تقديم : لا داعي لكي نذكر، أننا نعيش اليوم في زمن لم يعد فيه الآخر يخفي، أن تقدمه مرهون بجعل من هم دونه في الاقتصاد والعلم والمعرفة والتقنيات، إلخ، مجرد مستهلكين، منهم يستمد قوته وسوقه لبيع أسلحته، وما يصنع من تكنولوجيات وسيارات وغيرهما. هكذا، هي العولمة المتعددة التعاريف، التي هي في جميع الحالات، مبنية على منطق القوة، حيث لا مجال للضعيف المنتظر دوما أن تكون السماء بجانبه، لمجرد أنه مسلم وأفضل من الكافر، الذي لولا دواؤه ما عالج المسلم مرضه، ولولا تجهيزات حمامه، ما صلى صلاته، ولولا طائرته ما زار قبر الرسول عليه السلام، بل لولا تقنياته ما امتطى سيارة فاخرة، ولا تواصل مع حفيده في أمريكا أو في فرنسا ولا في غيرهما.
الغرب، واضح في كل ما ينحت لنفسه من تقدم، هو له، ومن يرغب فيه فليدفع، ووفق ما يحب الصانع. غرب عقلاني وواقعي في حياته وغير مرتم في حروب طائفية ولا مذهبية ولا دينية. حسم أمر دينه وفصل بين الدنيوي والأخروي، وجعل من الديمقراطية ولعبة الصناديق، مفصلا جوهريا في تدبير شؤون حياته، وأعطى للخيال العلمي مكانة بارزة، ليسبح في الابتكارات، حد التفكير في التسابق نحو مَنْ من الممكن أن يحتل القمر، لكي يكون مسكنا جديدا له، وقد يترك هذه الأرض لأصحاب النيات مثلنا، لنستمر في التطاحن في ما بيننا باسم دين، هو بعيد عما نحن عليه اليوم، من إراقة دماء وقهر وتعذيب وتخوين لبعضنا بعضا، في حين أن رسالته السماوية بنيت على المحبة والجمال والعلم والقيم الإنسانية والحوار المفضي إلى الرخاء والسعادة للجميع.
فماذا نحن عليه اليوم في هذه العولمة المعولمة والمقولبة وفق أهوائهم هم؟
استعمالنا للفظة العرب، هنا، هو استعمال ثقافي عام، وإلا فالمقصود من يسكن من الماء إلى الماء، أي من المحيط إلى الخليج، بدون تعصب لعرق أو للغة أو لمذهب، بل باستحضار كافة المكونات الإنسانية التي تسكن هذه الأراضي الشاسعة، والتي هي اليوم، تُسيل لعاب الغرب، ولن يفك أزمته الرأسمالية التي وصلت إلى أوجها المتوحش، الباحث عن الربح ولا شيء آخر غير الربح، إلا بجعل هذه الأراضي مجرد سوق واعدة لبيع المزيد من منتوجاته المعلبة، ووفق هواه هو، مع رغبة، ظاهرية أو باطنية، في تعطيل العقل العربي، وتحفيزه على الاقتتال الدائم، ما دام الكل يأتي إليه باحثا عن حل، عادة ما يكون وفق «فلسفته» السياسية، القائلة بضرورة اللاحرب واللاسلام، لكونها معادلة مفيدة له اقتصاديا وعسكريا وثقافيا، وأحيانا يغلب منطق الحرب المفضية إلى تجريب ما يصنع من أسلحة.
الحكاية تبدأ من كوننا، وإلى حد الآن، مازلنا لم نتمكن من العثور على طريق مؤد إلى نهضة حقيقية، تضمن لنا على الأقل أن نملك الشجاعة ونخلخل انتظارات هذا الآخر، ونبدأ في قول (لا) له وبدون خوف من طائراته بدون طيار. أصل الداء، آت من كون ذاكرتنا اليوم، هي ملساء، فلا شيء مدون فيها غير قهر بعضنا بعضا، وغير كوننا أصبحنا نتفنن في جر الناجح إلى حفرة الفاشل، في حياتنا العائلية والجمعوية والسياسية والثقافية، وفي كل مناحي الحياة. لا شيء نبرع فيه اليوم غير تنشيط ماكينة النميمة، وتتبع تفاصيل من يبادر لزرع نبتة جميلة ما، هنا وهناك. علينا، أن لا نترك له الساحة لكي يبرز نجاحه في مجال ما. هنا مواعيد كثيرة في الثقافة والسياسة والاجتماع والاقتصاد والرياضة، وهنا تقارير عديدة نتصارع في كتابة تفاصيلها الدقيقة، وكأننا سنحولها في الصباح الموالي إلى برنامج عمل، في حين، العديد مما سهرنا من أجله ليال عديدة، هو ركام وورق أصيب اليوم برائحة التلف.
الغرب لن يفك أزمته الرأسمالية التي وصلت إلى أوجها المتوحش، الباحث عن الربح إلا بجعل دول العرب سوقا واعدة لبيع المزيد من منتوجاته
نجتمع ونتصارع ونتخاصم وننهي اجتماعاتنا ولقاءاتنا بشكل عصبي مخيف.. أصبحنا أضحوكة العالم، هو اليوم يتفنن فينا وفي كل الدول التي تشبهنا في وضعنا هذا. من حق هذا العالم المتقدم أن يفعل فينا ولنا وبنا ما شاء، بكل صدق، له الحق حتى أن يوزع علينا حصتنا من الدواء والطعام، وفق ما تبقى له، وطبعا وبالمقابل، فالغرب لا يغازل أحدا ولا يتغزل إلا بأبنائه، لكونهم وجدوا ضالتهم في النجاح والتميز والابتكار. منظومتهم السياسية والتعليمية والثقافية والعلمية والرياضية، مبنية على كون النجاح مفيد للجميع، والفشل مضر للجميع. رفعوا شعارات حقيقية وجنوا منها سلطتهم اليوم في هذا العالم، استمتعوا بالحياة وفهموا مغزاها، في حين ما زلنا نذبح بعضنا بعضا من أجل فتوى ما تخص جزئية من جزئيات الحياة.
لا فكر نقدي وعلمي واجتماعي، رسخناه في منظوماتنا التربوية المتهالكة وغير المولدة لقيم العقلانية والروحانيات العميقة الذاهبة إلى العمق، وليس المتلبسة بالوحل المظهري الحياتي. فما السبيل إلى زمن نهضوي عربي حقيقي، يثمر ثمارا مغذية للجميع؟. شاب رأسنا من أجل مشاهدة جزء منها، وقبل رحيلنا من هذه الدار. لنتأمل ونشرح ونفكك واقع اجتماعاتنا، على سبيل المثال فقط، لندرك أن الكثير مما جف لساننا من أجله لم يتحقق. لا شيء يلوح في الأفق غير التطاحن والرغبة في التخلص ممن وجدنا فيه بذرة أمل وحلما جميلا. وحده حلم قتل من علمنا حتى لا يبقى مهيمنا في الساحة، وترسيخ الفشل في كل مظاهر الحياة، ما يميز العديد من العلاقات. شعار، لا تنجح لا أنت ولا أنا، هو المهيمن، في العلاقات التجارية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وقس على هذا في كل جوانب هذه الحياة التي هي اليوم فارغة من الابتكار والعلم والمعرفة، ووحده البحث عن ترسيخ النماذج الفاشلة، وفق خطة قائلة: لا حياة لفن هادف موقظ للميت فينا، بل، لا مجال لبروز عالم وفيلسوف ومثقف وكاتب عاش من أجل حلم البناء، ليجد نفسه معزولا في بيته يصارع من أجل الحصول على علاج قد يخفف عنه ألم معاناة ما سهر من ليال، من أجل الكتابة والتفكير والقراءة المركبة التي اعتقد أنها مفيدة لبلده ومحيطه العربي ككل. الثلاثية المغيبة في حلمنا المؤجل: 1 ـ لا تطوير للذات غير الثورة على نفسها للتخلص من عبء بناء الفخاخ لغيرها، والبدء في كل الديانات السماوية والوضعية، وغيرها، ضرورة معالجة النفس من أمراضها المتعددة، لاسيما التلذذ بفشل الآخرين، والاقتناع بأن النجاح مفيد للجميع. الثورة على تخلف الذات ثورة حتمية وتحتاج دربة وتمارين عديدة، كل صباح ومساء ومحاسبة أثناء وضع الرأس على مخدة النوم. الاشتغال على الذات، بجعل الحلم الجماعي مفيدا للجميع، مسار نوعي ومهم للجميع. كيفية الاقتناع، أن الفشل مضر بالجميع وبالمجتمع والإنسانية ككل، هو وعي ضروري، إذ من الممكن البدء في ترويض الذات وجعلها تؤمن بالنجاح لفائدة الجميع.
2- وهذا لن يتحقق ولن يستمد أيضا إلا من منظومة تعليمية ترفع شعار النجاح للجميع والتميز للنخبة. شعار لو فككناه، لتمكننا من فهم وظيفة التعليم والتربية ككل. الثورة على المحتويات البيداغوجية التي نتعلمها وعلى مناهجها والبحث عن بدائل ترسخ الجمال والإبداع وتكوين مدرس مساهم في ترسيخ ثقافة النجاح، وعدم بناء فخاخ توقع المتعلم في فخ الفشل، مسلك حتمي وإلا من من الممكن أن يقوم بنشر هذا الوعي غير مدرس متمرس وممتهن لثقافة الحلم والنجاح؟
3- الرابط بين الفرد والمدرسة الأسرة، هي اليوم منشغلة بالعديد من تفاصيل الحياة «الخبزوية» وبمعزل عن تعميق وظيفتها التربوية في زحمة عولمة أتلفت الجميع بتكنولوجيا رقمية، تستغل فيها جوانبها السلبية، أكثر من جوانبها النفعية الثقافية البحثية والعلمية، بدورها مطالبة بتقوية لحمتها ومواجهة ما يحاك لها في السر والعلن من هذه العولمة التي لا ترى فيها سوى وسيلة لتمرير وبيع منتوجاتها.
ثلاثية متفاعلة في ما بينها، ومشكلة لقنطرة حقيقية للانتقال من سيادة هذه الذاكرة الملساء، المهيمنة الآن و»العاشقة» لثقافة الفشل، نحو عالم آخر يتميز بنشر العلم والمعرفة والنجاح. طبعا، قد نعثر على بعض الاستثناءات هنا وهناك، لها قيمتها ورمزيتها ذات البعد الإنساني الجميل، لكنها في المجمل تبقى بدورها مطاردة بالفشل المهدد للجميع.
هذه، مجرد وجهة نظر في واقع عربي يعج بالعديد من الهموم، وما زال لم يعثر على مسلك نحو بناء منظومة علم وتربية وتعليم وإبداع وتفكير، قادرة على خلخلة جوانب الفشل التي تسكننا، حد تسميتنا ونعتنا بنعوت عديدة كلها تصب في كوننا لا نطمئن إلا ونحن في حضن الفشل الرهيب.. لم نعد ننتج إلا ثقافة نصف الكأس الفارغة، ولا بنية معجمية في ما نكتب، إلا ذلك المعجم الآتي من رحم النقض والرفض والبحث عن كافة أشكال العرقلة. فمتـى نكف من زرع ثقافة المحو ونسيان ما ينتظرنا في هذا العالم الذي لا نملك فيه إلا بناء وتشييد الحفر لبعضنا بعضا، في حين أننا مطالبون بتعبيد الطريق للناجح والتصفيق له، والالتفات نحو الفاشل لكي نمد له أيادينا ونخرجه من الحفر العديدة التي رميناه فيها بأنفسنا، نحو ربطه بطريق الناجح؟
كاتب مغربي
تشخيص دقيق لحال الامة المتردي. والخروج من هذا النفق المظلم ليس من السهل ويتطلب جهدا ووقتا ونضالا. والمعركة هي معركة معرفة وثقافة ووعي على كل المستويات كما تفضلت في كل مقالاتك السابقة
تشكر على تعليق وعلى كرم التتبع لما انشر ! مع الود !
طرح عظيم