على مدار الأيام الفائتة، احتفى سوريون كثر داخل البلاد وخارجها بإعلان اليونسكو، منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، عن إدراج صناعة الأعواد الموسيقية والعزف عليها، كعنصر جديد على قائمة التراث الثقافي غير المادي السوري. ولقي الخبر اهتماماً من كثيرين من صنّاع وصانعات العود والعازفين والعازفات على هذه الآلة، التي تحتل مكانة هامة جداً في المشهد الموسيقي السوري.
وفي الإعلان الذي صدر الأسبوع الفائت، والذي تضمن إضافة قرابة 40 عنصراً جديداً للقوائم التمثيلية للتراث اللامادي حول العالم، بعضها من بلدان عربية كالأردن ومصر والسعودية، قالت المنظمة إن «التراث اللامادي يعني الممارسات والتقاليد والمعارف والمهارات، وما يرتبط بها من آلات وقطع ومصنوعات وأماكن ثقافية، والتي تعتبرها الجماعات والمجموعات وأحياناً الأفراد، جزءاً من تراثهم الثقافي» منوّهة إلى أن العنصر الجديد المرتبط بآلة العود تسجّل بشكل مشترك بين كل من سوريا وإيران، على اعتبار أنها آلة موسيقية تقليدية تعزف في البلدين، وتصنع باستخدام نفس المواد الأولية وبممارسات متطابقة تقريباً.
وأشارت آراء عديدة بأن هذا الإدراج على قائمة اليونسكو يمكن أن يساهم بمزيد من الاعتناء بآلة العود بكل تفاصيلها وتسليط الضوء عليها، وأيضاً رفع الوعي بأهمية التراث غير المادي وكل ما يرتبط به من ممارسات لا بد من حفظها واستمرار الاهتمام بها كجزء من الهوية السورية، خاصة وأن عناصر عدة من هذا التراث باتت اليوم تحت خطر الاختفاء والزوال نتيجة الحرب وتداعياتها، ولا بد من إجراءات عاجلة وحاسمة لصونها والحفاظ عليها.
إبداع سوري منذ عقود
من داخل محله في سوق المهن اليدوية بالتكية السليمانية بدمشق، يتحدث صانع الأعواد أنطون الطويل بكل حب وشغف عن الحرفة التي يتقنها منذ عقود، وقد ورثها عن والده وجده، وعلّمها لابنته أيضاً، وهي اليوم «شيخة كار» بهذا المجال.
يقول الحرفي في لقاء مع «القدس العربي» متحدثاً عن هذه الآلة التي عرفها الإنسان منذ مئات السنين، وتطورت صناعتها بشكل متعاقب حتى يومنا هذا: «يعود تاريخ صناعة العود في سوريا لأكثر من مئة وأربعين عاماً، وكان النجار وحفار الخشب عبده النحات، هو أول من صنع عوداً في دمشق أواخر القرن التاسع عشر، وتحديداً عام 1879 في حي القيمرية داخل المدينة القديمة، بناء على طلب من سيدة دمشقية تدعى ماري».
ويصف الطويل ذلك العود وفق ما تتناقله الحكايات بأنه كان قطعة فنية ذات صوت جميل للغاية، وأوتاره مصنوعة من أحشاء الخاروف، ولشدة جماله ونقاء صوته حاول النحات الاحتفاظ به لنفسه، إذ بعد أن انتهى من صناعته، بدأ جاره الحلاق بالعزف عليه، فانطرب النحات وبدأ بالرقص في السوق رابطاً الإزار على خصره، رغم أنه معروف بشخصيته الجدية ووجهه الذي بالكاد يمكن أن يبتسم، أو كما يقال بالعامية السورية «ما بيضحك للرغيف السخن».
علّم النحات أسرار صناعة العود لأولاده حنا وروفان وتوفيق والياس وجرجي، وجابت أعواده العالم واستقرت العشرات منها في تركيا وفرنسا وغيرها من البلدان، وبعدها بدأت عائلات وممارسون آخرون في سوريا باحترافها رويداً رويداً، على الأخص في دمشق وحلب، فاشتهرت عائلات منها سكر وديربدروسيان وصافي والطويل وغيرها، وأكسبت هذه الحرفة السورية شهرة على مستوى العالم، إلى جانب بلدان أخرى لا تقل صناعة العود فيها أهمية، وعلى رأسها العراق ومصر وإيران وتركيا.
«العود السوري معروف بإتقان تصنيعه وجماليته ومتانته، إذ يمكن أن يعمّر لأكثر من مئة عام من دون أن يحتاج لأي صيانة، وهو السبب الذي كان يدفع كثيرين للقدوم خصيصاً إلى دمشق والسؤال عن هذه الآلة المصنعة محلياً ويدوياً» يقول الطويل، شارحاً بأن لصناعة العود مراحل متعددة تتطلب وقتاً وكثيراً من الصبر والتأني، من تقطيع الأخشاب وتجفيفها لمدة قد تصل حتى عام كامل، وخشب الجوز هو العنصر الأساسي فيها، إلى تشكيل جسد العود وزنده وفق مقاييس دقيقة للغاية، ووضع التزيينات المستوحاة من تصاميم شرقية عليه، ومن ثم شد الأوتار وربطها بالمفاتيح. وكمحصلة تستغرق صناعة العود الواحد ما بين أسبوعين إلى ثلاثة وأحياناً أكثر. يأمل صانع الأعواد الستيني بأن يكون إدراج حرفته على قائمة اليونسكو لعناصر التراث اللامادي السوري بمثابة حافز لدعم هذه المهنة التراثية وسط صعوبات كبيرة يعانيها الحرفيون السوريون اليوم، أهمها ارتفاع تكاليف المواد الأولية والشحن الخارجي، وانخفاض الطلب داخلياً مع تردي الأوضاع الاقتصادية وتراجع وتيرة السياحة، ما دفع ببعض حرفيي صناعة العود لإغلاق محالهم والسفر، فانخفض عدد الورشات تقديرياً من قرابة اثني عشر ورشة في دمشق لست أو سبع اليوم. إلى جانب ذلك، يضطر الطويل وغيره من حرفيي التكية السليمانية حالياً لتحمل أعباء إضافية مع صدور قرار بإخلاء سوق المهن اليدوية بهدف الترميم، والحاجة لتأمين مكان بديل مناسب لهم.
أفق لدعم عازفي العود السوريين
يتشارك عازف العود السوري سليمان مصطفى هذه الأمنيات مع أنطوان الطويل، ويقول لـ«القدس العربي» بأن وجود هذا العنصر اليوم على القائمة التمثيلية للتراث اللامادي سيفتح المجال لتعريف العالم على تاريخ هذه الآلة في سوريا وأصالتها وتقديم صورة إيجابية وحقيقية عن الثقافة والفن السوريين.
يضيف مصطفى وهو خريج المعهد العالي للموسيقى في دمشق ومدرّس لآلة العود في عدد من المعاهد الموسيقية السورية: «تتميز مدرسة العزف على العود في سوريا بالمنهجية والأكاديمية الفريدة، ومحافظتها على تراث الآلة وسعيها في الوقت نفسه لتقديمه بأسلوب علمي مدروس من حيث الكتابة الموسيقية والأداء».
قدمت هذه المدرسة إنجازات عدة وفق حديث مصطفى، لعل أهمها رباعي العود السوري الذي تأسس في المعهد العالي للموسيقى بدمشق، ويتألف من أربع آلات عود تمثل الطبقات الصوتية الموسيقية الرئيسية أي الباص والتينور والآلتو والسوبرانو، ويؤدي أعمالاً تمتاز بالتعددية الصوتية والانسجام الهارموني بناء على قواعد الكتابة الموسيقية العلمية، وهو بذلك يخرج آلة العود من نمط اللحن الواحد الارتجالي أو الاستعراضي أو المرافق للغناء، ويفتح المجال لإظهار إمكانياتها الكبيرة في أداء أعمال عالمية تمتاز بالبناء الموسيقي الرصين والنسيج اللحني متعدد الأصوات.
ويتوقع العازف، وهو أيضاً خريج كلية الطب البشري في دمشق، بأن يساهم تثبيت العود كعنصر تراثي سوري، برفع سوية الوعي الثقافي لدى السوريين حول إرثهم الفني الحضاري، وزيادة الاهتمام بهذه الآلة العريقة وتعليمها للأطفال بشكل خاص، وفتح الباب أمام مزيد من الدعم الإعلامي والمادي لعازفي العود، خاصة مع العقبات التي يعانون منها مؤخراً، فالموسيقى أصبحت ترفاً بالنسبة لشريحة واسعة من الناس في زمن الحرب والأزمة الاقتصادية، وعازفو العود يجدون صعوبة في العثور على أعواد بنوعيات جيدة وأسعار مقبولة في الأسواق، إلى جانب ندرة فرص العمل وتعسّر المشاركة في المهرجانات والمسابقات الدولية بسبب عوائق السفر المفروضة على السوريين، ما يمنع الكثير من المواهب من الظهور والتطور.
مقدمة نحو اهتمام أكبر
يتخذ إعلان اليونسكو أبعاداً أكثر أهمية سواء بالنسبة لآلة العود بحد ذاتها أو للتراث السوري ككل، وذلك وفق آراء عدد من الخبراء بمجال التراث الشعبي في سوريا، والذين تحدث إليهم «القدس العربي».
فإلى جانب هدف اليونسكو المتمثل بإبراز عناصر التراث اللامادي لدى مختلف المجتمعات، سيكون إدراج العود وهو جزء هام من الثقافة السورية المسموعة للقائمة العالمية، إبرازاً للثقافة السورية عموماً، ومثالاً مشجعاً لتسجيل عناصر سورية أخرى، والتأكيد على وجود تراث وحضارة ومجتمعات تمارس ثقافتها الخاصة في سوريا بعيداً عن الحرب والمعاناة اليومية. وكون العنصر مشتركاً مع بلد آخر هو إيران، فإن ذلك يعكس من وجهة نظر اليونسكو تنوعاً ثقافياً أكبر وحواراً بين المجتمعات، ويوصل رسائل عن ممارسات عابرة للحدود وعلاقات قائمة على التراث، ويمكن أن يفتح الباب لعناصر مشتركة أخرى مهمة موجودة في المنطقة ككل.
وبعد هذه الإضافة، هناك مجموعة من المعايير التي يتوقع أن تطبق اليوم في سوريا لحماية العنصر الجديد وضمان استمراريته، ومنها زيادة نقل المعارف عن طريق مناهج أكاديمية، وتنظيم ورش وتدريبات خاصة للشباب والأطفال، واستقطاب العنصر النسائي خاصة بمجال التصنيع، وزيادة الأنشطة الخاصة بتوثيق كل ما يخص آلة العود بالتعاون مع الخبراء والممارسين، وتنظيم معارض ولقاءات دورية بين الحرفيين والموسيقيين لتبادل الخبرات والمعلومات، خاصة مع انعزال بعض صناع الآلة عن الوسط الموسيقي وحاجتهم ليكتسبوا معرفة أكبر ضمن هذا المجال، إلى جانب الاهتمام بالإطار القانوني لضمان دعم أكبر للحرفيين كي يتمكنوا من الاستثمار أكثر بمهنتهم.
أما فيما يخص التراث السوري ككل، فإن توثيق عنصر معين والعمل على صونه وزيادة ممارسته وإبرازه ضمن محافل محلية أو عالمية، يمكن أن يشجع أشخاصاً آخرين للاهتمام بعناصر تراثية يملكونها، والوعي بأهميتها وضرورة الحفاظ عليها كجزء من الهوية السورية. كما أن عمليات التسجيل في اليونسكو يمكن أن تنعكس على شكل مبادرات فردية أو مؤسساتية، خاصة لدعم العناصر التي باتت مهددة بشكل جدي بالاندثار بعد الحرب. تجمع الآراء على أن التسجيل في اليونسكو لا يكفي، فهو عملية بطيئة مقارنة بالخسارات الكبيرة التي حدثت بعد الحرب، لكنه يمكن أن يكون مقدمة لمزيد من الاهتمام سواء من المجتمع أو المؤسسات والجهات المعنية على اختلافها.