ما أراده الخبير والباحث في البنتاغون، «صامويل هنتنغتون» (صدام الحضارات)، يسير اليوم نحو التحقق بشكل مرعب، وكأن البشرية بدأت تأكل رأسها بسبب جشعها وأطماعها المزمنة. فبعد «صدام الحضارات» الذي وضع الكثير من البلدان تحديداً، والديانات، في مرمى الفكرة التي بني المشروع عليها، أصبح اليوم المرجع الأساسي للنظريات العالمية (اليمينية) الأكثر تطرفاً، والتي ترى في كل من لا يشبهها عدواً أكيداً يجب إضعافه قبل أن يتقوى ويصبح خطراً مهدداً. هذه المقاربات تذكر بنظريات «الصفاء العرقي» التي أدت إلى واحدة من أكثر الحروب العالمية تدميراً وتقتيلاً وتشريداً.
من 60 إلى 80 مليون قتيل. ومزقت الخرائط العالمية، ووضعت العالم كله في الحيرة وإمكانية التدمير الذاتي في كل لحظة، التي يمكن أن يكون وراءها أشخاص مشبعون بثقافة الهيمنة والسيطرة والضغينة. النظرية نفسها تتحول اليوم إلى أيديولوجيا متعددة الرؤوس: الصفاء العرقي؟ وضع الإسلام (وليس الحركات الإسلاموية) في دائرة العداء؟ نظريات الإحلال الكبير (التي يرتع فيها اليوم اليمين الفرنسي المتطرف وجزء كبير من اليمين التقليدي؟ العنصرية التي ابتذلت لدرجة أن أصبحت أمراً عادياً؟ تقف وراء هذه الأيديولوجيا ترسانة خطيرة من المؤسسات الإعلامية والقنوات المناصرة «للعالم الجديد» أي لـ«نيو كولونياليزم»، مبررة في طريقها كل الممارسات التي تبتذل الإنسان، وتغير الجغرافيا العالمية، وتبيد البشر من خلال حروب مفتعلة لا شيء يبررها سوى الغطرسة والعمل على امتلاك خيرات الأرض كلها، والسيطرة عليها بمختلف الوسائل.
وربما كان العالم العربي أول أهدافها لضعفه، وحاجته إلى الحماية، وتبعيته التاريخية، بعد أن فشل في صناعة قوة ردع حقيقية تجعله في منأى عن الأطماع. بعد حرق «الدب» السوفياتي (قبل أن يقوم من رماده أكثر شراسة) الذي لم يكن سهلاً، لأن خبرته التي جعلته يتخلص من الكثير من الجمهوريات التي كانت تشكل عائقاً لانطلاقه، أعادته الأحداث إلى الواجهة ليصبح العدو الأول الذي «يتهدد السلم العالمي» بوضع أوكرانيا مثلاً في مدار الصراع الكبير المرتبط بتغيير الخرائط المستقرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. نحن أمام عالم فقد اللغة ولم يعد قادراً على الحوار. كلما وقع اختلاف ما حول قضية، ضغط «العالم الحر» على الزناد، ليظهر لنا كم أن الوحشية لم تتغير كثيراً وما تزال مترسبة في القاع في أشكالها الأكثر دموية وغطرسة وحب التملك الكلي وأنانيات مقيتة. لا خيار أمام الضعيف، إما الانصياع للأقوى أو النهايات الفجائعية. في ظل هذه الأوضاع التي تتهدد البشرية جمعاء، يبدو الحوار في كل القضايا الإنسانية العالقة بعيداً وربما مستحيلاً. كل شيء يُفرض بالقوة مشفوعاً برؤية أحادية مسبقة، لهذا يجد العربي نفسه داخل الدوائر التي تنغلق عليه باستمرار، دون أن يكون له أي دور في الخروج منها، مثل عش عنكبوت، كلما تحرك زاد وضعه تعقيداً.
السؤال الكبير الذي تتأسس عليه كل النقاشات الجادة التي تروم عالماً أكثر عدالة وإنسانية وجمالاً، ليس عالم الإفناء الذاتي الذي يقف وراءه العقل العربي الضعيف نفسه، وهو من يتحمل مسؤولية وضعه، ولكن أيضاً المايسترو أو المعلم الكبير الذي يدير اللعبة ويملك رؤوس خيوطها: هل يستطيع العربي أن يقرأ نفسه في مدارات هذه النقاشات ومكانته في السياسات الدولية؟ احتُقِر لدرجة أن أصبح لا يؤمن بنفسه ولا بالطاقات الخلاقة التي يملكها، ولا بتاريخه الحي، ولا بجغرافيته الغنية. لهذا سلك الطرق الأكثر اختصاراً ليضمن حمايته، مع أنه يعرف مسبقاً أن الجشِع لا يهمه شيء آخر سوى مصلحته أولاً وأخيراً. ماذا فعلت أمريكا بالأنظمة التي كانت هي من وراء وضعها؟ تركتها تموت، وتحرق، وتعلق على المشانق، وتجرجر في الساحات العامة أمام مليارات البشر. لهذا تحولت بعض ردود الفعل العربية الرسمية وغير الرسمية إلى سجالات مفرغة في العمق، ولا تحكمها حتى إرادة الفعل. بل توجه نحو «عولمة فكرية وحقوقية» شديدة السخرية ونسيان شرطياتها القاسية، وهذا يذكر بالمثل المغاربي الشعبي «واش خاصك يا العمياء؟ خاصني الكُحل»، فتم توجيهها نحو مشكلات إنسانية كبيرة وواسعة، وتم نسيان المشكلات المحلية الكبرة: مشكلة دارفور، أفغانستان، الأقلية الدينية التيبتية، الأكراد في تركيا، ما يحدث للأقليات الصينية المسلمة، النووي الإيراني، ونسي أو تناسى مشكلات فيه مثل القنابل الموقوتة: الإبادات الجماعية في العراق، انهيار منظومة السلطة في ليبيا، تفكك سوريا، حرب اليمن… البيت العربي تحول في سنوات قليلة إلى بيت من زجاج، كل من مر بالقرب منه رماه بحجارة جعلت زجاجه ينهار ليصبح في مرمى النهب والسرقة والاعتداء. مشكلة النيوكولونياليزم الممثل في الماسيترو الأعظم، أنه يريد عملاء معلنين ضد شعوبهم، وليس بشراً عقلاء يفكرون مثله، وحتى أفضل منه، يصل معهم إلى نتائج تضمن السلام في منطقة من أكثر المناطق اشتعالاً. القوة هي المنطق الأوحد. لا حوار. على العكس من ذلك، فقد غيروا التاريخ والجغرافيا وعبثوا بالخرائط، ومزقوا الأمم بضرب بعضها ببعض، ولا قيمة للأموات الذي ينتهون ضحايا لهذه الماكنة المتغطرسة، وأفقروا العقل العربي وسحبوه نحو القرون الوسطى التي تخلصوا منها منهم، بالعنف أحياناً، لكن جعلوها وراءهم ليتحرروا منها ويحرروا الحياة من تخلفها. ووضعوا العرب تحت رحمة مئات، وربما الآلاف من القنابل النووية التي تنتظر أي عربي يجرؤ أن يرفع رأسه يوماً مطالباً ببعض حقه. لا يوجد شيء بريء في السياسة والأعراف الدولية التي تقيس كل شيء وفق المصلحة، وربما كان على مثقف اليوم، عربياً كان أو إنسانياً، أن يتنبه قبل أن ينخرط في نقاشات ويقينيات هي في الجوهر ضده، لأن ما تخفيه يساوي أضعاف ما تظهره. مشكلات كثيرة تحتاج إلى الحذر على الرغم من بريقها الخارجي: الديمقراطية؟ الإرهاب؟ الدين؟ الدولة؟ الصراع الدولي؟ حماية البيئة؟ الأقليات؟ المجتمع المدني؟ حقوق الإنسان؟ وغيرها، هي مشكلات حقيقية بكل تأكيد، تواجهها البشرية اليوم بصعوبة كبيرة، لكنها أيضاً قد تكون أهدافاً فارغة ووهمية. كل ما يلمسه المايسترو الأعظم يحوله على ضده. الإنتليجنسيا العربية والعالمية أيضاً، تدور في حلقات توضع فيها دون القدرة على الخروج من خيوطها العنكبوتية، داخل سياق أنظمة مرتبكة تلبس الديمقراطية عند الحاجة، وتأبى أن تتخلى عن نظمها السلالية. تقبل بحقوق الإنسان، وتدفن من تشاء في غياهب السجون والمعتقلات، تتخلص من غريمها السياسي بالجريمة المنظمة والاغتيال، وتحتل رأس الركب في جنازته. تقبل بالعدالة، وتطلق يدها ويد كارتيلاتها عبر العالم للنهب المنظم. استولت على التأويل الديني بعد أن أفرغته من محتواه الإنساني، وحولته إلى آلة حرب.
وجعلت من الاشتراكية التي استلمتها في عز تمركزها، وسيلتها للاغتناء السري. حتى الليبرالية لم تنج من عملية المسخ، فقد تحولت إلى مجرد غطاء كبير للنهب والسرقة الموصوفة المغطاة بالقانون وتهريب المخدرات والاتجار بالأعضاء، وغير ذلك. يجب الإقرار بضعف البنيات السياسية والثقافية والاجتماعية في العالم العربي، فهي اليوم غير قادرة على حماية نفسها ومواطنيها، لأنها داخل عش عنكبوت متوحشة، كلما تحركت التفت خيوط الموت حولها لدرجة الخنق. السياسة في هذه المعادلة الصعبة كثيراً ما تكون مشتركة في الجريمة، ولهذا فهي تتستر وتتخفى حتى تظل مثالية في ممارساتها شكلياً، وهي الحل والمبتغى في ظل وضع عربي منتهك، تمت تعريته كلياً، ليصبح لقمة سائغة للأقوى، للمايسترو الأعظم.
الله أعظم، أستاذ واسيني
شكرا شكرا على هذا المقال
راءع
صامويل هنتنغتون ليس هو اول من استخدم مصطلح صدام الحضارات ، بل المفكر و عالم المستقبليات مهدي المنجرة سبقه في استخدام مصطلح صدام الحضارات.والمفكر مهدي المنجرة تنبّئ بالانتفاضات او ما يسمى بالربيع العربي وتنبّئ بأن هناك مخطط لتدمير العراق و هذا ما فعلته امريكا والغرب .
أخي أحمد، كيف ذلك وهل تستطيع أن تعطينا مصدر لكلامك
إن وجود يميني فرنسي متطرف مثل زمور بقدر ما هو تحدٍ للبعض أراه إيجابيا لأنه سيحرك المياه الراكدة بفعل من الاستجابة..فمن نعم الله على الإنسان أن يكون المرض دليل الصحة.لنرى النصف الفارغ قبل الممتليء.فالأخير سيفرغ.
مقالة رائعة وموجعة
شكرًا أخي واسيني الأعرج.تبادر إلى ذهني شخصيتين خلال قرائتي للمقال: باراك أوباما وبشار الأسد. كلاهما كان جندي وخادم مطيع للمايسترو الذي تم الحديث عنه في المقال. هذا بكل أسف لأنه في كلتا الحالتين كان هاتان الشخصيتان مرشحتان لأن تقدم ماهو معاكس وتقدم مثال كبير أو رائع في التاريخ لعالم معاصر وحياة إنسانية جديدة. وبالمناسبة كلاهما يقدم أو تُقدم شخصيته في صورة خادعة وكأنها مثال للإنسان والسياسي المعاصر (وبمساعدة الزوجات أيضًا) الذي يخدم الإنسانية على أحسن مايكون. قد تختلف التفاصيل بينهما لكن أعتقد أن وجه التشابه واضح وفي أنهما خزلا الإنسانية والمصيبة هي أنه تحيط بهما هالة خادعة. وأعتقد هذا سيكون مصدر هام للإنتلجسيا في البحث لتعرية الأمر وتقديم الصورة الصادقة حتى نستطيع الخروج من عنق الزجاجة التي وضعنا فيها المايسترو. ولا أعرف حقيقة كم أنا مصيب في رأيي ربما تأثرت كثيرًا بهذه الأحداث بسبب الوضع في سوريا.
اختي الفلسطينية هي مقالك رائعة اتفقنا لكنها ليست موجعة.
موجعة لانها تضع الاصبع عن الجرح العربي
لو كان مالك بن نبي مازال حيا لقال : وربما كان العالم العربي (أي الأنظمة الحاكمة) أول أهدافها (لا) لضعفه، وحاجته إلى الحماية (ممن؟) ، وإنما لقابليته (ها) للتبعية للقوة المهيمنة التي لا تملك من الحضارة التاريخية، إلا حضارة “الهنود الحمر” ، التي دمروها ، وحضارة القواعد العسكرية في أصقاع العالم ، وإشعال الحروب في كل مكان للتخلص من مخازنها . لماذا كوبا ، الفييتنام ، بل حتى الصومال ، لم تكن وليست ضعيفة ، والعالم العربي (أي الأنظمة الحاكمة) ضعيف (ضعيفة) ؟ .
تحليل واقعي ودقيق ،ينم عن فكر عميق متابع لأحداث العالم بتفاصيلها،وعارف بحيثيات ما يدور في هذا العالم من صراع بين الخير والشر وطغيان الإنسان على أخيه الإنسان،وما يحدث من دمار تتخلله مشاعر إنسانية راقية تنبذ منطق القوة والتطرف…،وتنحاز أحيانا لبني عرقها في غير عنصرية، ،و طغيلن الإنسان على اخيه الإنسان…
دوما مبدعا دكتور يسلم قلب الإنساني بامتياز.
المايسترو الاعظم اللاانساني معروف عبر التاريخ ، وتبقى دورة الحياة مستمرة وتبقى الانسانية شامخة رغم سلاسل الدمار عبر التاريخ.