لم يحدث في تاريخ العلاقة الأمريكية الإسرائيلية أن وصلت الأمور إلى حالة الارتهان المتبادل غير الواضح الاتجاه مثل ما وصلت إليه هذه الأيام.
الصحافة الأمريكية خلال هذا الأسبوع تبدو منشغلة بتحليل حدثين مهمين، الأول يخص الداخل (متغيرات الانتخابات الأمريكية، وانسحاب جو بايدن وصعود أسهم كمالا هاريس كمرشحة مرتقبة للديمقراطيين للانتخابات الرئاسية) ويخص الثاني الخارج (زيارة نتنياهو إلى واشنطن وأي رسالة يريد تبليغها أو تلقيها من الولايات المتحدة الأمريكية خلال مرحلة الانتخابات الرئاسية).
التحليل التقليدي، الذي يستأنس بمسار العلاقات الإسرائيلية الأمريكية، وحاجة المرشحين الجمهوري والديمقراطي للاستثمار فيها، لا زال يردد فكرة أن زيارة بنيامين نتنياهو جاءت لاستعمال ورقة اللوبي الصهيوني، لحمل المرشحين الجمهوري والديمقراطي على تقديم ما يمكن تقديمه من دعم للدولة العبرية في حربها على غزة، وأنه بدل أن تمارس الولايات المتحدة الأمريكية الضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي من أجل إنهاء الحرب وقبول صفقة تبادل الأسرى مع حماس، فإنه نجح بمناوراته المتعددة في كسب الوقت، وتمطيط المفاوضات إلى اللحظة الانتخابية الحاسمة في الولايات المتحدة الأمريكية، تلك اللحظة التي سيكون المرشحان معا مضطرين إلى الخضوع وتقديم الثمن للفوز في الانتخابات.
لا شيء في الواقع يضعف مصداقية هذا التحليل، لكن في المقابل، ثمة معطيات أخرى في المعادلة، غير إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، بعضها يخص فعل المقاومة الفلسطينية والمحور الذي يدعمها في المنطقة، وما يترتب عنه إقليميا ودوليا، وبعضها الآخر، يتعلق بالموقف الدولي من استمرار الحرب وتأثيرها على استقرار المنطقة، هذا إذا افترضنا أن الداخل الإسرائيلي يمثل جبهة موحدة خلف رئيس الوزراء الإسرائيلي، وهو ما لا تؤكده المؤشرات التي تذهب كلها إلى تسارع منحى الرفض لسياسته، وإذا افترضنا أيضا أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تزل تعيش مرحلة ما قبل الحراك الطلابي والحقوقي والسياسي، وهو الأمر الذي تغير بالمطلق، كما تبين ذلك مواقف المجتمع الأمريكي، بل مواقف السياسيين (ساندرز)
خطاب جو بايدن الذي أعلن فيه بشكل رسمي سحب ترشيحه باسم الديمقراطيين للانتخابات الرئاسية، حمل عبارة تحتاج إلى تحليل غير تقليدي، فقد تحدث بوضوح عن «تسليم الشعلة لجيل جديد» موحيا بذلك بأن البراديغم التقليدي (الذي شغلته أجيال السياسيين الأمريكيين السابقين) لم يعد قادرا على تدبير الأزمات الجديدة والمركبة، وأنه قد حان الأوان لهذه الأجيال أن تغادر المكان، ويحل محلها جيل جديد، ببراديغم جديد أيضا.
بيان ذلك، أن الحالة في الولايات المتحدة الأمريكية بلغت مستوى عاليا من التعقيد، فتأمين إسرائيل، ذلك الهدف الأمريكي الاستراتيجي، لم يعد أمرا سلسا، يتوقف فقط على الضغط على بعض الدول العربية (مصر والأردن تحديدا) وجر بعضها الآخر لمربع التطبيع، واستعمال السلطة الفلسطينية للاستمرار قدما في تحقيق أهداف الاستيطان وقمع المقاومة، ثم التأرجح في التعامل مع غيران بين العصا (تعميق الحصار) والجزرة (الاتفاق النووي).
ضرورة الخروج من حلقة السابع من أكتوبر بإنهاء الحرب، وإبرام صفقة المحتجزين، والانسحاب من جميع أراضي غزة، ثم فتح نقاش عميق داخل المجتمع السياسي الإسرائيلي والأمريكي
الحالة الدولية والإقليمية اليوم أضحت أكثر تعقيدا، فالدول التي كانت دائما ما توضع في دائرة الضغط، أضحت تستشعر أن أمنها القومي في خطر بسبب أن السياسة الصهيونية متوقفة على خيار تهجير الفلسطينيين إلى الأردن وسيناء، والدول التي كانت تجر جرا إلى مربع التطبيع، أضحت غير قادرة أخلاقيا وسياسيا على أن تتقدم أي خطوة في هذا الاتجاه، ما لم يتحقق كسب مهم للقضية الفلسطينية، أي أن يكون وضع فلسطين من حيث الحقوق المشروعية، وفي مقدمتها الاعتراف بقيام الدولة الفلسطينية، أفضل مما كان عليه قبل السابع من أكتوبر، فالسلطة الفلسطينية أضحت فاقدة لأي شرعية، بعد أن تحركت الضفة الغربية، وانضمت إلى حملة الإسناد العسكري لغزة، فلم تجد بدا هذه السلطة ، بعد أن أخطأت التقدير بعدد من التصريحات المسيئة للمقاومة، من المشاركة في لقاء المصالحة الفلسطينية في الصين إلى جانب فصائل المقاومة الفلسطينية.
أما إيران، فقد أضحت تدير فصائل المقاومة الدائرة في فلكها بتكتيكات جد ذكية، متجنبة الانخراط المباشر في المعركة، حتى والكيان الإسرائيلي يستهدف أراضيها، فتضطر للرد المحدود والمسبوق بإخبار للأطراف، حتى تتجنب الدخول في معركة شاملة في المنطقة، وفي الآن ذاته، تستمر في برنامجها النووي، وسط تحذيرات أمريكية بأن ما يفصلها عن القنبلة النووية أسابيع محدودة ليس أكثر.
تغير هذه المعادلة الإقليمية ليس هو الوحيد ما يبرز حدة المعضلة، بل الأمر يبدو أكثر تعقيدا بالاعتبار الدولي، فالولايات المتحدة الأمريكية، أضحت عاجزة تماما على التحرك على ثلاث واجهات، واجهة توقيف طموحات موسكو في ابتلاع أوكرانيا، وربما التفكير في خطوة لاحقة في بولاندا، وواجهة الاستمرار في إضعاف الصين، ثم واجهة تأمين إسرائيل، وتثبيت منظورها الاستراتيجي للاستقرار في الشرق الأوسط.
الجمهوريون، ودونالد ترامب تحديدا، يتصور أنه بالإمكان العودة إلى البراديغم التقليدي، من خلال الجلوس لطاولة المفاوضات مع موسكو لتهدئة جبهة أوكرانيا، وتغيير بوصلة الصراع اتجاه العدو الأول لأمريكا (الصين) لكن منطقة الشرق الأوسط تكسر هذا البراديغم تماما، فليس في مروحة دونالد ترامب خيارات واقعية سوى ما يسميه الاندماج الإسرائيلي في المحيط الإقليمي (التطبيع) فبدل أن يتم التفكير في خيارات للتعاطي مع الفاعل الفلسطيني الداخلي المؤثر على الأرض (المقاومة الفلسطينية) يستعاض عنه بدور الدول العربية في توفير جواب عما تسميه إسرائيل لـ»اليوم التالي» أي مشاركة الدول العربية عسكريا وأمنيا في مراقبة معبر رفح، وربما محور فيلاديلفيا، بالإضافة إلى إدارة غزة أمنيا، وهو ما تنأى أغلب الدول العربية عن التورط فيه، خوفا على أمنها القومي.
مثل هذا الخيار ممكن فقط إذا تواطأ العالم على إنهاء غزة تماما، وإبادة أهلها جميعا، وما يفسر تعذر هذا الخيار، أن سلسلة المفاوضات التي أجريت حول صفقة الإفراج عن المحتجزين على مدى شهور أفشلها رئيس الوزراء الإسرائيلي أنه لا يريد أن تتكسر الرؤية الإسرائيلية على أرض ثوابت حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية.
البراديغم الجديد الذي سيكون من الصعب تبلوره في السياسة الأمريكية، يتطلب أن يقاد اللوبي الصهيوني في أمريكا إلى تغيير رؤيته بناء على معطيات السابع من أكتوبر وتداعياتها، وأن يتم إقناعه بأن السياسة الإسرائيلية التقليدية في مواجهة حماس، قد وصلت إلى نهايتها، وأن الحاجة تتطلب تغيير مفرداتها، وأن التصريح الذي أدلى به الناطق الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي دانيال هاغاري، من أنه «يستحيل القضاء على حماس عسكريا لأنها فكرة متجذرة في الشعب» هي نقطة البداية التي ينبغي أن يبنى عليها لبلورة براديغم جديد، يلح في المرحلة الأولى على ضرورة الخروج من حلقة السابع من أكتوبر بإنهاء الحرب، وإبرام صفقة المحتجزين، والانسحاب من جميع أراضي غزة، ثم فتح نقاش عميق داخل المجتمع السياسي الإسرائيلي والأمريكي على السواء، حول المعطيات الجديدة التي فجرها السابع من أكتوبر وضرورة أن تتغير الأجيال السياسية في تل أبيب وواشنطن، لعل ذلك يفيد في بناء تصور جديد للتعامل مع القضية الفلسطينية.
ليس هناك خيار آخر، وإلا فالحرب الشاملة قادمة لا محالة سواء، اليوم أو غدا، وإذا كانت محاور المقاومة تتبنى إلى اليوم نظرية تسقيف الصراع، فالشرارة لا محالة ستندلع، وتنتهي عندها كل السقوف، لأن الحل التقليدي فقد جدارته وأغراضه.