حلم العيش في القرية السعيدة شارف أغلب الظن على نهاياته. عصر انفتاح البلاد على البلاد بدأ يواجه مقاومة عنيفة. تساوي فرص الناس والدول شعار بدأت ملامحه تذبل وتميل الى البهتان. الاقتصاد الجديد الالكتروني الذي سيغير وجه العالم ابتدأ يسجل تراجعا تلو الآخر أمام الاقتصاد الفعلي التقليدي.
التحوّل البنيوي في الرأسمالية الذي حكى عنه الكثيرون والذي غيّر وعينا للكون وللصراعات ومنح الفكر أدواته الجديدة قاد أصحابه إلى اكتشاف مقولة الديون. فمن راهن على التحوّل في بنية الرأسمالية وبشّر بالنيوليبرالية نمطاً جديداً للعيش وجد نفسه في غفلة من الزمن في بلاد تعلوها الديون وتنتظر أهل « الأسواق المالية» لكي ينعموا عليهم ببعض الإحسان ولو أتخذ لنفسه إسم « سندات الخزينة». فهذه السندات لا تمثل، في احسن الحالات، أكثر من « الله يطوّل بعمرك ويخليلك زوجتك» التي يرندحها الشحاذ لمن يحن عليه ببعض المال. فهل وصلنا الى نهاية طريق العولمة السعيدة ؟
حلم توزيع عوائد النمو والتنافسية الحرّة في سوق حرة ومفتوحة بلا عوائق إدارية ولا جمركية ولا وطنية ولا إيديولوجية لم يقد، كما بشّر المبشرون، إلى تعميم الخيرات على الجميع بل إلى تعميم المأزق. حلم الركض وراء عالم مفتوح تسوده السعادة، سعادة الاستثمار بلا حدود، تركنا في الصباح بمواجهة عالم قاس تسوده شريعة الغاب والأطماع والقوة والاستغلال. «أفقنا ليت انا لا نفيق» تقول الأغنية.
ركضنا جميعنا وراء النمو ونسينا ان ننتبه إلى نمو التفاوتات بين الناس، دولا وأفرادا. نسينا أن نرمي نظرة إلى من يتركهم القطار والذين اخذت أعدادهم بالتكاثر إلى ما لا نهاية. أخذتنا العقائد الإيمانية الحديثة، النمو والتنافسية والسوق المفتوح، إلى عالم الأوهام المفتوح. فلم نعد ننتبه إلى بلاد تئن أغلبية سكانها تحت ضربات العطالة الزاحفة والجوع والتشرد والتصحر والتجوف والسكن بين القبور او في الشوارع الشهيرة في العالم. من انتبه إلى نمو أعداد المشردين في شوارع باريس السياحية أو لندن او نييورك ؟ من انتبه إلى نمو معدلات الضريبة في بلاد الديمقراطية والنموذج الحر ؟ من انتبه إلى نمو عدد المصانع التي تقفل ابوابها ؟ من انتبه إلى نمو اللاتكافؤ بين المتروبولات الرأسمالية وبين دول العالم الثالث ؟
كل همنا انصب على النمو الاقتصادي الصرْف. لا يهم إن كان نمواً قائماً على قيم اقتصادية فعلية ام على ديون او ريوع. المهم هو «دعه يعمل دعه يمر». لا هم إن كان يعمل خيراً ام شرّاً. أصلا ممنوع المحاسبة. فالسوق مفتوح وحرّ. تحولت العلوم نحو التسويق وتركزت حول علم المحاسبة والإدارة. مسك حسابات النمو وإدارة التنافسية الحرّة. اختصر الكون بكلمتين. ما أفقر هذا الكون المختصر بكلمتين. ما أفقر الحضارة حين تصير البشرية فقيرة الحلم والإبداع. ما أفقر الناس حين تتحوّل إلى عدّادات. العولمة علم العدّادات السعيد. لا يهم أن تطرد الصناعة عمالها بل المهم ان تزيد من سرعة إنتاجها، من نموها. تزيد إنتاجها لمن ؟ سؤال تطفلي لم تعد العلوم تعيره أي انتباه. ننتج للنمو وحسب. البورصة تعدّ وتمنح العلامة.
السوق معلّمه الوحيد ودليله الأوحد البورصة. البورصات تمنح العلامات الجيدة او السيئة للتلميذ النجيب. البورصة لا تفهم بغير الربح. وهي لا تقبل إلا بالربح السريع. لا يهمها كيف تربح بل ماذا تربح. لا يهمها إذا كان الربح ينخرط بإطار سياسة طويلة الأمد. لا تهتم البورصات ببقاء المنشأة ذاتها. لا يهمها إذا كان الربح مصدر تصفية للمنشأة على المدى المتوسط. البورصة تهنىء فقط من سجّل أعلى معدل للنمو التنافسي، اي من أنتج بأقل عدد من العمّال. فكلما أنتجت المنشأة بلا ناس، بلا يد عاملة، كلما كان ربحها أعلى وعادئها المالي أرفع وربح البورصة أكبر وأكبر. ما نفع الناس في هكذا «عالم» ؟ لا ضرورة لهم . للشراء ربما ؟ هل غفلت النظرية عن موضوعة الشراء ؟ ربما. لكن الأسواق الجديدة تعوّض القديمة ومن هنا ضرورة فتح الأسواق.. والعولمة. كانت الأمبراطوريات القديمة تفتح الدول بالجيوش فصارت تفتحها وتحتلها بالعولمة بعد ان تقنعنا جميعنا بفوائدها. صار الاحتلال سعيداً.
لكن التاريخ لا يرحم من يختصره بكلمتين. فتهميش الإنسان لا يمكن أن يعمّر طويلا. فأي نظرية بالكون لا تأخذ الإنسان محوراً لها لا يمكنها أن تعمّر. فما بالك إذا كانت مبنية على غيابه ؟ فات أصحاب هذه النظرية، العدّادون المحاسبيون، الحقائق الإنسانية. فأدواتهم المعرفية لا تعدّ عذابات البشر النامية باطراد سريع. وهي لا تلحظ خوف الشباب على اللامستقبل في الغرب والشرق معاً. كما لا ترى خوف الكهول على ما تبقى ولا خوف النساء على التمييز والوحدة. لا ترى عدّادات العولمة النمو، نمو اليأس الذي يستولي على العقول والأفكار والقيم والأخلاق والحضارة.
وجاءت ساعة الحساب. قام الناس في الدول الأوروبية يقترعون ضد الوحدة الأوروبية وضد المشروع الذي نسي حدود الأوطان القديمة. اعترض الناس من خلال المقاطعة الإنتخابية ومن خلال الإقتراع على مصادرة حقوق الشعوب في تقرير مصيرها ديمقراطياً من خلال برلماناتها التي انتزعت منها حقوق التشريع لمصلحة حكومة غير منتخبة بصلاحيات شبه مطلقة، لأن ليبرالية ولأن معولمة. وفي الخارج بسقت دول جديدة تراكم انتاج القيم الاقتصادية الحقيقية وتنتج بواسطة الانسان الحقيقي وتسجّل أرباح حقيقية وتنتزع الأسواق وتمنع الآخرين من التحكم بدواخلها ولا تقتنع بالنيوليبرالية وبالعولمة.
اتضح بالأخير أن الربح الحقيقي لمن ينتج ولمن يعمل. أما من يقنع نفسه بأن العيش ممكن بواسطة الشاشات فيمكنه أن يرمي نظرة على حسابه المصرفي لكي يعّد ديونه المتصاعدة كالسهم. الإفلاس هو النتيجة الوحيدة للعولمة. العولمة كانت سعيدة !!!!!
كاتبة لبنانية
عناية جابر
احتفلت الرأسمالية العالمية بانهيار جدار برلين و أعلنت عن نهاية التاريخ ( فوكو ياما ) و احتفل معها المعادون للعدالة الإجتماعية بدوافع دينية أو قومية أو وطنية شوفينية . و أعلنت الشركات الرأسمالية العابرة للقارات عن بزوغ فجر جديد ميسمه الرخاء و التطور لمختلف البلدان و الشعوب .
لقد أثبت الواقع أن الإستغلال الرأسمالي لا يمكن أن ينتج إلا مزيدا من الفوارق الطبقية بين من يمتلك أكثر بكثير من احتياجاته و من لا يستطيع توفير الحد الأدنى لبقائه على قيد الحياة . و لدلك فإن خرافة نهاية التاريخ التي بشرت بها الرأسمالية المتوحشة سرعان ما انهارت أمام الواقع العنيد ، و أن الصراع ضد الإستغلال لم يتوقف و لن يتوقف إلا بعد القضاء على كافة أشكاله .
لقد شكل انهيار الإتحاد السوفييتي مناسبة لأعداء العدالة الإجتماعية ليعلنوا عن موت الفكر و الطموح الإشتراكي و سايرتها في دلك الفئات الطفيلة ببلدان المحيط المستفيدة و المتألفة من العناصر الإنتهازية ( الحكام بالوكالة المستبدون و سماسرة الدين و تجار المخدرات و تجار الرقيق الأبيض و المضاربون … ) و دلك على حساب الكادحين ( الفلاحون الصغار و الفلاحون بدون أرض و الأجراء الصغار و المتوسطون و صغار التجار و الحرفيون و العاطلون عن العمل و المهمشون ).
إن البشرية حققت تقدما هائلا في مختلف المجالات و كان لتصحيح الأخطاء دور كبير في هدا التقدم ، و لدلك تسعى القوى المحبة للمساواة إلى الإستفادة من الأخطاء التي ارتكبت في التجربة السوفييتية و غيرها من التجارب التي سعت إلى تحقيق العدالة الإجتماعية و سيستمر نضال الطبقات و الفئات المقهورة ضد الإستغلال إلى أن تتمكن من الإنتصار عليه .
” ” والعرب ليست لهم في عالم العولمة وما قبله وما بعده شيء به تكون لهم من خلاله السيادة والسيطرة على العالم فهم فقراء بغنيهم وبفقيرهم وهم السلعة التي بها يرتقي سوق شتى أنواع التجارة إلى انحصار رأس المال العالمي بين عدد ضئيل من الأثرياء الذين يفصلون المجتمعات كيفما شاؤوا. ولا عودة إلى مكارم الأخلاق والقيم والعدالة إلا بالرسالة التي أودعها الله عند العرب ومن بها نهضت أمة العرب وهي في الهاوية إلى حين الرجوع إلى ما وقع محاربته منذ سنة 570 ميلادي من قبل من يسيطرون على العالم إلى اليوم.