في عام 1933 هبط على كوكب الأرض كائن عجيب يملك قدرات تفوق قدرات الإنسان، وقد قيل يومها إنّه من كوكب كريبتون الذي انتهت حياته، وقد تمّ إنقاذه من طرف والديه بإرساله إلى الأرض في كبسولة متطورة. سكن هذا الكائن الذي يشبه هيئة البشر من الخارج في سلسلة قصص مصوّرة ابتكرها كل من جيري سيغل، وجو شَستر، هكذا ولد هذا البطل الخارق «سوبرمان» من ورق وحبر من مخيلة رجلين حالمين.
العامل الأول الذي جعل هذا البطل يولد في مخيلتهما من خلال أحاديثهما معا كان ابتكار شخصية فريدة للترفيه، لكنْ وراء الترفيه دائما يختبئ السياسيون، إذ سريعا ما تحوّل البطل الخارق إلى أداة أمريكية سياسية. لقد صادف أن تلك الفترة بين ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي كانت فترة اضطراب سياسي واجتماعي واقتصادي كبير. كما كان لدى أغلب المؤلفين نظرة مثالية عن أمريكا وقيمها، فاستخدموا الأبطال الخارقين رموزا للقوّة والعدالة على الطريقة الأمريكية. لهذا حطّ سوبرمان رحاله على الأراضي الأمريكية دون غيرها من بقع العالم.
أدرك رجال السياسة الأمريكيون باكرا أن الفن والأدب لهما تأثير السحر في المواطنين، خاصة المقاتلين خلال خوض الحرب العالمية الثانية، فشجعوا هذا النوع من الفن، وجعلوا الأبطال الخارقين ينخرطون سياسيا لدعم قواتهم ومحاربة النازيين.
بمرور الوقت تم استخدام الأبطال الخارقين لمعالجة قضايا سياسية واجتماعية أكثر تعقيدا، لهذا السبب ربما يحضر «الرّجل الخارق» في أغلب أعمال هوليوود، لتمييز الشخصية الأمريكية عن غيرها، فهو المنقذ، والصامد، والمقاتل حتى الرّمق الأخير من أجل النصر. ومن النّادر أن يموت هذا البطل وهو يركض تحت وابل من الرصاص والصواريخ والانفجارات، كما باستطاعته أيضا أن يقود سيارته في مطاردة الأشرار، ولن يصيبه سوى خدش بسيط رغم تحوّل سيارته إلى حطام، وموت عشرات القتلى خلال تلك المطاردة. على سبيل المثال لا الحصر اقتربت السينما الأمريكية من صورة الأمريكيين في أفغانستان والعراق بطرق مختلفة، عاكسة وجهات نظر متنوعة ومثيرة للجدل في أغلب الأحيان حول الحروب التي شنتها الولايات المتحدة في هذين البلدين. وتجدر الإشارة إلى أن أفلام هوليوود يمكن أن تعرض مجموعة متنوعة من الآراء المتناقضة والساخطة أحيانا على أجهزة المخابرات، دون تعرّض صنّاع هذه الأفلام للتوقيف أو للسجن أو للنفي، ما دامت كلها تصب في نقطة واحدة مهمّة، وهي «بطولة الأمريكي الخارقة» وهو يحقق العدالة من مركز ضعفه، فقد انتقدت بعض الأفلام الحرب والسياسة الأمريكية في العراق مثلا، وسلّطت الضوء على الأخطاء التي ارتكبت، وعلى العواقب الوخيمة نتيجتها، مثل فيلم «المنطقة الخضراء» لمخرجه بول غرينغراس، الذي شكّك في شرعية الحرب. كما ركّز كلينت إيستوود في فيلم «القناص الأمريكي» على التجارب الفردية للجنود الأمريكيين في العراق، مسلطا الضوء على نضالاتهم الشخصية التي لا علاقة لها بالحرب والانتصار من أجلها.
في آخر فيلم شاهدته «العهد» لجاي ريتشي، بطولة جيك جيلنهال، يتم تمجيد البطل العسكري مرة أخرى مقابل نقد سياسات الحرب وعواقبها، تحديدا يسلّط الفيلم الضوء على العهود الأمريكية التي قُطِعت مع المترجمين الأفغان والمتعاونين مع الجيش الأمريكي ضد طالبان، وتمّ التخلّي عنهم بكل سهولة بعد انتهاء مهمتهم، دون الالتفات إلى خطورة ما سوف يواجهونه بعدها. هي قصّة الرّقيب الأمريكي جون مكنلي الذي أنقذه مترجمه أحمد، وهو بين الحياة والموت، عابرا به مسافات طويلة لإيصاله لقاعدة الجيش، ومنها إلى أمريكا. على مدى ثلاثة أسابيع أُعتُبِر مكنلي ميتا، لكن هذا الأخير حين استيقظ في نعيم بلاد العم سام لم يعد بمقدوره أن ينام وهو يتذكّر المترجم الذي أنقذه وتخلت عنه القيادة الأمريكية بنذالة، فقرر أن ينقذه بنفسه. قد نعتبر هذه إحدى المبالغات السينمائية الهوليوودية لو أننا لم نعرف في نهاية الفيلم أنه مأخوذ عن قصّة وقعت بالفعل في جبال أفغانستان، وجمعت بين جندي أمريكي ومترجم أفغاني، مدعومة بالصور الحقيقية للرجلين، وقد جمعتهما علاقة إنسانية فريدة بسبب نبل أخلاقهما معا. الفيلم آسر بالمختصر، بالكاد يمنحنا فرصة لأخذ أنفاسنا، على مدى 123 دقيقة برع فيها المخرج لنقل «العالم الأفغاني الغامض» إلى الشاشة الساحرة، والذي إلى اليوم يُقرَأ قراءات متعدّدة، تختلف وفق المُعطى السيّاسي الذي يغير المفاهيم مئة وثمانين درجة أحيانا. لكن خارج اللعبة السياسية تأتي أفلام الواقع لتقول كلمتها، وهذا الفيلم لعلّه يوازن بين الآراء، ويبيّن خدعة الحرب الكبرى حين توهم المقاتلين بالانتصار. ولو أنّنا قمنا بعدّ القتلى خلال العرض، لكنّا تجاوزنا المئة قتيل، هي حصيلة ساعتين من الحرب الوهمية، فما بالك لو وقفنا على عدد القتلى من أبناء أمهات من الجانبين كنّ سعيدات بإنجابهن ذكورا/ رجالا التهمتهم حروب لا منتصر فيها ولا نتائج تسرّ الخاطر وتغيّر مصائر النّاس نحو الأفضل.
عمر «سوبرمان» اليوم خمسة وثمانون عاما، ولأنّه خارق في كل شيء، فهو لم ولن يبلغ سنّ التقاعد أبدا، تجري عمليّة استنساخه باستمرار، فأصبحت له أخت، وأصدقاء، وأعداء، ووحدها الحرب تطيل في عمره.
لقد خرجت من الفيلم وصورة الرّقيب ومترجمه الحقيقية عالقة في ذاكرتي، وقد اقشعرّ لها بدني، لأنّها النقطة الوحيدة المضيئة التي بقيت من حرب مجنونة كاسرة فاجرة حصدت الأرواح لأهداف غبية كان من الممكن تفاديها بشيء يسمى الحوار، خاصّة أنّنا نعيش في زمن لم يعد فيه اختلاف الألسن عائقا أمام وجود مترجمين.
حسنا لقد تطوّر الأمر بسرعة فائقة، وأصبح المترجم الذكي الذي ابتكرته التكنولوجيا قادرا على اختصار المسافات الفكرية بين الشعوب، وهذا أمر مهمّ بعيدا عن الغايات السياسية، التي ترى في الحروب استعراضات قوة من أجل الإمساك بزمام السلطة.
عمر «سوبرمان» اليوم خمسة وثمانون عاما، ولأنّه خارق في كل شيء، فهو لم ولن يبلغ سنّ التقاعد أبدا، تجري عمليّة استنساخه باستمرار، فأصبحت له أخت، وأصدقاء، وأعداء، ووحدها الحرب تطيل في عمره. بمجرّد انتهاء حرب يخوضها ببسالة، حتى يُبتَكَرُ له عدوٌّ جديد وهذا ما قد نسميه عملية «تدوير الحرب» من أجل بقاء البطل الخارق الذي يؤثّر في المجتمعات والشعوب، ويقودها نحو غايات من يقومون بإعادة تدويرها.
نهاية «العهد» هي الأكثر تأثيرا بعد تلك الرّحلة الشاقة التي غامر فيها المترجم بحياته من أجل إنقاذ الجندي الأمريكي (قام بدور المترجم الممثل العراقي الدنماركي دار سليم) إنها اختصار لكل القصّة التي تابعناها منذ البداية، بذلك المحتوى من الاحترام رغم اختلاف وجهات النظر بين الرجلين. هذا هو الهدف من كل الفيلم، الذي قد يصنّف فيلما حربيا، لكنّه يرتقي عنها بخلق بطلين خارقين ينتصران للأخلاق ويقظة الضمير، أحدهما ليس أمريكيا، بل من الفيلق الثاني الذي صوّرته السينما الأمريكية طويلا بأنه فيلق الأشرار. يقلب ريتشي الصورة النّمطية لأفلام الأبطال الأمريكيين الخارقين، ويجعلنا نناقش المحتوى الذي قدّمه من زاوية أخرى مختلفة تماما وغير مستهلكة.
أعترف بأني لست من هواة الأفلام الحربية، ولا أفلام الأكشن، ولا أي نوع من الأفلام التي فيها عنف، لكني وقعت تحت إغراءات خارجية محضة، متوقعة أن يكون الاختلاف متمثلا في قصّة حب مستحيلة مثلا، أو أي شيء آخر مشابه لها، لكن عكس كل توقعاتي، اكتشفت بطلا أفغانيا ينضم لقافلة الأبطال الخارقين، وينبّهنا إلى أن هذا العالم المليء بالمتناقضات وثنائيات الشر والخير، قد نصنع مصائر شعوبه بالقصص المكتوبة والمصوّرة، كل ما يلزمنا مخيّلة لا تنجرف نحو القاع مثل «نهاية رجل شجاع» وأبطال آخرين أنجبتهم مخيلة متعبة ومهزومة، فحوّلت مجتمعاتنا بأكملها إلى مجتمعات مخدّرة بالهزيمة.
شاعرة وإعلامية من البحرين