قد لا يمكن التأكد من الخبر الذي تداوله الاسبوع الماضي العديد من الوسائل الاعلامية عن زيارة وفد استخباراتي خليجي للكيان الاسرائيلي والتقائه بنيامين نتنياهو عشية سفره لواشنطن، ولكن الامر المؤكد ان خيوط التواصل بين بعض دول مجلس التعاون الخليجي والكيان الاسرائيلي متواصل منذ سنوات، لاسباب عديدة: سياسية وامنية واستراتيجية.
فالعواصم الخليجية لم تعد تتحدث عن ‘تحرير فلسطين’ وبالتالي فهي مقتنعة، منذ عقود، بضرورة التوصل الى اتفاقات سلام مع تل أبيب، والتعاون معها لاحلال ‘الامن’ في المنطقة. وجاءت ‘المبادرة السعودية’ في 2001 خلال القمة العربية في بيروت لتحدد المسار الخليجي ازاء ‘اسرائيل’ وهو مسار يؤدي لتوقيع اتفاقية سلام معها. تنطلق هذه الرغبة من المقولة التقليدية بان استمرار الصراع العربي ـ الاسرائيلي من اهم اسباب حالة عدم الاستقرار في الشرق الاوسط، ومن بين عوامل الاضطراب السياسي في دوله، وان استمرار الصراع يبقي شعلة الثورة متقدة لدى الكثيرين، خصوصا حين تندلع الحروب والاعتداءات الاسرائيلية على الاطراف العربية التي تقاومه. وليس غريبا ان يكون استهداف كل من حزب الله اللبناني وحركة ‘حماس’ الفلسطينية من بين اهم اهداف الدبلوماسية السرية بين العواصم الخليجية وتل أبيب، برغم ما قد يبدو مغايرا لذلك.
وقد جاء الانقلاب العسكري في مصر ليحقق، ضمن امور شتى، محاصرة ‘حماس’ وإحكام الخناق عليها باستهدافها اعلاميا وغلق المعابر مع غزة وتدمير الانفاق التي وفرت خطوط الامداد للفلسطينيين خلال العدوان الاسرائيلي قبل خمسة اعوام. وجاء خبر اللقاء المزعوم بين الوفد الاستخباراتي الخليجي مع المسؤولين الاسرائيليين ليعمق القناعة بان خريطة التحالفات والوقائع الجديدة في المنطقة قد تدفع الحكومات الخليجية لاتخاذ خطوات اكثر وضوحا باتجاه التقارب مع، او الاعتراف العلني بالكيان الاسرائيلي.
ويبدو ان بعض القيادات الخليجية بدأ يشعر بالقلق العميق من احتمال وصول مشاريع التغيير السياسي الى حدودها، الامر الذي يقتضي، في نظرها، تحصين الوجود السياسي بخبرات امنية فاعلة يستطيع الكيان الاسرائيلي توفيرها. وبالاضافة لذلك، فان ثمة تقاربا في السياسات والمنطق بين الخليجيين والاسرائيليين تجاه صعود ما يسمى ‘الاسلام السياسي’ برغم محاولات اضعافه بالمشروع الطائفي.
فالطائفية سلاح فعال ولكنه قصير المدى، يستفيد اصحابه من الاختلافات في المصالح او المواقف لبعض الفرقاء ليوفر الاجواء التي تشق الصف الواحد. هذا السلاح القذر يستعمله العدو لشق صف الامة وتشتيت مواقفها لمنع تبلور موقف سياسي رسمي وشعبي موحد ضده. ويستخدمها الحاكم المستبد لاضعاف الصف الوطني المطالب بالاصلاح السياسي والديمقراطية. والتجربة هنا مفيدة للطرفين.
ما قصة العلاقات بين بعض دول مجلس التعاون والكيان الاسرائيلي؟ هل انها قائمة حقا؟ ام ان مناوئيهم يروجون ذلك كدعاية سياسية تدعم مواقف معارضيهم؟ وربما الاهم من ذلك: ما اثر الاعلان عن تقارب خليجي اسرائيلي على الموقف النفسي والسياسي للامة او الجماهير او الرأي العام العربي والاسلامي؟
هل ما تزال حساسية الشعوب ازاء الاحتلال الاسرائيلي عميقة؟ ام ان تطورات الاعوام الاخيرة خففت تلك الحساسية وحققت شيئا من التطبع الجماهيري مع ذلك الاحتلال باعتباره ‘واقعا’ لا يمكن تجاوزه. وبمعنى آخر ما الذي يعمق قناعة الشعوب بالنضال من اجل الحقوق ويمنعها من التنازل عنها او المساومة عليها؟ ما دور الشعور الشعبي بـ ‘الحق الطبيعي’ في الارض والوطن والحرية والشراكة السياسية؟
واين موقع الشعور الديني بـ ‘الواجب الشرعي’ لتحرير الاوطان او ‘نصرة المظلوم’ او ‘رد العدوان’؟ من الصعب الفصل بجواب حاسم على هذه التساؤلات برغم عمق الشعور بان الامة هي الامة، وانها لم تتغير برغم محاولات اضعاف التزامها بـ ‘الواجب الشرعي’ وبقية المسؤوليات التي يفرضها الانتماء الديني على اتباعه. فقد اصبحت سياسات التطبيع مع من كان حتى وقت قريب ‘عدوا’ في نظر جماهير الامة، قادرة على تغيير القناعات والمواقف، وفرض التطبيع مع ذلك العدو تحت عناوين شتى من بينها ‘الواقعية’ و’المصلحة العليا’ و’العقلانية’ وغيرها. فالامبراطوريات الاعلامية حققت شيئا من النجاح في مجال تخدير القطاعات الشعبية، وتهميش ذوي المواقف المبدئية وتحييد بعض رواد مشروع التحرير الكامل وحرية الشعوب ومواجهة الاستبداد. هؤلاء ليس لهم مجال حقيقي في عالم اصبح مأسورا لوسائل الاعلام القوية القادرة على التلاعب بالحقائق والتضليل وتغيير القناعات والتشويش. فمن هو المناضل؟
ومن هو الخائن؟ من هو الصامد ومن المستسلم؟ في ضوء هذه الضوضاء الفكرية والتداخل الايديولوجي وتشوش ‘الخطوط الحمراء’ اصبح الملتزمون بمشاريع التحرير والحفاظ على هوية الامة ورفض الذوبان في مشاريع التطبيع مع العدو او التسويات السياسية التي يفرضها صاحب القوة العسكرية المفرطة، محاصرين فكريا وسياسيا، بينما استمرت عملية تهجين بعض قطاعات الامة من خلال الاعلام الاستكباري الواسع الذي لم يترك فراغا الا ملأه. فتم استغلال الدولار النفطي ليس في مشاريع التنمية والبناء وتحقيق الاستقلال الاقتصادي واقامة المشاريع التي تحقق الاكتفاء الذاتي، بل لتكوين امبراطوريات اعلامية هدفها اضعاف مواقف الامة والسيطرة على اهواء الجماهير ومشاعرهم بعيدا عن القضايا الاستراتيجية التي تحقق للامة وجودها المستقل وتحررها من الاحتلال.
وبرغم ما نشر مؤخرا عن لقاء تل أبيب في 27 سبتمبر الذي جمع رؤساء استخبارات دول خليجية ثلاث بزعامة الامير بندر بن سلطان، مع رئيس الوزراء الاسرائيلي ورئيس جهاز الموساد، فان ما رشح عن ذلك اللقاء لا يكفي لرسم صورة كاملة لما جرى وما اذا كانت هناك تبعات سياسية او امنية ستنعكس على توازن القوى في الشرق الاوسط. يضاف الى ذلك انه ليس اللقاء الاول من نوعه، بل سبقته لقاءات سرية كثيرة في بلدان غربية وشرق اوسطية، تكررت بهدف تنسيق المواقف والاستفادة من الخبرات الاسرائيلية في التصدي للحركات المطالبة بالحرية والديمقراطية، والقوى الصامدة في ميادين التحرير الفلسطينية واللبنانية.
ففي شهر ابريل الماضي انتشرت انباء عن زيارة وفد من الموساد الاسرائيلي لعدد من العواصم الخليجية بهدف تنسيق المواقف والتوافق بشأن عدد من القضايا في مقدمتها صياغة سياسة خليجية تجاه ايران ومواجهة التحدي الذي يمثله حكم الاخوان في مصر، واساليب التصدي لظاهرة الاحتجاج الشعبي على غرار ما يجري في البحرين، لمنع انتشاره لبقية البلدان الخليجية. يومها كانت حملة انتخابات الرئاسة الايرانية قد بدأت، وكانت لدى هذه الاطراف رغبة في توسيع دائرة الاحتجاجات ضد نظام الحكم الاسلامي الايراني، على غرار ما جرى في الانتخابات الرئاسية السابقة في 2009.
هذه الزيارات تحاط عادة بالسرية المطلقة ولا يسمح لها بالانتشار، نظرا لحساسيتها المفرطة، ورغبة في عدم افشالها او استغلالها للضغط على الانظمة. التواصل الامني والسياسي بين بعض دول مجلس التعاون والكيان الاسرائيلي اصبح ممارسة مستمرة لا تتوقف، وان تغيرت ظروفها او اوقاتها او اماكن حدوثها. فثمة شعور لدى الطرفين بضرورة التصدي للقوى الشعبية الراغبة في التغيير وفق ما تريده جماهير الامة التي ترفض حتى الآن التطبيع مع كيان غاصب يحتل الارض ويوسع نفوذه ببناء المستوطنات ويواصل تهويد مدينة القدس والاستعداد الدائم لاستهداف القوى الطليعية المناهضة للتوسع الصهيوني.
وحين حدث الانقلاب العسكري في مصر لم يكن هناك شك في وجود دور اسرائيلي ساهم فيه وأعد الارضية له، واستدرج بعض الحكومات العربية لدعمه. وفي الوقت الذي ضاعفت فيه قوى الثورة المضادة جهودها لبث الفتنة الطائفية في المنطقة عبر البوابة السورية وعلى ايدي الاستخبارات السعودية، كان واضحا ان مشروع ‘الاسلام السياسي’ مستهدف، وان طلائعه في مصر يجب التصدي لها بكافة الوسائل المتاحة.
العلاقات بين بعض دول الخليج والكيان الاسرائيلي، كما سبق، ليست جديدة. بل حدثت اتصالات عديدة سابقة. بعض الزعماء يسعى لاخفاء تواصله مع الاسرائيليين، ولكن بعضهم لا يخشى من كشف تلك الاتصالات. ففي اكتوبر 2007 التقى وزير سعودي مع اسرائيليين على هامش مؤتمر نظمة معهد الشرق الادنى في واشنطن. وخلال عمله سفيرا للسعودية التقى السفير السعودي السابق في واشنطن مسؤولين اسرائيليين كبارا ليحثهم على تشكيل تحالف سياسي وامني ضد ايران. ويظهر الامير تركي الفيصل، الرئيس السابق للاستخبارات السعودية، في احد الفيديوات وهو يصافح نائب وزير الخارجية الاسرائيلي، داني أيالون، في احد المؤتمرات في شهر فبراير 2010. وفي ذلك العام التقى عاهل البحرين مع شمعون بيريز في نيويورك، والتقى نجله مع بيريز ايضا في ندوة مشتركة بنيويورك، ونشرت صورا لوزير الخارجية البحريني في ذلك العام وهو يلتقي بوفد من منظمة ‘أيباك’ الامريكية التي تروج للاسرائيليين وتمهد للتطبيع معهم. وقبل بضع سنوات قام وفد من وزارة الخارجية البحرينية في 3 يوليو 2009 بزيارة مطار بن غوريون بدعوى تسلم خمسة بحرانيين تطوعوا ضمن عمليات الاغاثة لغزة. وقد التقى الوفد مسؤولين اسرائيليين في المطار ونوقشت قضايا لم يتم توضيحها.
وفي الاسبوع الماضي تحدث وزير الخارجية البحريني امام الدورة الـ 68 للامم المتحدة داعيا لضمان امن ‘اسرائيل’ ضمن ما اسماه ‘المبادرة العربية’ التي طرحت السعودية مشروعها في قمة بيروت قبل اثني عشر عاما. واتضح من الخطاب وجود رغبة لدى الحكومة البحرينية في تمتين العلاقة مع ‘اسرائيل’ والاستفادة من تجربتها في قمع الفلسطينيين لتوفير دعم امني وسياسي لنظام الحكم الذي يرى نفسه في مواجهة مع الشعب البحراني. ان التواصل مع كيان الاحتلال الاسرائيلي ما يزال امرا مرفوضا من وجهة نظر الشعوب الباحثة عن امنها واستقلالها. وحكومة البحرين لن تستفيد من التجارب الاسرائيلية مع الفلسطينيين كثيرا، لان اصحاب الحق لا يمكن ان يحرموا من حقوقهم الطبيعية بالعنف والقوة.
وبدلا من اللجوء لعدو يحارب الامة ويحاصر قطاعا كبيرا من ابنائها، فان حكومات الخليج مطالبة بالتصالح مع مواطنيها وفق رؤى هؤلاء المواطنين، والتخلي عن الخيار الامني لعلاج الموقف. وفيما يتم الامعان في حصار اهل غزة وتشديد الرقابة على المعابر بعد الانقلاب العسكري في مصر، فان من غير اللائق ابدا فتح ابواب التواصل مع الكيان الاسرائيلي واعتباره ‘حليفا’. الموقف المطلوب شعبيا يتمثل بفرض قطيعة كاملة على قوات الاحتلال الاسرائيلية والتوقف عن تمييع السياسات والمواقف تجاهها، خصوصا انها فقدت زمام المبادرة بعد هزيمتها مرتين على ايدي المقاومين اللبنانيين والفلسطينيين.
الامر الواضح هذه الايام ان هناك ملامح اولية لتغيرات في التحالفات الاقليمية في إثر زيارة الرئيس الايراني، الشيخ الدكتور حسن روحاني، والاتصالات بين ايران والولايات المتحدة. وحتى الآن تبدو هذه المحاولات جادة للتوصل الى تفاهم هو الاول من نوعه منذ قيام الجمهورية الاسلامية في 1979. هذا التواصل قد يؤدي لتجميد الخلافات الايديولوجية والسياسية بين طهران وواشنطن فترة من الزمن، الامر الذي اصبح يقلق عددا من الجهات في المنطقة. فالكيان الاسرائيلي تصدى لاعاقة اي تفاهم محتمل، وواصل الخطاب الاسرائيلي لغة التحريض ضد ايران ومشروعها النووي. ومورست ضغوط كبيرة على الرئيس اوباما بعد ان استبعد الخيار العسكري، ليعيد التذكير به مجددا. الايرانيون ينطلقون في سياستهم تجاه واشنطن من تاريخ طويل من الشكوك المتبادلة والحساسية المتبادلة. هذه التغيرات جاءت بعد حدوث الانقلاب العسكري في مصر الذي اطاح بحكم الاخوان، بدعم سعودي وخليجي واضح. وهكذا تصبح العلاقات مع امريكا عامل ترجيح لتوجه السياسات الداخلية والبينية في الشرق الاوسط. وتعتقد الرياض ان اية مصالحة بين طهران وواشنطن ستكون على حسابها، ومن هنا جاء الاتصال مع الكيان الاسرائيلي، على امل حدوث تحالف غير معلن بين الطرفين، للتصدي لايران ومشروعها النووي وسياستها حيال الازمة السورية. ايران ستظل، وفق الحسابات الاولية، دولة مستقلة في المستقبل المنظور، خصوصا مع اصرار قادتها على عدم الاستعجال في مد الجسور مع ‘الشيطان الاكبر’. كما ان مشروعها النووي سيظل نقطة اختلاف جوهرية في العلاقات، ولن تستطيع حكومة الرئيس روحاني تجاوز تجارب مرة تواصلت عبر عقود ثلاثة، واثبتت النظرة الاحادية الغربية لقضايا العالم الاسلامي، وعدم استيعابها للتغيرات التي حدثت لنفسية المواطن العربي الذي تمرد على قيود الاستعباد بعد اكثر من ثلاثة عقود. يخطئ قادة دول مجلس التعاون اذا اعتقدوا ان حل مشكلات المنطقة تتحقق عبر بوابة التطبيع مع الكيان الاسرائيلي. فاستهداف ايران عبر البوابة الاسرائيلية ليس حلا لمشكلات المنطقة ولن يحمي امن انظمة الحكم الخليجية، بل سيعود بمزيد من الوبال على المنطقة. واشتراك هذه الانظمة مع الاسرائيليين في استهداف ايران بشكل مشترك محاولة ستزيد الوضع تعقيدا، بدلا من حل الاشكالات المقلقة سواء في النوايا ام العلاقات. وبعكس ما يروجه اعداء الامة، فالايرانيون لا يستهدفون العرب، والطائفية لن تخدم ايا من الطرفين، ومحور كافة المشاكل التي زادت الوضع تعقيدا في الشهور الاخيرة تعود في اساسها للاحتلال الاسرائيلي، بما في ذلك دعم حزب الله اللبناني وحركة ‘حماس’ الفلسطينية، وما لم يتم حل القضية الفلسطينية على أسس عادلة فلن تفضي التحالفات ضد ايران الى شيء ملموس. وحكام الخليج لن يحققوا امنهم بالاعتماد على الدعم الامني الغربي او الاسرائيلي، وما عليهم الا ان يتفاهموا بشكل جاد مع مواطنيهم، ويوفروا ادنى مستويات حقوق الانسان والشراكة السياسية ليخرجوا من النفق المظلم الذي لا يفضي الا الى الهاوية. فليبدأ الحل باصلاح البيت الداخلي، وعدم تسلق جدران المنازل المحيطة،
او السعي لشرعنة احتلال فلسطين على ايدي الصهاينة.
‘ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن