من كان يعتقد ان التحقيق الذي قامت به لجنة العلاقات الخارجية بالبرلمان البريطاني في طبيعة العلاقات بين بريطانيا وكل من المملكة العربية السعودية والبحرين سيحدث تحولا جذريا في نسقها القائم حاليا، فقد خاب ظنه، ومن كان يراهن على ان التحقيق سيكون محاكمة لسياسات حكومتي البلدين، فقد كان خسر رهانه.
كما ان من كان يتوقع ان التقرير سيؤدي الى توتر في العلاقات بين الاطراف المذكورة فانه لم يكن على دراية بأهداف التقرير او ظروفه التي طرح فيها او توجهات الجهة التي دعت اليه ونظمته وأشرفت على نشره. كان على الجميع ان يدرك ان الوضع اليوم ليس كما كان قبل 33 عاما، عندما بلغت العلاقات بين لندن والرياض أدنى مستوياتها.
يومها كان بث فيلم ‘موت أميرة’ كافيا لدفع السعودية لسحب سفيرها من لندن لان الحكومة البريطانية لم تتدخل بشكل مباشر لتمنع بث الفيلم. الحكومة السعودية آنذاك وعلى رأسها الملك خالد، اعتبرت الفيلم اهانة لها، لانه روى قصة اعدام الاميرة مشاعل،
حفيدة الامير محمد بن عبد العزيز، وغريمها الذي ارتبطت به بعد ان تركت زوجها المنحدر من السلالة الملكية. الحادثة وقعت في 1977 وما ان انتشر خبرها حتى حظيت باهتمام احدى القنوات التلفزيونية االبريطانية (أيه تي في). قررت تلك الشركة انتاج فيلم بالعنوان المذكور لتسليط الاضواء على الثقافة الاجتماعية والدينية السائدة في المملكة التي تكرر دائما التزامها بتطبيق حكم الشريعة. مناوئوها يلومونها دائما بتشويه ذلك التطبيق وانتقائيته وتجاهل البيئة العالمية التي كانت تشهد اهتماما كبيرا بقضايا الحريات الشخصية وحقوق المرأة وقيم العدالة وحرية الاختيار. في ابريل 1980 قامت الشركة المذكورة بعرض الفيلم، فحدثت ردة فعل كبيرة من الحكومة السعودية برغم العلاقات التاريخية بين البلدين.
ويمكن الجزم بان مثل تلك الحادثة لن يتكرر في الوقت الحاضر بعد ان احكمت الدولتان سيطرتهما على علاقاتهما، وبعد ان اصبح المال النفطي قادرا على تكميم الافواه وشراء المواقف، وتوظيف الاقلام بالاتجاه الذي يخدم العلاقات. فحتى عندما قرر مكتب التلاعب المالي الخطير في 2006 فتح التحقيق في صفقة ‘اليمامة’ بين السعودية وبريطانيا تدخل السيد توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، وأصر على منع ذلك التحقيق بدعوى ان ذلك سيدفع السعودية للتوقف عن التعاون مع بريطانيا في مجال التعاون الامني ومكافحة الارهاب.
جاء الاعلان عن التحقيق الذي اجرته لجنة العلاقات الخارجية بالبرلمان البريطاني مثيرا للاستغراب. فكيف يمكن مناقشة قضية خطيرة تحتوي على الكثيرمن المطبات والمنزلقات في فترة حافلة بالحراك الثوري في العالم العربي، خصوصا في الدول المحيطة بالسعودية؟ أيا كانت الدوافع والاهداف فقد صدر التقرير واحتوى على توصيف العلاقات التاريخية والحاضرة بين لندن والرياض، وتوسع في المصالح المشتركة الاقتصادية والسياسية والامنية وفي ما يتعلق بمكافحة الارهاب. واستمع الى شهود من اطراف عدة سعت اللجنة لخلق توازن بين اتجاهاتهم لكي لا يكون التقرير سلبيا جدا ازاء السياسة البريطانية ذات النمط الرتيب والتقليدي والمصلحي خصوصا تجاه السعودية. والواضح ان تطورات اوضاع المنطقة جعلت الطرفين، السعودية وبريطانيا، في موقف متقارب، فكلاهما يشعر بالحاجة الماسة للآخر لاسبابه الخاصة، برغم شعور كل منهما بان تلك العلاقة مكلفة سياسيا واخلاقيا. الهدف من التحقيق لم يكن كشف المستور او فضح النظامين في مجالات اخفاقهما السياسي والاخلاقي، بل اعادة تقييم السياسة البريطانية بما يغير الانطباع لدى قطاعات بريطانية واسعة اصبح شعورها يتعمق بان حكوماتهما المتتالية منذ الازمة التي صاحبت بث فيلم ‘موت أميرة’ التزمت سياسة تحتوي على الكثير من المحاباة والمسايرة والابتعاد عما يؤثر سلبا على تلك العلاقة. فكانت النتيجة ان كلا البلدين اللذين استهدفا بالتقصي (السعودية والبحرين) فشلا في التطور في مجالين حيويين: احترام حقوق الانسان وتطوير نظام الحكم بما يتلاءم مع طبيعة العصر ومطالب الجماهير وتطلعات الشعوب. فما كتبته وسائل الاعلام خلال أزمة فيلم ‘موت أميرة’ يمكن قراءته اليوم في ما توثقه المنظمات الحقوقية والسياسية الدولية حول البلدين. فكأن الزمن توقف، وكأن شعبي البلدين محكوم عليهما بالعيش في ظل الاستبداد المطلق والفساد غير المحدود. لقد تذرعت الخارجية البريطانية مرارا بان النقد العلني لهذين النظامين لن يكون ذا جدوى من الناحية العملية بالاضافة الى انه سيؤدي الى توتر العلاقات معهما. وقال المسؤولون البريطانيون ان اثارة القضايا المثيرة للجدل (خصوصا في مجال انتهاك حقوق الانسان وتطوير الانظمة السياسية) بشكل خاص، بعيدا عن الاعلام والتصريحات العلنية، ستكون اكثر تأثيرا على حكومتي البلدين.
ماذا قال تقرير لجنة العلاقات الخارجية بالبرلمان البريطاني حول العلاقات بين بريطانيا والسعودية؟ وما توصياته ذات الصلة بالعلاقات الخارجية البريطانية؟ ملاحظات عديدة يمكن تسجيلها بعد الاطلاع على التقرير خصوصا على توصياته للحكومة البريطانية: اولها: ان هناك ادراكا بريطانيا لاهمية منطقة الخليج للاستراتيجية البريطانية، سياسيا واقتصاديا وعسكريا، ولذلك أكد التقرير ضرورة الحفاظ على العلاقات مع دوله مهما كان الثمن. فبريطانيا حكمت تلك المنطقة بشكل مباشر اكثر من 150 عاما، واستمر حضورها بعد الانسحاب منها في 1971 ليس عبر دبلوماسييها فحسب، بل من خلال الخبراء العسكريين والامنيين والعلاقات التجارية والعسكرية العملاقة. فحتى الآن ما تزال الاجهزة الامنية لبعض دول مجلس التعاون تدار من قبل بريطانيين. وما يزال نائب قائد شرطة لندن السابق، جون ييتس، يعمل مستشارا لحكومة البحرين. ثانيا: ان الثورات العربية أربكت الموقفين البريطاني والسعودي كثيرا، واضطرت البلدين لاعادة صياغة العلاقة بشكل اكثر تعقيدا، ويؤكد التقرير على ضرورة الاحتفاظ بالعلاقة التاريخية والتأكيد لحلفائها استمرارها بدعمهم. ولكنها دعتهم، بشكل خجول، لتطوير انظمتهم السياسية بالطريقة والسرعة التي يرتؤونها. وفيما طالب التقرير حكومة لندن اعطاء حكومة البحرين مهلة حتى بداية العام 2014 لتنفيذ توصيات بسيوني ‘الاصلاحية’ فانه لم يحدد إطارا زمنيا للسعودية لتطوير انظمتها الامنية والسياسية. التقرير لاحظ وجود نفور لدى قطاعات الشباب السعودي تجاه بريطانيا، لأسباب لم يذكرها، قائلا ان 60 بالمائة من السعوديين هم من فئة عمرية دون الثلاثين عاما، وعلى بريطانيا ايجاد طرق للتواصل معهم اما مباشرة او من خلال المجلس الثقافي البريطاني او عبر وسائط التواصل الاجتماعي. هذه التوصيات بشكل خاص لها مدلولاتها، وهي تعكس قلقا بريطانيا من التوجه الشعبي في الجزيرة العربية الذي يرى في موقف بريطانيا وامريكا حائلا دون امكان التغيير السياسي والتطوير. ومن بين اسباب ذلك ما يوفرانه من دعم سياسي ونفسي وامني لانظمة اثبتت استعصاءها على التطوير الذاتي او توفير منظومة سياسية تعتمد الديمقراطية بديلا توفر للشعب مستوى من التمثيل والشراكة والاعتراف.
وبدلا من دعوة الحكومة البريطانية للاضطلاع بدورها في مجال ترويج الديمقراطية وحقوق الانسان وفق الآليات الدولية ومبادىء الاعلان العالمي لحقوق الانسان، ركز التقرير على توثيق العلاقة بزيادة الاستثمار والتبادل التجاري مع السعودية. وفي الوقت الذي ترتفع فيه اصوات مناهضي تجارة الاسلحة ضد صفقات السلاح العملاقة معها، يوصي التقرير الحكومة بالاستمرار في عقد هذه الصفقات التي اثبتت التجربة انها لم تستخدم قط ضد العدوان الخارجي بل استخدمت كادوات رادعة ضد الشعب او قامعة لتحركاته الاحتجاجية ضد الاستبداد والقمع. ومع انه اشترط عدم استخدامها للقمع ولكن ذلك لا يكتب كشرط لازم عند توقيع الصفقات، كما لا يتم التقصي لاحقا فيما اذا كانت تلك الاسلحة قد استخدمت ضد دعاة الديمقراطية.
التقرير يوصي بتسهيل منح تأشيرات الدخول البريطانية لرجال الاعمال السعوديين وتطوير الاستثمار البريطاني في السعودية. ولعل الجانب الذي لا يقل اثارة دعوة التقرير الحكومة البريطانية لتعميق التعاون مع السعودية في مجال مكافحة الارهاب. ومن المؤكد ان معدي التقرير يعرفون وجود خطوط باهتة لدى سلطات الجزيرة العربية بين ما هو ‘ارهاب’ وما هو ‘مشروع’ من اعمال العنف. وفيما تعتبر الرياض ان المشاركين في مسيرات تطالب بالديمقراطية او اطلاق سراح السجناء السياسيين لا يملكون سلاحا ولا خطط لديهم للقيام باعمال ارهابية، فان الكثيرين منهم يتهمون بالارهاب بعد اعتقالهم. بينما لا تخفى السعودية دعمها المكشوف للمجموعات التي تمارس الارهاب والقتل الجماعي في مناطق عديدة من العالمين العربي والاسلامي.
ويمكن الادعاء ان مقولة ‘الحرب ضد الارهاب’ تحولت الى عنوان فضفاض اصبح تدريجيا يستهدف مروجي ‘الاسلام السياسي’ بينما يتم توفير الدعم من جهات شتى، من بينها السعودية، لمروجي ‘الاسلام الجهادي’. وكلمة ‘الجهاد’ هنا بديل للارهاب اي القتل الاعمى الذي يستهدف قتل الآخرين بشكل جماعي على اساس الهوية والانتماء. ويعلم الجانب البريطاني ان تلك الحرب ابعدت شبح الارهاب عن العالم الغربي ونقلته الى بلدان عربية واسلامية كالعراق وسوريا وليبيا وباكستان. كان حريا باللجنة ان توصي الحكومة البريطانية بالبحث عن مصادر التمويل المالي والعسكري لمرتكبي جرائم القتل الجماعي اينما كانوا، وعدم الاقتصار على اطلاق مطالب فضفاضة لتبرير سياسات غير مسؤولة. فالواضح ان هذه السياسات لم تحقق هدف القضاء على الارهاب، بل نقلته من مكان لآخر وقننت منطلقاته الايديولوجية او الدينية او المذهبية لتصبح ممارسته باسم ‘الجهاد’. صحيح ان التقرير اشترط ان لا تكون المعلومات التي تحصل عليها البلدان الغربية حول الارهاب قد استحصلتها السلطات السعودية عن طريق التعذيب، ولكن ذلك لا يكفي لتطوير اداء اجهزة الامن السعودية بالشكل الذي يضمن عدم ممارسته.
والواضح ان اللجنة لم تتوقف طويلا عند التقاريرالدولية حول التعذيب في هذا البلد الخليجي الاكبر، تحاشيا لاغضاب حكومته، الامر الذي القى سحبا كثيرة على مدى صدقية التقرير ومدى جدية ممثلي الشعب البريطاني في تعاطيهم مع واحد من اكثر الملفات اثارة للجدل واخطرها من وجهتي نظر المشروع الديمقراطي ومنظومة حقوق الانسان.
‘ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن