرص، وبعضهم من البعثيين الصغار الذين لم يشملهم الاجتثاث.
منذ لحظة الإعداد للاحتلال، واجه الأمريكيون، في سياق ترتيباتهم المتعلقة بتسويق المعارضة العراقية، معضلة أزمة التمثيل السني، واستمر الأمر في مرحلة تشكيلهم لنظام ما بعد الاحتلال في العراق. هكذا اضطر الأمريكيون، هم أيضا، إلى تصنيع «الحركة الملكية الدستورية» في النصف الثاني من التسعينيات لحل هذه المعضلة مؤقتا، ثم دخل الحزب الإسلامي على خط الحل، بمشاركته، على استحياء، في مؤتمر لندن الذي انعقد في منتصف كانون الأول/ ديسمبر 2002.
بعد الاحتلال ازدادت هذه المعضلة تعقيدا، حين أدرك الأمريكيون أنه لا تأثير حقيقي لهذين الممثلين السنيين سياسيا واجتماعيا، وهو ما جعلهم يستغنون تماما عن الحركة الملكية الدستورية، ويختارون أربعة أشخاص آخرين، وجميعهم لم يكونوا أكثر حضورا وتأثيرا من الحركة الدستورية، إلى جانب ممثل الحزب الإسلامي، لغرض استكمال عدد الممثلين السنة في مجلس الحكم وفق المعادلة الأمريكية للتمثيل النسبي داخل المجلس.
مادام هناك أزمة تمثيل سني، وما دام هناك احتكار أحادي للسلطة في العراق وعدم وجود شراكة حقيقية، وما دامت السياسات التمييزية حاضرة بقوة، لن تشهد المناطق، التي تدعي هذه الطبقة تمثيلها، استقرارا حقيقيا
وبعد إجراء انتخابات الجمعية الوطنية في 2005، ثم كتابة الدستور والاستفتاء حوله، برزت سذاجة الطبقة السياسية السنية بوضوح. فقد عمد الفاعلون السياسيون السنة إلى مقاطعة هذه الانتخابات بشكل شبه جماعي، ما أدى إلى اختلال علاقات القوة داخل لجنة كتابة الدستور التي اشترط قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية أن تكون «منتخبة»! وهو ما اضطر الأمريكيين إلى إدخال بعض الشخصيات السنية إلى لجنة كتابات الدستور من أجل استكمال «الشكل الديمقراطي والتعددي» على العملية، دون أن تكون ثمة قناعة حقيقية لدى الآخرين، ولكن وجود هؤلاء الأفراد كان شكليا وهامشيا بسبب علاقات القوة، وبسبب غياب استراتيجية واضحة، فكان دورهم أقرب إلى دور المعارضة العبثية منها إلى دور الفاعل الحقيقي.
كما استطاع الأمريكيون «إقناع» الحزب الإسلامي بقبول الدستور كما هو في مقابل «وعد» قطعه السفير الأمريكي في العراق زلماي خليل زاد، بأنه ستكون هناك تعديلات دستورية لاحقة، بموجب مادة أضيفت إلى نص الدستور تنص على هذا التعديل خلال 120 يوما، وهي مادة لم تُفعّل بعد مرور 17 عاما عليها!
بداية من عام 2013 تحولت سذاجة الطبقة السياسية السنية إلى انتهازية صريحة، وأصبحت المصالح والأطماع الشخصية والزبائنية هي وحدها المحرك للسياسية السنية، خاصة بعد نجاح رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي في «تصنيع» سياسيين سنة، استطاعوا اختراق انتخابات مجالس المحافظات التي جرت في ذلك العام وبقوة، وقد أطلقنا عليهم حينها توصيف «سنة المالكي». وكانت المفارقة الهزلية أن هذا النجاح جاء في لحظة كانت الجغرافية السنية تشهد حركة احتجاجات واسعة ضد سياسيات المالكي التمييزية والطائفية! ولم يكن هذا النجاح مرتبطا وحسب بالتزوير المنهجي واسع النطاق الذي اشتركت مفوضية الانتخابات نفسها في تنظيمه، بل ارتبط أيضا بعوامل أخرى، بينها طبيعة السلوك التصويتي الزبائني للجمهور السني (سياسة شراء الأصوات عبر استخدام المال السياسي، وسياسات التوظيف، واستغلال العلاقة مع السلطة لتقديم الخدمات).
هذا النجاح دفع المالكي إلى استخدام الاستراتيجية نفسها مرة أخرى عام 2014 لضمان الولاية الثالثة اعتمادا على الصوت السني، واستطاع عبر اتفاقات سبقت الانتخابات (مع الحزب الإسلامي وحركة الحل وجبهة الحوار الوطني) أن يفرض تمثيلا سنيا أكثر تدجينا، وأكثر شرها للاستثمار في المال العام، ولا يمثل العمل السياسي بالنسبة لهم سوى الاستثمار في المال العام، واستخدام السلطة لتأمين الشبكات الزبائنية التي تتيح إعادة انتاجهم انتخابيا في كل مرة، في سياق معادلة أطلقنا عليها حينها توصيف «التدجين مقابل الفساد». ولولا تدخل مرجعية النجف بشكل مباشر لتحطيم حلم الولاية الثالثة، كان يمكن للمالكي تشكيل حكومته دون الحاجة إلى أصوات الصدريين أو المجلس الأعلى اللذين كانا معارضين لتجديد ولايته!
في انتخابات 2018، كرست القوى السنية، التي هيمنت على التمثيل السني بسبب تحالفها مع المالكي في العام 2014 ، معادلة التدجين مقابل الفساد؛ فقد سمحت سيطرة هذه القوى على مفوضية الانتخابات بتزوير الانتخابات على نطاق واسع، تزوير أنتج تمثيلا لا يختلف كثيرا عن تمثيل عام 2014، في ظل انحسار تام لأي برنامج سياسي واضح من أجل تمثيل مصالح الجمهور الذي زوروا باسمه! ولهثوا نحو المناصب التي تؤمّن لهم الريوع والشبكات الزبائنية التي تديمهم، دون السعي لاتفاقات من أجل تحقيق ضمانات تتعلق بمصالح جمهورهم الذي خرج لتوه من محنة داعش ومحنة تدمير مدنه بسبب الحرب!
توهم بعض ممثلي السنة أن أزمة التمثيل السني يمكن أن تحُل، ولو نسبيا، من خلال التحالف الثلاثي الذي أعلن في آذار/ مارس 2022. وأن علاقات القوة الجديدة يمكن أن تخرجهم من حالة التبعية والتدجين إلى وضع الدفاع عن حقوق ومصالح جمهورهم. لكن الوقائع أثبتت أن الأمر لا يتجاوز الوهم الذي حاول البعض تسويقه للخداع ليس أكثر؛ فبمجرد إعلان السيد مقتدى الصدر استقالة نوابه، ركض بعض أطراف تحالف السيادة مجددا من أجل عقد صفقة جديدة مع الإطار التنسيقي والتوقيع على بياض؛ لتأمين ريوع المنصب، وضمان استمرار شبكتهم الزبائنية!
وكما أزعم دائما فإنه مادام هناك أزمة تمثيل سني، وما دام هناك احتكار أحادي للسلطة في العراق وعدم وجود شراكة حقيقية، وما دامت السياسات التمييزية حاضرة بقوة، لن تشهد المناطق، التي تدعي هذه الطبقة تمثيلها، استقرارا حقيقيا!
لازال نصف السُنة بالعراق ضد العملية السياسية منذ الإحتلال الأمريكي !
ولهذا لم يصوتوا لأحد !! ولا حول ولا قوة الا بالله
أكثر من 90% من السنة العرب لا علاقة لهم بالعملية السياسية التي صنعها الاحتلال.