يبدو أن لعبةَ العلاقة مع الآخر، تُعيد إنتاج تمثلّاتها الثقافية باستمرار، من خلال الاستغراق في تفاصيل هذه اللعبة، أو من خلال ما يصنعه الآخر لها من توصيفات وأنساق، إذ يتحول عبرها المفهوم المركزي لـ»خطاب مابعد الكولونيالية» إلى مرجعية ضاغطة، وإلى دافع نفسي لتسويغ سلطته، وربما للاعتراف بخطورة الاختلاف معه، فـ»الكولونيالي/ الآخر» رغم كلّ الثورات المعرفية، وأطروحات الحقوق والعدالة والمدنية، سيظل متمسكا بمركزيته، ومنخرطا في كلّ ما يجعل هذه المركزية عنوانا للقوة والهيمنة وللرقابة أيضا، وحتى تصوراته عن «الصديق والعدو» سوف لن تخرج عن الأنساق الحاكمة لتلك المركزية، فهو لا يؤمن إلّا بـ»التابع الذي لا يتكلم» أو «الصديق النديم» بالقياس السلطاني.
ما يحدث في غزة من عدوان سافر يقوده «الآخر»، يتكرّس عبر إجراء تطبيق فرضية القوة، وحماية الأنموذج العنيف و»الديمقراطي» للكيان الإسرائيلي، حيث ينزع ذلك الآخر معطفه العقلاني، ليكشف عن عري عنصريته، وعن تشوّه علاقاته مع المجتمعات العربية، التي ما زال ينظر لها من خلال نظرته الاستعمارية القديمة لـ»التابع» الذي ينبغي أن لا يُصدّق كامل سرديات حكاية حريته وحقوقه.
هذا المعطى يدعونا إلى مراجعة أطروحات الدراسات الثقافية، الخاصة بالعلاقة بالآخر، عبر الاستشراق، ومحنة «الهويات القاتلة والمقتولة» لاسيما أطروحات الكاتبة الهندية غياتري سبيفاك، حول جدل «التابع الذي يتكلم» مقابل خلخلة توصيف «الأنا» و»الآخر الاستعماري» ومناقشة الأفكار التي تخصّ العلاقة غير المتوازنة بهذا الآخر، فهل هي علاقة آمنة، وحقيقية، ويمكن مراجعتها ونقدها؟ وكيف يمكن لنا أن نعزل ما يقوم به الآخر من حرب للتصفية والتطهير، وبين تصوراتنا الثقافية عن الحداثة والتنوير وحكاية كلام التابع؟
الحرب في غزة هي توكيد على وحشية الآخر، وعلى انحيازه وعنصريته، وعلى تكريسه لإعادة إنتاج التابع، تحت «مقياس» يفترض أن العالم لا يحكمه إلّا ذلك الآخر، وأن الصراعات المجاورة في الديمقراطيات الغربية، رئاسية كانت أم ثقافية أم أيديولوجية ستظل جزءا من فاعليات النسق المركزي، فهي لا تخرج على قاعدة «المثال الأفلاطوني» للمدينة التي يحكمها الأحرار وليس العبيد، وبهذا فإن مقاربة أطروحات النقد في الخطاب ما بعد الكولونيالي تتطلب «وعيا ضديا» يتجاوز ما تصنعه السياسات الصيانية، التي تجعل من «التابع» محكوما، ومعزولا، وخائفا، لأن الآخر يطرح خياراته العسكرية وتصوراته الأمنية، على مستوى مواجهة «التابع»، بمسميات قاهرة كـ»العنف الدولي» و»الإرهاب»، أو على مستوى لجم الأصوات التي تطالب بواقعية سياسية، وبمجتمع دولي عادل..
حديث التسميات الجديدة لم يعد مقبولا، فالحرب مع الآخر ما زالت قائمة، وحرية «التابع» وحتى اختبار هذه الحرية ما زالا مؤطرين داخل القاموس القديم، لأنهما بلا تغطية نقدية، أو مراجعة حقيقية، وبلا قوة يمكن أن تحمي مؤسسات العالم والمجتمع الدولي، كما أن «الهيمنة» التي وصفها غرامشي بـ»القوة الإيجابية» فقدت جدواها لتبدو وكأنها الأقرب للسيطرة، ولممارسة القوة المتوحشة، بوصفها فاعلا في صناعة السرديات والوقائع، وفي تأكيد مفهوم المركزية الغربية وما تصنعه من صور ذهنية وأفكار وتصورات، لا مجال فيها للحديث العقلاني عن «اختلاف» يُعطي لصاحبه حق الرفض والتمرد والخروج عن «المطابقة» الباردة..
السؤال عن إعادة تمثيل التابع، كما يقول رامي أبي شهاب، لم يعد سؤالا مباحا، وصالحا للاستعمال، فأطروحات السيطرة على العالم تفجّرت بشكل مرعب بعد حرب أوكرانيا، والخوف من ظهور إمبراطور روسي جديد يهدد فكرة «السيطرة» ويؤكد أطروحة فوكويا السيئة عن «نهاية التاريخ»، كما بروز قوى إقليمية رافضة لتلك السيطرة في أنموذجها الاحتلالي، كما حدث في غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، الذي فُسّر على أنه تهديدٌ لسلطة «البراديغم» الغربي، و»عنف مضاد» وضع الآخر أمام اختيار مواجهة حقيقية لمركزيته وسلطته، ولفضح ذاكرته، وأطروحات أعلامه، الذين جعلوا من التنوير رهانا نقديا وفلسفيا على صناعة المستقبل، إذ أثار العدوان الإسرائيلي أسئلة فارقة وصادمة عن مدونات ذلك التنوير والحداثة والإصلاح، عن مواجهة الاستبداد والعنصرية، فما جرى كشف عن اللاوعي الاستعماري الذي يحكم مركزية الغرب، وأن مواقفه المساندة للعدوان تنطلق من نظرته المتعالية للعالم الحديث، وحتى للتنوير، التي تعني في جوهرها تكريسا لوجود التابع في أنساقٍ خاضعة للرقابة والمحاسبة والمنع، وأحسب أن الإشهار العلني بحماية «العنف الإسرائيلي» وقطع الطريق على أي وقف لإطلاق النار إلّا بعد فرض فعل المركزية على الأرض، وفي الحرب، هو تأكيد على التلازم بين عنف المركزية وعنف الاحتلال، وهو ما فضحه تصريح وزير الخارجية البريطانية ديفيد كاميرون، بأن إيقاف إطلاق النار الدائم في غزة يتطلب «إخراج قيادات حماس من القطاع»، مقابل استعادة «المختطفين».. هذه الثنائية الغرائبية تُشير إلى طبيعة نمط التفكير المتعالي في المركزية الغربية الطاردة للمختلف، بالدعوة إلى إخراج القوى التي تمردت على فكرة التابع، مقابل استعادة القوى التي تؤكد فكرة المركزية..
تعيش الأنتلجنسيا العربية أسوأ ظروفها، عبر خيانة بعضها ونكوص البعض الآخر، وعبر عزلتها الداخلية، وهجراتها غير المجدية، وغير النافعة في صناعة جماعات ضغط، فضلا عن ضعف منصاتها، وعن اكتشافها لبشاعة العالم والآخر، وأن رهاب الكولونيالية لم ينته، وهذا ما يجعل الحديث عن التابع الحر يبدو ساذجا، وغير واقعي.
إن ما حدث في حرب غزة ليس تاريخا عابرا، وليس عدوانا بالمعنى العسكري فقط، بل هو تعرية لـ»عالمية العصر» ولمواثيق العالم في حفظ السلام وحقوق الإنسان، إذ سيُسهم هذا العدوان في حروب أخرى، تقوم على التصفية الثقافية، وعلى اصطناع مسارات لا تُعطي حقا للتابع، لا بالاختيار، ولا بالتفكير، ولا حتى بالتمثيل الوجودي والهوياتي، إذ سنجد أنفسنا، وهذا ليس تشاؤما، أمام عالم كلياني، وبمزاجٍ سبراني معقد، يقوده المؤدلجون من «الأذكياء الصناعيين» وبقصدية تعمد إلى إشاعة رعب السيطرة، وإلى ترسيخ مركزية العقل الغربي، عبر إشاعة فاعلياته القوية، في العسكرة، وفي أنماط الإنتاج واحتكار المعلومات، وفي الرقابة الخوارزمية والأمن المعلوماتي، مقابل تحويل الشرق الأوسط و»العالم الثالث» إلى أسواق للعرض وللفرجة والاستهلاك، وللصراعات الأهلية، تأكيد لفكرة «التابع»، الذي يكتفي بفرجته وبعذاباته المازوخية، بعيدا عن أي أطروحات للرفض و»الثورة» والقبول بالأدلجات التي تجعل من هذه الثورة فعلا مقدسا، وأن المقاومة حقٌ مشروع..
معطيات الواقع، وتضخم الصراع، وردود الفعل في العالم، تعني أن هناك رفضا مفضوحا، أو مكبوتا للعنف المركزي، وهذا ما سيدفع الغرب إلى خلخلة التوازنات، عبر التحريض على تغيّرات سياسية قد يشهدها عالمنا العربي، تقوم على خلط الأوراق، وعلى خلخلة إيقاع التحالفات السياسية في المنطقة، مثلما ستقوم على مراجعة انتهازية لما يحدث جبهات الحرب المشتعلة في جنوب لبنان وفي اليمن وفي العراق وفي سوريا، وعلى نحوٍ يقفل هذه «الجغرافيا الملعونة» كما يتوهمها، للتفرّغ إلى مواجهة تداعيات عودة القيصر بوتين إلى الرئاسة الروسية، وإلى لعبة الملفات المفتوحة والساخنة مع العقل التجاري الصيني، ومع المناور الإيراني في سرائر الملف النووي..
صناعة الهامش والمُهمّش
تمثيل صوت المهمشين الذي أشار له أبي شهاب في إحدى مقالاته، لم يعد خيارا معرفيا للآخر، ولعدد من كتابه المعروفين بثوريتهم ويساريتهم، وحتى بإنسانيتهم، حيث كشف تهديد المركز الغربي، عن نكوص عميق في المواقف والسياسات، ولضرورات أنسنة العالم، فما حدث في مواقف الفيلسوف التواصلي هابرماس، وفي المواقف الأخيرة لسلوفاي جيجك عن يقظة لاوعية لاستيهامات التعاطي مع المركزية الغربية التي دعتْ كارل ماركس ذات تاريخ لتبرير احتلال بريطانيا للهند..
مركزية الغرب الكبرى ليست بريئة، لا تاريخيا، ولا أخلاقيا، وربما ستفترض الدعوة عبر منظومات حاكمة إلى صناعة مركزيات «وطنية» موازية، لكنها طيعة، تنفذها جماعات سياسية، أو حكومات معينة استبدادية أو تابعة، أو فاعليات اقتصادية، تؤدي وظائف تقوم على توصيف استبدالي للعلاقة مع الآخر، وإلى تمثيل إيهامي لأولئك المهمشين أو «المقصوفين»، وربما تدعو إلى صناعة «هامشٍ» فاقد لمخالبه اليسارية أو الطائفية، وعبر تأمين إشباعات رمزية تجعل منه نوعا من «الهابيتوس»، الذي يُغذي تأمين الاستعدادات النفسية والمكانية التي تتحول مع الوقت والضغط إلى «بنيات ناظمة للسلوك» يكون فيها «التابع» ضعيفا، ويائسا، وبرهانات باردة، مثلما تكون قواه الثقافية أقل صخبا، لأنه سيكون خاضعا، إمّا إلى أنماط تقوم على الإشباع الرمزي، أو أنه سيجد نفسه عرضة للعقوبات وللرقابة والتهديد والتجويع والعزل والحجب، وهذا ما تفعله الآن الولايات المتحدة مع خصومها في العالم..
ما بين هذا وذاك تعيش الأنتلجنسيا العربية أسوأ ظروفها، عبر خيانة بعضها ونكوص البعض الآخر، وعبر عزلتها الداخلية، وهجراتها غير المجدية، وغير النافعة في صناعة جماعات ضغط، فضلا عن ضعف منصاتها، وعن اكتشافها لبشاعة العالم والآخر، وأن رهاب الكولونيالية لم ينته، وهذا ما يجعل الحديث عن التابع الحر يبدو ساذجا، وغير واقعي، إذ أن تغول رأس المال الغربي، تبدّى عبر تغولات أخرى، وعبر تحالفات عسكرية، وتحالفات اقتصادية واحتكار استحواذي على العملات الصعبة والأسواق والممرات المائية والتعاملات المصرفية وغيرها من أدوات التحكم الواقعي.
رثاثة الأنتلجنسيا العربية فقدت قدرتها النقدية، وراح البعض منهم يمارس نوعا من المازوخية اللاواعية، ساخطا على أناه، ونازعا للذوبان «التطهيري» في الآخر كما فعل الطاهر بن جلون وياسمين خضرا، وربما سينزع إليها آخرون، أصيبوا بلوثة فشل «اليسار العالمي» وسقوط الاتحاد السوفييتي فراحوا يبحثون عن يسار بارد، وعن ثورات صغيرة على الطاولات أو في المواخير، استنهاضا لشغف الجسد العاطل والمخصي، وحتى البحث والتماهي مع تدفقات نقدية تبحث في «المابعديات» عن تقويض إيهامي للمراكز والسرديات، وربما المشاطرة في استغراق الدعوات الإشكالية حول الميتات الافتراضية لـ»الإله والمؤلف والإنسان والناقد»، التي تكشف هي الأخرى عن رثاثة في اصطناع أيّ مواجهة نقدية مع الآخر، وأن اكتفاءها بالمراجعة واجترار أطروحات تحليل الخطاب والحفر في أنماط السلطة والمعرفة لن يجدي شيئا، لأن الآخر صناع الحروب والشركات والأسلحة، وحتى الأفكار سيظل بالنسبة لنا الآخر الذي يبرر للقاتل جريمته، لأن القاتل جزءٌ من مركزيته التي يهدد بمحو العالم من أجلها..