كانت وشايةً جائرة أغضبت كسرى الفرس على عامله ملك الحيرة النعمان بن المنذر، فنزل الأخير على هانئ بن مسعود سيد آل شيبان، فأودعه أهله وماله ثم توجه إلى كسرى، الذي حبسه حتى مات، ثم أرسل إلى هانئ بن مسعود يطالبه بتسليم ما للنعمان عنده، فأبى الرجل حمية، فجاء الفرس بحدهم وحديدهم، فكانت هزيمتهم المنكرة على يد العرب في يوم ذي قار.
لم يكن يدرك العرب الذي تغنوا بهذا النصر، وبالموقف البطولي لهانئ بن مسعود القائم على الأخلاق والمبادئ، أنه سيأتي زمان تعد فيه مثل هذه المسائل ضربا من الحماقة والخبال، في زمن طغى فيه التفكير المادي وهيمن على الحياة السياسية، وأصبحت اليد العليا للمصلحة وحدها، أما الأخلاق والمبادئ، فهي حبيسة التصريحات والبيانات المنمقة، التي لا تجاوز الحناجر.
لقد أضحى خلو السياسة من الجانب الأخلاقي واقعا ذميما يعيشه العالم، وأصبحت السمة الغالبة على السياسيين وسياساتهم الداخلية والخارجية، هي التلاعب والتلون والازدواجية، ومعرفة من أين تؤكل الكتف، حتى لو كان كتف إنسان غير مأكول اللحم، لذلك لم يُبد العالم محمد رشيد رضا دهشته إزاء ذلك المنطق، حين تعرض له في كتابه «الوحي المحمدي» فقال: «أي شيء يكثر فعله على رجال السياسة وأساس بنائها الكذب، وأقوى أركانها الجور والظلم والعدوان والقسوة والخداع؟».
قلة هم السياسيون الذين اعترفوا بأهمية المبادئ والأخلاق للسياسة، وإذا كان لينين يقول مُقصيًا المبادئ من حساباته: «إذا وجب علينا أن نسير إلى النصر زحفا على البطون فليكن» فإن كاسترو ربيب الماركسية، الذي يتراوح نعْته وتصنيفه بين ثوري وديكتاتور، قد جعل يصرخ بأن المصلحة الوطنية، وما يمليه أمر الدولة، إنما يقوم على المبدأ الأخلاقي، فاتهموه بالارتجال. ويرى الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، أنه لا يمكن للسياسة الحقيقية أن تتقدم من دون أن تُكرم الأخلاق، إذ على السياسة أن تنحني أمام الحق.
هذه العلاقة بين السياسة والمبادئ والأخلاقيات من الناحية التنظيرية والواقعية، تلقي ظلالها على نموذج يكاد يكون نادرا في العلاقات الدولية، ألا وهو العلاقات التركية القطرية، التي يمكن توصيفها بعبارة واحدة: علاقة قامت على المصالح ولم تغفل المبادئ. لعل هذا الجانب هو ما أضفى على العلاقات التركية القطرية لونا لافتا، يلحظه أي متابع بسيط للأحداث على المسرح السياسي الإقليمي والدولي، وبرز هذا الجانب في مناسبات وأحداث وأزمات عدة، وهو ما أكسب هذه العلاقات ثباتا وقابلية مستمرة للتطوير والنمو. ما زلنا نذكر تلك الليلة السوداء 15 يوليو 2016، التي اضطربت فيها قلوب شرفاء العالم الأحرار، بعد أن ضربت محاولة انقلابية الجمهورية التركية، حينها كان الغموض يشوب الأحداث، وغاب ترجيح المآلات والسيناريوهات المحتملة، وتأرجح موقف الدول ما بين الشماتة والصمت والانتظار، حتى يعرف كل صاحب سفينة أين يلقي مرساته.
طغى التفكير المادي وهيمن على الحياة السياسية، أما الأخلاق والمبادئ، فهي حبيسة التصريحات التي لا تجاوز الحناجر
وبينما أمسكت دول عربية بياناتها إلى أن تبين لها أمر إحباط الانقلاب، كانت قطر ذات موقف متفرد، وفور ورود نبأ الأزمة أعلنت القيادة القطرية دعمها وتأييدها للحكومة الشرعية ورئيسها المنتخب.
إنني أصر على وصف هذا الموقف بأنه موقف أخلاقي أكثر منه سياسيا، لأن ذلك الدعم القطري للقيادة التركية في ذلك الوقت الحرج كان ينطوي على مجازفة، فماذا لو نجح الانقلاب واختلطت الأوراق؟ مع العلم أن الانقلاب كان يحظى بمباركة أمريكية، وربما كان التأييد القطري لأردوغان وحكومته حال نجاح الانقلاب، يضع قطر في موقف صعب، لاسيما وأنها ترتبط بالولايات المتحدة بعلاقات استراتيجية، نابعة من كون قطر تعيش في محيط غير آمن، لذلك تحملت الدوحة في هذا التصريح المبكر عبئًا يفوق ما تتحمله طاولتها السياسية. ولأن الأيام بين الناس دول، ولأنه كما تقول العرب: «الصديق وقت الضيق» فقد بادل الأتراك أشقاءهم القطريين الموقف الأخلاقي ذاته، وأعلت القيادة التركية من شأن المبادئ بالتوازي مع رعاية المصالح، وذلك عندما ضربت دول السعودية والإمارات والبحرين ومصر الحصار الجائر على قطر في 2017، بعد أن رفضت الدوحة الشروط المجحفة التي كان من بينها إغلاق القاعدة التركية، لكن القيادة التركية تحركت سريعا، وقامت بإحباط تدخل عسكري محتمل صرّح به الأمير الكويتي الراحل الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، ووافق البرلمان التركي على تشريع يسمح بنشر قوات عسكرية في القاعدة التركية لحماية قطر، ولم يقتصر دورها على الجانب الأمني والعسكري، فعملت تركيا على تعويض النقص الحادث في الأسواق القطرية، نتيجة الحصار بآلاف الأطنان من المواد الغذائية عبر الشحن البحري والجوي. انطوى الموقف التركي على مجازفة بالعلاقات مع دول الحصار، خاصة السعودية، فقد جاء هذا الدعم التركي لقطر في أزمة الحصار، قبل أن تتأزم العلاقات بين أنقرة والرياض، إثر مقتل جمال خاشقجي في 2018. وفي العام التالي 2018، في ظل أزمة العملة الوطنية التركية، تعهدت الدوحة باستثمار 15 مليار دولار في البنوك والأسواق المالية التركية، للتغلب على تلك الأزمة، حيث كانت الليرة قد فقدت 40% من قيمتها، وكان الأمر يحمل مجازفة أخرى، حيث كان هذا الدعم القطري في مقابل العقوبات الأمريكية المفروضة على تركيا، ووجه المخاطرة أن قطر بهذا الإجراء سبحت عكس تيار الولايات المتحدة الحليف الاستراتيجي.
العلاقة بين تركيا وقطر علاقة استراتيجية متينة، والصلة بين قائديها صلة أخوة وصداقة حقيقية، وهناك توافق يكاد يقترب من حد التطابق بين رؤيتهما تجاه الملفات الإقليمية والدولية، وبداية متانة العلاقات ليست وليدة اللحظة، بل توطدت بشكل كبير منذ تأسيس اللجنة الاستراتيجية العليا القطرية التركية عام 2014، التي أفرزت تعاونا قويا في المجالات الاقتصادية والاستثمارية والأمنية والعسكرية. وجاءت زيارة الأمير تميم لتركيا الأسبوع الماضي ليكون لقاؤه بأردوغان القمة رقم 28 بينهما، خلال 70 شهرا، وهو يعد رقما قياسيا في العلاقات الدولية، تضمنت إلى الآن توقيع أكثر من خمسين اتفاقية بين البلدين منذ 2014. هذا النموذج الرفيع من العلاقات الدولية في منطقة الشرق الأوسط، والقائم على المصالح في إطار رعاية المبادئ، يبشر بأنه من الممكن أن تعود الأخلاقيات إلى السياسة، وتمتزج بها مرة أخرى، وليس بالضرورة أن يكون ذلك على حساب تحقيق المصالح، بل هو عين ما يقتضيه البحث عنها، فإن ذلك المسلك من شأنه أن يُمتِّن العلاقات بين الدول، ويحقق لها الاستفادة القصوى، إضافة إلى الشعبية الجماهيرية التي يحوزها كل من يظهر تمسكه بالمبادئ والقيم، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كاتبة أردنية
لا فُض فوك اوجزت ولكن اوفيت الموضوع حقه
وفقك الله كثيرا في قول و وصف الحقيقة في هذا المقال ?