رغم مرور 85 عاما على الحادث الذي أودى بحياة ملك العراق، الملك غازي، في أبريل 1939، ما زال الغموض يلف القضية التي شغلت الرأي العام وحركت التظاهرات التي حاولت أن تهاجم المصالح البريطانية في العراق، لأن الجمهور الغاضب كان موقنا بأن البريطانيين تخلصوا من الملك الشاب، صاحب الطموحات والمواقف الوطنية التي وصلت به في بعض الأحيان إلى التهور في المواقف السياسية.
ورغم عدم كشف الوثائق الرسمية التي رفعت عنها السرية، أي معلومات تخص حادث وفاة الملك غازي، إلا إن شهادات وانطباعات العديد من السياسيين والباحثين شرّقت وغرّبت واتهمت، دون وجود أدلة حقيقية وجازمة تحسم الموضوع.
رغم عدم كشف الوثائق الرسمية التي رفعت عنها السرية، أي معلومات تخص حادث وفاة الملك غازي، إلا إن شهادات وانطباعات العديد من السياسيين اتهمت، دون وجود أدلة تحسم الموضوع
هنا أود أن أقارن شهادات الأطباء، وأحاول أن أسلط الضوء على تضارب المعلومات التي وردت فيها، وتضارب الأقوال حول من وصل أولا، ومن قام بالفحص الطبي، ومن حضر في القصر الملكي من رجال الحكومة ليلة الحادث، ومن طلب من الأطباء القيام بالإجراءات الطبية اللازمة. لنكتشف أمرا مهما، وهو إن شهادات شهود العيان لا تعد وثائق في البحث التاريخي، وإنما يمكن الركون لها كقرائن قد تساعد في كشف الحقيقية التاريخية بعد تمحيصها ومقارنتها بغيرها من الشهادات ومعرفة مدى تطابقها مع الأحداث الحقيقية. في البدء لا بد من قراءة تقرير اللجنة الطبية التي أصدرت شهادة وفاة الملك، والتعرف على الأطباء الموقعين عليها، إذ جاء في البيان الرسمي: «ننعى بمزيد الأسف، وفاة صاحب الجلالة الملك غازي الأول، الساعة الثانية عشرة والدقيقة الأربعين، من ليلة 3/4 أبريل سنة 1939، متأثرا من كسر شديد للغاية في عظام الجمجمة، وتمزق واسع في المخ. حصلت هذه الجروح نتيجة اصطدام سيارة صاحب الجلالة، عندما كان يسوقها بنفسه، بعمود كهرباء بالقرب من قصر الزهور، الساعة الحادية عشرة والنصف من تلك الليلة، وقد فقد صاحب الجلالة شعوره مباشرة بعد الاصطدام، ولم يسترجع شعوره حتى اللحظة الأخيرة». ووقع على البيان اللجنة الطبية المكونة من الدكتور جلال حمدي، والدكتور صبيح الوهبي، والدكتور صائب شوکت، والدكتور نويل براهام، والدكتور هاري سندرسن. وهنا تجدر الإشارة إلى أن جلال حمدي وصبيح الوهبي كانا طبيبين شابين حديثي التخرج، أما الأطباء الأخصائيين المعتمدين فكانوا العراقي صائب شوكت استاذ الجراحة في كلية الطب الملكية العراقية ومدير المستشفى الملكي والبريطانيين نويل إبراهام أستاذ الجراحة في كلية الطب، وهاري سندرسن عميد كلية الطب وطبيب العائلة المالكة. الشهادة الأبرز كانت شهادة الدكتور سندرسن، التي أوردها في مذكراته، حيث يذكر إنه طُلب هاتفياعلى وجه السرعة للحضور إلى القصر الملكي، وأُرسلت له سيارة لتنقله الى هناك، ويقول؛ «وصلنا إلى القصر، ولكن لدهشتي وجدتُ القصر في ظلام شامل، وحين سألت عن السبب قيل لي: إن الحادث الذي وقع للملك قد قطع التيار الكهربائي أيضاً. لم يكن هنالك وقت لإلقاء المزيد من الأسئلة، ولذلك أسرعت إلى غرفة كبيرة في الطابق الأرضي، كان الملك فيها ملقى على مطرحة في شبه ظلمة، وهو فاقد الوعي، وقد لُفّ رأسه الملقى على الوسادة، وكذلك الجزء الأعلى من وجهه بضماد غارق في الدم. كان يحيط به كل من الملكة عالية وغيرها من أفراد الأسرة المالكة وأحد المرافقين، ومن ورائهم حشد من التابعين، وجمع من الخدم الباكين، الذين تم صرفهم بسرعة». ويضيف؛ «كان نبضه ضعيفاً. وكانت نظرة واحدة إلى ما تحت ضماده المتفكك، تكفي للتأكد من استحالة بقائه على قيد الحياة لأكثر من ساعات قلائل على أعظم احتمال، فقد تحطّم قحف جمجمته، وغاصت قطع منه في دماغه. بقيت الملكة عالية هادئة، وطلبت مني أن أقول لها الحقيقة وهي تتوسل قائلة؛ «أريد أن أعرف. لأنه إذا ما مات غازي فلا بد من تعيين وصي!». لقد حزرت مُسبقاً أن جراحه قاتلة وحين اعترفت لها بشدة تلك الجروح، طلبت مني أن أعطيه زرقة على أمل أن يصحو بما يكفي لكي يقول بأنه كان يرغب بأن يخوّل عبد الإله سلطة الملوكية؛ ما دام فيصل الثاني لم يبلغ سن الرشد بعد». ويكمل: طلبت إلى رئيس المرافقين بأن يتصل هاتفياً برئيس الوزراء نوري باشا، وأن يطلعه على الحالة، كما طلبت إليه أيضاً بأن يستدعي الدكتور صائب شوكت مساعد الدكتور إبراهام أستاذ الجراحة، إلى القصر حالا. لقد كنت أخشى أن يعمد مختلقو الإشاعات – إذا لم يحضر أحد الأطباء العراقيين – إلى اتهامي أنا والدكتور إبراهام بأننا كنا مسؤولين عن وفاة الملك. توفي الملك غازي في الساعة الثانية عشرة والدقيقة الأربعين، بعد منتصف الليل، وقد وقعنا ثلاثتنا على شهادة وفاته. غير أن الاحتياط لم يمنع الوزير الألماني غروبا من الدس المغرض. فقد زار في اليوم الثاني المكان الذي وقع فيه الاصطدام وصادف أن التقى هناك بالوزير الأمريكي المفوض بول نابنشو، ليهمس في أذنه أثناء الحديث معه، قائلاً: لقد سمعت أن سندرسن لم يدعه (أي الملك) يعيش، كان غروبا يعتبر وفاة الملك غازي فرصة جاءت بها السماء لنشر دعاية مضادة للبريطانيين، واستطاع أن ينشر هذه الدعاية بنجاح، إلى درجة أنه حدث في صباح اليوم التالي؛ أن أحاط حشد من الأهلين بالقنصلية البريطانية في الموصل، وقد واجههم القنصل مونك ماسون بشجاعة على درجات السلم، لكنه سقط بعد أن أصيب بضربة فأس على رأسه ثم قتل بوحشية».
من الجانب الآخر هنالك شهادة الدكتور صائب شوكت، إذ يشير عبد الرزاق الحسني في كتابه «تاريخ الوزارات العراقية»، إلى حوار جرى مع الدكتور مفاده؛ « قال لي الدكتور صائب شوكت في اليوم الثامن من شهر أبريل 1975، وقد لقيته في دار اخيه ناجي شوكت بالدورة: انه كان أول من فحص الملك، بناء على طلب السيدين نوري السعيد ورستم حيدر لمعرفة درجة الخطر الذي يحيق بحياته، وأن نوري طلب اليه أن يقول في تقريره، إن الحادث كان نتيجة اصطدام سيارة الملك بعمود الكهرباء، في حين أنه -الدكتور صائب- كان يعتقد إن الملك قتل نتيجة ضربة على أم رأسه. ويضيف صائب إلى قوله: إنه لم يكن حاضرا فحص الملك غيره، وإنه لما حضر الدكتور سندرسن صاحت الملكة عالية: «إطردوا هذا الكلب الذي قتل غازي كما قتل أباه من قبل». وفي أواخر سنوات حياته، وهو في الثالثة والثمانين من عمره، أجرت مجلة «ألف باء» العراقية عام 1981 حوارا مع الدكتور صائب شوكت، قال فيه؛ «إن الملك غازي كان ضد المستعمرين الإنكليز، وكانت لديه إذاعة خاصة تذيع التعليقات والأخبار ضدهم، ولهذا تآمروا عليه وقتلوه». وأضاف: «أذكر إنه عند مقتل الملك (أبريل 1939) اتصلوا بي وأخبروني أن أذهب إلى القصر الملكي فذهبتُ إلى هناك، ووجدتُ طه الهاشمي ورستم حيدر، وطلبا مني أن أفحص الملك، وأخبرهما هل سيعيش. وضعت يدي على رأسه فدخلت يدي في الرأس، كان الملك قد ضُرب بقضيب حديدي على رأسه، وافتعلوا بعد ذلك حادث السيارة ليقولوا إنه قتل خلال اصطدامها بعمود. بعد الفحص قلت لهم سيموت بعد نصف ساعة أو ربع ساعة، وفعلا مات بعد قليل».
أما شهادة الدكتور جلال حمدي فتتسم ببعض الخصوصية، لأنه كان زميلا مقربا للملك غازي عندما كان صبيا منخرطا في الكشافة العراقية، وهو طالب في الدراسة الابتدائية، وبقيت علاقة الصداقة تربط الاثنين لسنوات، حتى بعد أن أكمل جلال حمدي دراسته الطبية وتخرج عام 1939، وفي ليلة حادث الملك غازي كان طبيبا شابا خافرا في المستشفى الملكي، ويروي ما حدث بقوله: «كنت يومها خافرا في المستشفى، وحوالي الساعة 12 ليلا استلمت مكالمة هاتفية من الأستاذ صائب شوكت وكان مديرا للمستشفى، طالبا مني وبسرعة تحضير أدوية ذكرها لي، وذلك بسبب تعرض الملك لحادث خطر وهو بسيارته، وأتت سيارة ملكية تنقلني بسرعة شديدة للقصر الملكي، وفي طريقي رأيت الحادث والسيارة وهي مرتطمة بعمود من الكهرباء معوج. فلما وصلت إلى القصر وأجهتني والدته وهي تبكي بحرقة قائلة اسرع فإن أخاك مصاب، فلما رأيته قبل قدوم باقي الاطباء كان فاقدا الوعي ورأسه مدمى وفيه كسر في مقدمة الرأس وحالته خطرة او ميئوس منها، وعند ذلك حضر كل من الدكتور صائب شوكت والدكتور سندرسن والدكتور إبراهام. وعند الفحص الكامل قرروا إن الحالة ميئوس منها وفعلا توفي بعد مدة قصيرة». ويضيف جلال حمدي في شهادته: «يعتقد جميع العراقيين تقريبا إن الملك قد قتل، ولكن للتاريخ أقول إن حادث الاصطدام كان قضاءً وقدرا، رغم أن الملك كان مكروها من الإنكليز، وحتى والدته كانت تعتقد إن الحادثة دبرها الإنكليز، وتأكد لي ذلك عند دخول الدكتور سندرسن بصحبتي إلى الغرفة التي كانت نساء القصر فيها، ينوي معالجة من يحتاج للعلاج منهن، فكانت والدته تصرخ وتقول أن لا يقترب منهن، بل يبقى جلال معهم حتى الصباح، وفعلا شعر الدكتور سندرسن بذلك وترك القصر. وبقيت معهم حتى صباح اليوم التالي ثم ذهبت الى المستشفى الملكي لأداء أشغالي المعتادة». ويصر جلال حمدي على وجود الملكة حزيمة، أم الملك غازي، في القصر يوم الحادث، مع العلم إنها توفيت عام 1935، أي قبل وفاة ابنها غازي بأربع سنوات.
كاتب عراقي