إذا كان النظام الملكي، سواء كان دستوريا منضبطا بقواعد الممارسة الديمقراطية البرلمانية وتداول السلطة بين مجموعة من الأحزاب، لا تكاد تخرج عن عباءة الأسرة الملكية الحاكمة، وهو بشكل أو بآخر، نوع من تقييد الممارسات السياسية التي يتغنى بها كثير من الأنظمة الملكية الديمقراطية في أوروبا، وحول العالم، أو كان نظاما ملكياً تستحوذ فيه الأسرة الحاكمة على مقاليد الحكم دونما حسيب أو رقيب من الشعب «المبايع» لتلك الأسرة وحقها «الإلهي» أو «التغلّبي» في إدارة شؤون البلاد أو العباد، قد أبّدت فيه السلطة للأسرة الحاكمة، بحكم الدستور والقانون، ما لم يحدث ما ليس في الحسبان (ثورة شعبية أو انقلاب عسكري أو غزو خارجي) فإن لجوء العديد من الأنظمة الجمهورية التي تعد نفسها تقدمية بالمقارنة مع غيرها من الأنظمة السياسية، إلى مبدأ «تأبيد السلطة» وتحويل رئيس الجمهورية إلى «قائد خالد» يحق له بحكم «بطريركية» النظام القائم، البقاء في الحكم إلى الأبد (أبده هو بالطبع لا أبد البلد أو الشعب) وتوريث الحكم من بعده لمن شاء أو رضي من الأقارب أو الأتباع، بات يثير كثيرا من الجدل والشك، حول نجاعة وصف هذه الأنظمة بالديمقراطية، التي تؤمن بتداول السلطة، لاسيما إن أدى ذلك إلى قلاقل واضطرابات داخلية. وما ثورات الربيع العربي التي اجتاحت الأنظمة الجمهورية في العالم العربي (والملكية بدرجة أقل) سوى مظهر من تمظهرات الاحتجاج الشعبي على خطط توريث الحكم في عدد من البلدان العربية، ومنها مصر وليبيا وسوريا واليمن.
مد سلطوي جديد، ونظام عالمي أضحى أكثر تسامحا تجاه الأنظمة الجمهورية الساعية إلى تأبيد حكم ولاتها
واقع الحال يشير إلى مد سلطوي جديد، ونظام عالمي أضحى أكثر تسامحا تجاه الأنظمة الجمهورية الساعية إلى تأبيد حكم ولاتها، ولعل تدشين الصين عملية الاعتراف بأبدية حكم رئيس البلاد، أبرز مثال على ذلك، رغم كونها «جمهورية شعبية» حسب نظامها السياسي، وبشكل دستوري ديمقراطي، بعد إقرار أعضاء «الجمعية الوطنية الشعبية» الصينية (البرلمان) والبالغ عددهم نحو ثلاثة آلاف، في مارس 2018 قانونا يتيح للرئيس شي جين بينغ الاستمرار في رئاسة البلاد مدى الحياة. وسمح التعديل الدستوري حينها بإدراج فكر شي جين بينغ في الدستور والدور القيادي للحزب الشيوعي الصيني في مادته الأولى.
في روسيا، الحليف اللدود للصين على المستوى الدولي، ورغم اختلاف النهج الذي اتبعه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، منذ وصوله إلى الحكم عام 2000 رئيسا جديدا لحقبة جديدة من تاريخ روسيا، بعد سنوات الضياع، التي تلت انهيار الاتحاد السوفييتي، تناوب بوتين مع صديقه ميدفيديف على منصبي رئاسة الوزراء والبلاد، قبل أن يختتم «قيصر الكرملين» موجات التناوب السياسي بجرة قلم، بتوقيع منه، مكّن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه من البقاء نظرياً في السلطة حتى عام 2036. وأعطى بوتين في الخامس من شهر إبريل الحالي، موافقته النهائية على قانون يسمح له بالبقاء رئيساً لولايتين إضافيتين تستمر كل منهما ست سنوات، مانحاً نفسه إمكان البقاء في السلطة حتى عام 2036. بوتين، البالغ 68 عاماً، الذي يحكم روسيا منذ أكثر من عقدين، وافق على القانون، ونشرت نسخة منه على الموقع الإلكتروني الرسمي للحكومة، ليلغي بذلك الفترة السابقة التي قضاها في منصبه ويقف عند نقطة الصفر. مجلس الدوما (البرلمان) أقر القانون ذاته نهاية مارس الماضي، تنفيذاً لنقطة أساسية في الدستور الجديد المثير للجدل، الذي صوّت عليه الروس في يوليو الماضي. وبموجب دستور عام 1993 السابق، كان على بوتين أن يغادر الكرملين في عام 2024، لكن من خلال إلغاء فترة ولايته السابقة في منصبه منذ عام 2000، يمكن الآن للرئيس الروسي أن يترشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة، ومن الناحية النظرية أن يستمر في حكم روسيا حتى عام 2036. في أكبر عملية إعادة هيكلة دستورية في التاريخ الروسي منحت لبوتين سلطات أكبر.
هو عصر التأبيد الذي بات يلقى مشروعية دولية وسياسية، عبر تبنيه من قبل اثنتين من دول مجلس الأمن دائمة العضوية (الصين وروسيا) وإن اختلفت السبل والوسائل، لتبشر بعهد جديد من اندثار عهد الجمهوريات القائمة على تداول السلطة في البلاد، وتنذر في الوقت عينه بإمكانية استنساخ النموذج السياسي في بلادنا، التي ما عرفت في تاريخها الحديث ممارسات سياسية حقيقية، تتبنى مبدأ فصل السلطات، وتداولها بين مكونات المجتمع، فكيف يمكن إقناع أي زعيم في العالم، وعالمنا العربي تحديدا، بعد اليوم بأن البقاء إلى الأبد ليس قدرا محتوما على شعبه؟ وهل يبشر واقع كورونا الحالي، والتذرع بإجراءاته الاستثنائية، بنظام سياسي عالمي جديد تغلف فيه رغبات السلطة المحمومة للبقاء في سدة الحكم بلبوس الضرورة والواقع، وتجنيب البلاد هزات واضطرابات لا تتحملها اقتصادات البلاد المنهكة بفعل ضربات الفيروس المتحور وسلالاته المتجددة؟
*كاتب وباحث في العلاقات الدولية