لم يكن أحد ليتخيل أن تتحول جلسة انتخاب رئيس مجلس النواب العراقي، إلى مزاد للرشى ومهرجان لإهانة الدستور والقانون والمنطق والأخلاق، لكن هذا ما حدث فعليا!
انقضى شهران على الإطاحة برئيس مجلس النواب السابق، بقرار مسيّس أيضا، أصدرته المحكمة الاتحادية العليا بتاريخ 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، رغم أن النظام الداخلي لمجلس النواب يقرر في المادة 12/ ثالثا، أنه في حال خلو هذا المنصب يجب انتخاب رئيس مجلس نواب في أول جلسة يعقدها المجلس لسد الشاغر، لكن المجلس لم يلتزم بهذه المادة واستمر في الاجتماعات. ولمعالجة ذلك «تبرعت» المحكمة الاتحادية العليا كالعادة للتغطية على هذا الانتهاك!
ففي 11 كانون الأول/ ديسمبر خاطب النائب الثاني لرئيس مجلس النواب المحكمة الاتحادية مستفسرا عن الآلية الواجب اتباعها «في حالة عدم حصول أي من المرشحين لهذا المنصب على الأغلبية المطلقة لعدد الأعضاء في الجولة الأولى»؟ وهو سؤال عبثي تماما لثلاثة أسباب؛ الأول أنه ليس من اختصاص المحكمة الاتحادية العليا تحديد هكذا آليات، فبموجب المادة 93 من الدستور هناك ثمانية اختصاصات حصرية للمحكمة، من بينها «تفسير النصوص الدستورية» ومراجعة عريضة الدعوى تكشف إن لم تتضمن مطلقا الاستفسار عن المادة 55 من الدستور المتعلقة بانتخاب رئيس مجلس النواب، بل الحديث عن آليات لم ترد مطلقا في النص الدستوري، وبالتالي يحول المحكمة من صلاحية التفسير إلى صلاحية التشريع، وكان على المحكمة الاتحادية رفض هذا الاستفسار من الأصل، الثاني أنه سبق لمجلس النواب أن قام بانتخاب رئيس لمجلس النواب في نهاية العام 2008 بعد استقالة رئيس مجلس النواب محمود المشهداني، كما قام بانتخاب النائب الأول لرئيس مجلس النواب بعد استقالة حاكم الزاملي عام 2022 دون أن تكون الحاجة إلى سؤال المحكمة الاتحادية العليا عن الآلية الواجب اتباعها! والثالث أن العالم أجمع يعتمد الطريقة الوحيدة المنطقية في حالة عدم حصول مرشح على الأغلبية المطلوبة في حال وجود أكثر من مرشح، وأن الأمر يحسم بجولة ثانية تجري بين المرشحَين اللذين حصلا على أعلى الأصوات!
وكان قرار المحكمة الاتحادية المرقم (322/ اتحادية/ 2023) أكثر غرابة حين اعتمدت المحكمة «بدعة» لم يسبقها اليها أحد؛ فقد فتحت باب الترشيح لمرة واحدة، وأنه في حال عدم حصول أي من المرشحين على الأغلبية المطلقة التي ينص عليها الدستور، يتم انتخاب رئيس المجلس «في تلك الجلسة أو الجلسات التالية بعد الجلسة الأولى (من ضمن جميع المرشحين من الجلسة الأولى)»دون أن تشرح المحكمة ما المنطق في إعادة الانتخابات بين جميع المرشحين وليس بين المرشحين الفائزين بأعلى الأصوات!
والملاحظة الأهم على هذا القرار هو أن المحكمة الاتحادية «أطاحت» بما قرره النظام الداخلي لمجلس النواب؛ بأن يتم الانتخاب في «أول جلسة» وليس في «الجلسات التالية»! ولم تكتف المحكمة الاتحادية بذلك، بل ابتدعت «بدعة» ثانية بأن «لا يكون عدم انتخاب رئيس جديد مبررا لتعطيل عمل مجلس النواب» وهو حكم لا علاقة له بالاستفسار الموجه للمحكمة، وكان واضحا انه قرار مسيّس، كالعادة، للسماح باجتماعات لمجلس النواب دون انتخاب رئيس في «الجلسة الأولى»!
ليس الدستور أو القانون أو المنطق أو الأخلاق هي الحاكم في العراق بل هي، كما نقول دائما، علاقات القوة
بالتأكيد لم يعد السؤال عن استقلالية المحكمة الاتحادية العليا في العراق أو مهنيتها، ذا قيمة بعد أن قبلت بأن تتحول إلى «مشرعن» لتمرير أي انتهاك دستوري أو قانوني يحتاجه الفاعل السياسي الأقوى و«غطاءً» له!
في جلسة يوم السبت 13 كانون الثاني/ يناير تنافس 5 مرشحين على منصب رئيس مجلس النواب، ولم يتمكن أي منهم من الحصول على الأغلبية المطلقة (166 صوتا) التي يشترطها الدستور، وقد حصل أحد المرشحين، وهو مرشح حزب تقدم الذي يتزعمه رئيس مجلس النواب المطاح به، على 152 صوتا. وكانت بعض وسائل الإعلام المحسوبة على تحالف دولة القانون وعصائب أهل الحق، فضلا عن مواقع التواصل الاجتماعي، قد بدأت في الأيام الأخيرة بترويج مقطع فيديو لاتهامه بـ «الترويج لحزب البعث». وكانت هذه التهمة سببا في صدور قرار من هيئة المساءلة والعدالة بشمول المرشح بإجراءاتها في سياق التحضير لانتخابات مجلس النواب في العام 2014، مع أنه لم يكن ثمة اعتراض سياسي على ترشيحه فيما سبق!
وكانت محكمة التمييز الاتحادية/ الهيئة التمييزية المختصة بالنظر في الطعون المتعلقة بقرارات هيئة المساءلة والعدالة، قد قررت عدم شموله «لعدم ثبوت عضوية المعترض في صفوف حزب البعث أو أي من الأجهزة القمعية» وأن التمجيد والترويج «يلزم ان يكون مستمرا وممنهجا». وكان واضحا من نص هذا القرار أنه كان أيضا قرارا «مسيّسا» لأن الهيئة نفسها أصدرت قرارات بشمول آخرين بإجراءات المساءلة والعدالة على جملة عرضية قالوها ولم تكن «مستمرة وممنهجة» كما في حالة صالح المطلك عام 2010 على سبيل المثال، ومع هذا فإن قرارات هذه الهيئة التمييزية، هي قرارات «قطعية وباتة» بموجب المادة 17 قانون المساءلة والعدالة.
وكان واضحا أن نتيجة الجولة الأولى لانتخاب رئيس مجلس النواب، لم ترضِ أطرافا قوية داخل الإطار التنسيقي، تحديدا دولة القانون وعصائب أهل الحق، والتي استطاعت أن تفرض على النائب الأول لرئيس مجلس النواب برفع الجلسة، وعدم الذهاب إلى جولة ثانية، وذلك من خلال مهزلة أخرى تمثلت في اقتراح النائب الأول لرئيس مجلس النواب تعديل النظام الداخلي للمجلس، وإعادة عبارة «هيئة الرئاسة» بدلا من «الرئيس ونائبيه» وهو مقترح يتعارض مع قرار بات وملزم للسلطات كافة، أصدرته المحكمة الاتحادية العليا عام 2012، وكان واضحا أن الغرض من هذا المقترح غير الدستوري هو خلق أزمة داخل المجلس، تتيح له رفع الجلسة وعدم المضي بالجولة الثانية لانتخاب رئيس مجلس النواب!
ولم تنته سلسلة المهازل، فقد عمد بعض نواب الإطار التنسيقي إلى رفع دعاوى قضائية لدى المحكمة الاتحادية العليا، اعتراضا على قبول ترشيح النائب عن «تقدم» الحاصل على أعلى الأصوات في الجولة الأولى متهمين إياه بتمجيد حزب البعث، مع أن المحكمة الاتحادية لا تملك النظر في قضايا المساءلة والعدالة، أو الطعن في قرارات قضائية تصدرها محكمة التمييز من الأصل!
ليس الدستور أو القانون أو المنطق أو الأخلاق هي الحاكم في العراق، بل هي كما نقول دائما، علاقات القوة، وما دام ثمة قرار اتخذه المالكي (دولة القانون) والعصائب (قيس الخزعلي) بعدم ذهاب موقع رئيس مجلس النواب إلى مرشح يتبع لتقدم/ الحلبوسي، فإنه يجوز لهم من منطلق منطق القوة هذا، اللجوء الى كل المهازل لتحقيق ذلك!
كاتب عراقي