في مواجهة الانتفاضات الديمقراطية التي اجتاحت بلاد العرب في موجتين، 2011 و2019، عملت نخب الحكم على توظيف مقولات خصوصية وتفرد المجتمعات العربية لكي تبرر رفضها للتداول السلمي للسلطة وتراجع حكم القانون وانتهاكات حقوق الإنسان والحريات.
بداية، تمثل مقولات الخصوصية العربية السهم الجاهز دوما للرمي الذي تواجه به النخب الحاكمة تدخلات الخارج الأمريكي والأوروبي الذي يوصم بالمركزية الغربية ويرمى بعدم فهم حقائق الواقع العربي. توظف مقولات الخصوصية، ثانيا، لتسفيه الطلب الشعبي على الديمقراطية التي ترادف نخب الحكم بين الدعوة إليها وبين نشر الفوضى.
ثالثا، تستخدم بعض القوى الاجتماعية والسياسية، تحديدا الحركات الدينية، يافطة الخصوصية لإضفاء هالة من القداسة واحتكار الحقيقة المطلقة على رؤيتها هي للدولة والمجتمع والتغيير واستبعاد تصورات الأحزاب والحركات العلمانية بادعاء طابعها الغربي وعدم ملاءمتها للواقع العربي.
العقدة الماثلة أمامنا هنا هي الطبيعة الإطلاقية لمقولات الخصوصية ونتائجها السياسية شديدة المحافظة. فهناك من جهة في معرض تناول قضية النموذج الأمثل للتحول الديمقراطي الدفع بعدم عالمية الخبرة الغربية وما أفرزته من صياغة ليبرالية لعلاقة الدولة والمجتمع والفرد المواطن. تشير النقاشات المتواترة في الفضاء العام العربي إما إلى خصوصية الغرب في القرنين التاسع عشر والعشرين بحكم الظاهرة الاستعمارية والثورة الصناعية، أو إلى اختلاف المسارات السياسية للمجتمعات الأوروبية إذا ما قورنت على سبيل المثال حالة بريطانيا بألمانيا، أو إلى أوجه قصور في ديموقراطيات العالم المتقدم إما متوهمة من شاكلة الفردية والمادية وتهميش الدين أو حقيقية مثل هيمنة أصحاب الأموال والتكنوقراط والتي تحد في نهاية المطاف من مصداقية الديمقراطية الغربية داخل وخارج مواطنها.
وواقع الأمر أن فساد مثل هذه النظرة لا يرتبط بالأساس بعدم دقة بعض جزئياتها، وإنما بتجاهلها المشترك العالمي في الخبرات التاريخية المتنوعة ومعايير التقييم الموضوعي للأخيرة فضلاً عن تناسيها مغزى ظرف العولمة الراهن. لا يمكن إدراك سعي البشرية الدؤوب نحو المزيد من الحرية والمساواة والعدالة واحترام حقوق الإنسان إلا باعتباره قيمة عامة تعارفنا وتوافقنا عليها جميعاً بعد تجارب مريرة في شتى بقاع الأرض. هنا تبدو عبقرية التجربة الغربية الحديثة بشقيها، الديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق الرأسمالي (تحديدا اقتصاد السوق ذو البعد الاجتماعي الذي يطبقه الكثير من الخبرات الأوروبية المعاصرة) والتي أنجزت أكثر نماذج البشرية رقياً وقرباً من الحرية والمساواة والعدالة على نحو يجعل من التساؤل حول إمكانيات استلهامها الشامل أو الجزئي خارج أوروبا وأمريكا الشمالية أمرا متوقعا ومشروعا.
لا يمكن إدراك سعي البشرية الدؤوب نحو المزيد من الحرية والمساواة والعدالة واحترام حقوق الإنسان إلا باعتباره قيمة عامة تعارفنا وتوافقنا عليها جميعاً بعد تجارب مريرة في شتى بقاع الأرض
وحين يضاف إلى هذه الحقيقة زمانية العولمة، ليس بالمعنى القدري الرائج في نقاشات المثقفين العرب في سياق رمزية تذكر بطوفان نوح، وإنما على أنها تعني تسارع معدلات التواصل والتفاعل والحراك بين اقتصاديات وسياسات وثقافات ومواطني أقاليم العالم المختلفة، يصير واضحا أن هناك نزعة طاغية نحو التوحد الكوني تتقارب معها تدريجياً توقعات ورؤى إنسان القرن الحادي والعشرين للمستقبل ومعاييره في الحكم على الأمور بصورة تتخطى حدود الدول القومية والإطارات الحضارية.
لذلك، تتهاوى المنطلقات الفكرية والسياسية والاجتماعية لمقولات الخصوصية العربية وخطابات تفرد مجتمعاتنا. ويصير في إنكار النخب الحاكمة لحق العرب في الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة وحكم القانون، وكذلك في نزوع تلك النخب نحو تصوير الديمقراطية كأمر غير ملائم للواقع العربي، الدليل الأكبر على رغبة الحكام في احتكار السلطة وفرض الطاعة على المواطنين وتهديدهم بالقمع والعقاب حال عدم الامتثال.
من ذات النافذة، الخصوصية العربية، يطل علينا أيضاً وهم مسؤولية الغرب عن الأزمات السياسية والاجتماعية المتتالية لبلادنا.
يتراجع في العديد من الأحيان التعامل النقدي مع مشكلات السياسة والمجتمع خلف ستر حاجبة تنسجها أحاديث متواترة عن سياسات القوى الكبرى وانعكاسات صراعاتها منذ قرون على قضايا المنطقة التي تبدو وكأنها ساحة مفرغة من الفاعلين المحليين وقابلة فقط لفعل أطراف خارجية معادية لا ترغب في تقدم العرب وتحيك ضدهم المؤامرات بانتظام. وبغض النظر، من جهة، عن صحة بعض الاستشهادات التاريخية الموظفة في تلك السياقات والمرتبطة عادة بحقبة الاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر والعشرين مرورا بتأسيس إسرائيل (1948) وانتهاء بالهيمنة الأمريكية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ومن جهة أخرى عن الخلل الموضوعي الكامل للنظريات المتداولة بشأن التآمر الغربي على العرب قبيل وأثناء الانتفاضات الديمقراطية المعاصرة وهي تلك النظريات التي روجت لها النخب الحاكمة الخائفة من التغيير في بلاد العرب، بغض النظر عن كل ذلك يظل الهدف الأبرز لتحميل الغرب مسؤولية أزماتنا السياسية والاجتماعية هو إعفاء الذات الجمعية العربية من مسؤوليتها هي الفعلية عن غياب الديمقراطية وعن تدني معدلات النمو الاقتصادي والاجتماعي وعن تراجعنا الكارثي في مجالات المعرفة العلمية والتقدم التكنولوجي. كما أن تحميل الغرب مسؤولية أزماتنا يمكننا كعرب من إضفاء رمزية الضحية على وجودنا حيث يصبح الآخر الغربي هو المسؤول عن إخفاقاتنا وعذاباتنا وأيضا المالك الوحيد لقدرة خلاصنا النهائي منها.
ثم تأتي مقولات الخصوصية الدينية والثقافية لبلاد العرب التي تطلقها الحركات الدينية في معرض سعيها لادعاء احتكار الحقيقة المطلقة ومحاربتها للأحزاب والحركات العلمانية بسلاح نزع المصداقية. غير أن مقولات الخصوصية الدينية والثقافية التي ترسم صورة وهمية للعرب كراغبين في الحكم الديني وصورة غير موضوعية للعلمانيين العرب كدعاة تغريب واغتراب، مثل هذه المقولات لا ترتكز إلى شواهد موضوعية وتنبني على رؤية معكوسة لترابطات الدين والثقافة والمجتمع تجعل من الأول والثانية مهيمنين على الأخير في حين أن وقائع التاريخ لا تعرف إلا متغيرات دينية وثقافية تتبدل معانيها ووظائفها بتبدل أحوال المجتمع وتطلعات المواطنين.
إزاء مقولات الخصوصية العربية التي توظفها إن النخب الحاكمة غير الراغبة في التداول السلمي للسلطة أو الحركات الدينية التي تريد أن تفرض رؤاها للدولة والمجتمع كحقائق مطلقة، تصبح مهمة القوى العلمانية والتحديثية في بلاد العرب صياغة فهم للسياسة والمجتمع والديمقراطية المنشودة يتخطى حديث الخصوصية ويكتشف مساحات الفعل العالمي ويدرك المتراكم من قيم إنسانية مشتركة تدفعنا جميعا إلى طلب الحق والحرية والعدل والتقدم ورفض الحقائق المطلقة.
كاتب من مصر
الخصوصية هي حقيقة مطلقة، ومن قال ان الصين بمواردها وتاريخها ومؤسساتها تشابه نظيرتها في اثيوبيا او استراليا ؟ لكن فساد القوة المطلقة هي ايضا حقيقة مطلقة ما لم يثبت العكس. ولهذا جاءت الشورى الملزمة او الديمقراطية لترويض السلطة وتدجينها، كما انضباط السوق يروض المنشآت الكبيرة المحتكرة. اما العدل والحرية والتقدم فهي شعارات الجميع بلا ضابط ولا حدود.