إذا أردت أن تُقنع غيرك بمصداقية فكرةٍ ما فإنك تستخدم كلمة «علمي» أو «موضوعي» وتتجنب بهذا الشرح الطويل، لتقنع محاورك أنك تتكلم بكلمات أشبه بالحقيقة المطلقة. وكل ما سيجد الآخر أنه فاعله هو أن يستسلم لموضوعية استنتاجاتك ذلك أنه ترسخت في عقولنا، أن العلمي والموضوعي يختزنان وحدهما الحقيقة الإنسانية، وأنهما الطريقة الوحيدة لفهمه والتعامل معه. لدرجة أنه يكفي أن تقول: «ثبت علمياً أن …» أو «من وجهة نظر موضوعية…» لتفند أغلب إدعاءات محاورك حتى وإن كانت إدعاءاته إنسانية، وذات وزن وقيمة عليا في المجتمعات، وحتى غير قابلة للإنكار إنسانياً.
لكن حتى لو كانت الفكرة التي توردها علمية وموضوعية، أو مثبتة بالمخبر والإحصائيات الدقيقة، هل يعني هذا أنها تناسب الإنسان في تعقيداته؟ هل يعني أنها إنسانية كفاية لتناسب البشر جميعاً؟ الحقيقة أن اللغط الأساسي حصل منذ وقت بعيد، ذلك الوقت الذي سلّم فيه الإنسان قياده لمزايا أعتُبرت ذكورية، ولأنها ذكورية أُحيلت للعقل وحده. فجُعل العقل وما يقوله العقل وسيلة فعالة للحكم، والطريق الأسلم للموضوعية.
المفارقة هنا هي أن العلم (بصيغته التي نعرف) والذي رُفد بالقوة الذكورية، أظهر على الدوام أنه سلاح ذو حدين، إنساني وغير إنساني. فالعلم إلى جانب إسهاماته الفذة في خدمة الإنسان، هو أيضاً سببٌ لكوارث كثيرة على البشرية، من استغلال الإنسان والأرض والحيوان. فإن عرّف العلم نفسه كمعبِّر عن الإنساني عامةً، فلزام عليه ألا يتغاضى عن العقل والعاطفة، ففجوة العلم الأهم هي أنه غير قادر على أن يشمل في جنباته التعقيدات الملائمة للقيم العليا للكائن بشري عظيم التعقيد، ورغم ذلك مازال الإيمان، سائداً بأن العلم هو الخلاص. خلاصاً سيجعلنا مدروسين، مفهومين، واضحين بوضوح آلة. إن عشق الآلة لم يأت من عبث، الآلة تعني ببساطة أنك قادر على التحكم، على المعرفة الدقيقة وأن ليس ثمة بعدُ ما سيفلُت منك، إن عملت وفق اللائحة الشارحة لطريقة عمل الآلة. ويمكن تصديق أن العلم هو الخلاص فقط من ناحية أنه تعبير الخائف، الخائف من عالمه إلى الدرجة التي تدفعه لعمل كل شيء للسيطرة عليه بدل محاولة فهمه وقبوله في تعقيداته.
النقطة التي تتناقض عندها مساعي العلم والفلسفة في هذه الزاوية بالتحديد، هي أن الفلسفة لا تتخذ الإنسان شيئا يمكن السيطرة عليه والتحكم فيه، بل تُعرِّفهُ بكونه يمتلك وعياً يعلو به على الموجودات الأخرى. فالوعي هو الذي يجعل الإنسان متجاوزاً لذاته، منفلتاً على الدوام مما هو، باتجاه ما ليس عليه، أو كما يقول سارتر: «الإنسان هو ما ليس هو عليه، وليس ما هوعليه»، أي بكلمة بسيطة، هو نقيض الآلة، نقيض الشيء. ومن هذه النقطة يمكن للفلسفة أن تبقى فلسفةً للإنسان مُحاولةً على الدوام فهمه وملاحقته، بينما سعي العلم هو سعي على المدى البعيد للسيطرة عليه.
وبعيداً عن المقارنة مع الفلسفة، نرى أن العلم بشكله هذا مُسيطرٌ عليه من قِبل العقل، وبتعبير أدق مسيطر عليه من قِبل الصيغة المفضلة للرؤية الذكورية للعالم. إذ أن العلم صعد بدون أن يلتفت لإسهام ما هو غير عقلي، أي الجانب العاطفي، أي الأنثوي، مما يمكن أن يُغني العلم، كون العاطفي والعقلي لا يتناقضان بقدر ما يتكاملان.
هذا التقسيم الحاد بين العقلي والعاطفي وإحالة أحدهما إلى أحد الجنسين دون الآخر ليس وليد اللحظة، بل هو مسار طويل من التراكمات عملت فيها الفلسفات والأديان والأساطير، ودعمتها البنى الاجتماعية والسياسية على الدوام. فإبعاد الجانب الأنثوي، الإنساني بصيغته الأنثوية، كانت أسسه الأولى حاضرة ودامغة منذ ذلك الوقت الذي جُعِل فيه الأنثوي أقل مصداقية، ومتنافيا مع الثبات وعاطفياً في حكمه (وأُعطيت كلمة العاطفية دورا سلبياً بعد أن جُعلت الصفة الدامغة للمرأة). واكتملت كلها بوضع المرأة، والنظرة الأنثوية للعالم على الضفة الأخرى للعلم وللموضوعية، لا لأن العلم لا يتناسب مع رؤية المرأة للعالم، بل لأن العلم ولد ودُعم وسط ثقافات، كانت قد فصّلت لحدٍ قاطع بين الذكري والأنثوي، بين العقلي والعاطفي. يقول يوفال هراري في كتابه «العاقل»: «كانت معظم المجتمعات البشرية، على الأقل منذ الثورة الزراعية، مجتمعات أبوية منحت الرجال قيمة أعلى من النساء. فبغض النظر عن كيفية تعريف المجتمع لـ«الرجل أو «المرأة»، فأن تكون رجلاً كان دائماً أفضل. تُعلِم النساء أن يفكرن ويتصرفن بطريقة انثوية، وتعاقب كل من يجرؤ على تجاوز تلك الحدود. مع هذا لا يكافأ الذين يخضعون لهذه الحدود بالتساوي، فالصفات التي تُعتًبر ذكورية لها قيمة أعلى من تلك التي تُعتبر أنثوية. وأفراد المجتمع الذين يجسدون مثال الأنوثة يحصلون على أقل من أولئك الذين يجسدون مثال الذكورة. فالقليل من الموارد تُستثمر في صحة النساء وتعليمهن، ولديهن فرص اقتصادية أقل، وقوة أقل، وحرية حركة أقل».
ومع أن العلم لا ينكر وجود الذكري ضمن الأنثوي والعكس، وترابط العقلي والعاطفي إلا أنه بالخط العريض استمر، على نهج الدين وللفلسفة، في استبعاد الجانب الأنثوي لأسباب شبيهة تقريباً.
ما أراه فعالاً هنا، وهو رأي يحتمل الصحة والخطأ، هو أن الأمر يتعلق بكيفية رؤية الرجل للعالم، ورؤية العالم هي النظرة الفلسفية التي يواجه بها الكائن العالم. فالرجل يفهم العالم بالسيطرة عليه، بمحاولة تمحيصه، خاصة إيجاد حلول له. أما الرؤية الأنثوية للعالم فلا تتضمن بالضرورة السيطرة عليه، إنما فهمه وتفهمه والتجانس والتناغم معه بعيداً عن تصنيفات القوي/الضعيف، الجدي/ غير الجدي، النافع/غير النافع…. هذا الفهم والتفهم ينزلق من مساعي العلم عادةً، فالعلم يلهث لحلول، لطرق مُناوِرة، لأفعال يجب القيام بها. لا يعني هذا أن المرأة بعيدة عن أن تكون علمية أو تؤمن بالعلم، إنما يعني أن العلم بما توصل إليه إلى حد اليوم، تُسيطر عليه الرؤية الذكورية للعالم، وأن الرؤية والإسهام الأنثوي مُستبعدان، شأن الكثير من الإسهامات الأنثوية في مجالات الحياة الأخرى. فلا يجب الخلط أبداً والاعتقاد أن العلمي يعني الذكري ونقيضه الأنثوي. الحال أن الأنثوي بما يحمله من غنى تم استبعاده. وهذا هو الخلط الذي جرى على الدوام.
التذكير بالثنائيات، يحيلنا على الفور للإسهام الكبير للفيلسوف الفرنسي جاك دريدا. فما حققته فلسفته في تفكيرنا في ماهية الثنائيات فتحت طرقاً جديدة للفهم. إذ يرى دريدا أن العالم الذي تم تقسيمه إلى ثنائيات كان يهدف إلى رفع إحدى الطرفين وخفض الآخر، أي إعطاء صفة الإيجاب لطرف على حساب الآخر، وبهذا فثنائية الأسود والأبيض تُفهم في كون الأبيض أفضل من الأسود، وعلى غراره فالعقلي أفضل من العاطفي، والسوي أفضل من المجنون، والرجل أفضل من المرأة والعاقل أفضل من غير العاقل… وهذا الاكتشاف في حد ذاته، يختصر المسعى الإنساني في خفض قيم مقابل رفع أخرى، وما ينتجه هذا التفاضل من تخريب وإفساد. مثلا ثنائية الذاتي/ الموضوعي، التي ذكرنا آنفا تلاعبها بحيث يصبح الموضوعي معيار كل شيء أقرب للحقيقي، والذاتي يتعلق بالفردي، بالضيق، الذي لا يحمل مصداقية، لم تعد تحتمل الصيغة القديمة لدى دريدا. إذ لا يجد دريدا أن ثمة ذاتيا أو موضوعيا منفصلين، بل يتكاتف الذاتي والموضوعي على الداوم، ويحتوي كل واحد منهما الآخر بشكل يستحيل معه الفصل بين بعضهما بعضا.
لما يهمنا أن نفهم ما فعلته الذاتية والموضوعية بنا؟ يهمنا حقيقةً هذا لأن ربط الحقيقة بالعلمية وبالموضوعية أفرز كوارث، لا لأن الموضوعية مضرة في ذاتها، بل لأنها جعلت قبول كل جنون ممكناً، بل مستساغاً. فمثلا ساد الاعتقاد، وحاول البعض إثباته علمياً، أن الرجل الأبيض أكثر ذكاءً من الأسود وقيل إن العلم التجأ لتشريح أدمغتهم للتأكد من ذلك، وهي فكرة لا يمكن تصديقها الآن، ولكنها كانت من المسلّمات سابقاً. ولمن يتمعن في مطالب تلك الفترة يمكنه بسهولة ربط إدعاء الموضوعية بأهداف هي أبعد ما تكون عن العلمية، الأهداف كانت السيطرة على السُود، والتبرير الوحيد لذلك هو إثبات أن الأسود أقل أهلية، ويستوجب ذلك إذن إخضاعه أو يبرر ذلك.
الحملات الاستعمارية الواسعة كانت تُبرَّر بطرق مماثلة، إذ اعتُبرت هذه الشعوب المستَعمَرة بدائية لذا يتوجب على الأوروبي، المركزي، الأبيض أن يتسيدها ليدّلها إلى وجهٍ أمثل للحضارة، وبذلك تدمرت ثقافات متنوعة كثيرة وغنية، ليس لأنها لا تصلح ولكن لأن نظرة المُسيطر (التي بررت موضوعيتها بالعلم حتى) أرادت ذلك لتسهيل السيطرة عليها. حدث الأمر على الغرار ذاته بخصوص السيطرة على المرأة إذ لعبت ثنائية الذاتي/الموضوعي دوراً بارزاً في خفض أهلية الكثير من الجوانب التي كان من الممكن أن تغنيها الرؤية الأنثوية للعالم. إذ ارتبط الذاتي شأنه شأن كل ما اعتُبر شائناً بحكم المرأة وتقديرها للأمور. وبطرق مشابهة لإخضاع السود، أو الشعوب المختلفة، تم إخضاع المرأة بسحب الأهلية والمصداقية منها، وربطها بكل ما هو مناقض للعلمية والموضوعية.
وبالعودة إلى سؤال العلم نختتم بالقول إن الإسهام العلمي تمت السيطرة عليه من قبل المنظور الذكري، فضَعُفت فيه روافد الإسهام الأنثوي. أي صار أحادياً لحد بعيد بعد أن اكتسب ملامح وهيئة وخصائص وتفضيلات الرؤية الذكورية. وما اعتقد أنه إسهام أنثوي يُفسر بأنه يوجد دائماً شيء ما يفلت من الطريقة العلمية البحتة (المعروفة بشكلها هذا) في التصنيف والدراسة. بالنسبة للمرأة توجد على الدوام «ولكن» لا تشتملها الطريقة العلمية المألوفة… هذا الاستدراك الذي تحققه كلمة «ولكن» تفتح الباب الحقيقي لما يتميز به الإنسان عن غيره من الموجودات. ولكي يكون العلم علماً إنسانياً، علماً للإنسان ذاته، لا يمكن له أن يُثمر بلا النظرتين الأنثوية والذكرية، لا يمكن له أن يسير، إن صح التعبير، على ساقٍ واحدة، ويدعي أنه يمثل الجميع. لأن ثنائية الذكر والأنثى، بمعناها الواسع وليس الضيق، هي التمثيل الحقيقي لعالمنا. ربما في زمانٍ ومكانٍ مختلفين عن زماننا ومكاننا، في عالم لا تسيطر فيه القيم والتفضيلات الذكرية، كان سيحتمل العلم وجهاً غير الذي نعرفه، كان سيسعى للمعرفة والتّفهم معاً، بدون إلغاء أحدهما على حساب الآخر.
٭ كاتبة سورية