استغربت، قبل أيام، وأنا ألج مكتبة عامة، داومت على ارتيادها بانتظام في السنوات الأخيرة، بمطهر اليدين على المدخل، ولافتة أعلاه تحث الزائرين على استخدامه. وجوه الناس القلائل في الداخل متوجسة، وموظفة الاستقبال الخمسينية ترصد كل حركة من حولها أكثر من عيون الأمن. قاعة المطالعة قل ضجيجها، أما الطابق العلوي المخصص للأطفال فيكاد يكون مهجوراً.
لقد اتسعت المخاوف من فيروس كورونا، ونظن من الظاهر أن أكثر القطاعات تأثراً هو قطاع التجارة والسياحة والنقل، لكن أيضاً الثقافة يكاد يصيبها شلل نصفي، وحال تلك المكتبة ـ التي لا تبعد عن إيطاليا سوى ساعة ونصف الساعة براً ـ لا يختلف عن نظيراتها الأخريات في البلد كله، ونشرات الأخبار التي تبث من شاشة معلقة فوق رفوف الكتب تجتر طوال النهار أنباء الموتى والإصابات الجديدة بهذا الوباء، مع تكرار مفردات تعودنا عليها في الفترة الأخيرة: الحجر الصحي، المنع، توقيف، غلق.. ومن حين لآخر يظهر مختص في الوبائيات ويعجز عن إيجاد كلمات تطمئن الناس في بيوتهم.
لا تهمنا منافسة المذيعين والمراسلين وإعادة تدوير الأخبار التي نعرفها، بل يهمنا أن نتأمل كيف أن الخوف بات أسهل شعور يمكن أن يُخاط على مقاس الإنسان المعاصر، المخيف ليس الفيروس، بل القابلية للخوف التي نتشارك فيها جميعاً. قد يكون الخوف وجهاً من أوجه الحكمة، فالإنسان يشهر خوفه دفاعاً عن نفسه، يلجأ إليه كوقاية مثل حلزون يلتف في قوقعته، لكن هذا الخوف يثير في أحيان كثيرة ممارسات غير منطقية، وقد بات اليوم الخوف في حد ذاته من أعراض الإصابة بفيروس كورونا قبل الأعراض الجانبية الأخرى، كما لاحظته في تلك المكتبة العامة، فالقراء متباعدون عن بعضهم بعضا، كما لو أنهم يطبقون تلك النصيحة القائلة، ابتعد عن حامل الفيروس مسافة المتر ونصف المتر، كما لو أن كل واحد منهم على قناعة أن زميله يُخبئ الوباء تحت شفتيه، ومن خلال سلوكهم ذلك يقرون بأنهم لا يثقون لا في المستشفيات ولا الأطباء، ويشكّون بأن مصاباً فرّ إلى الخارج، مثلما فرّ شاب تأكدت إصابته في الجزائر، فلجأت إدارة المستشفى إلى التشهير به ونشر صورته واسمه، كما كانوا في وقت مضى يشهّرون بالمجرمين الفارين من العدالة.
لكن في غمرة هذه الحالة الشعورية وتنافر الناس في ما بينهم، يبدو أن بعض الأشخاص يتظاهرون بالخوف لا أكثر، يودون ـ فقط ـ تجريب ذلك الإحساس، يحركهم فضول في تلبس شيء لم يتعودوا عليه من قبل، لا بد أن هؤلاء «الفضوليين» قد سمعوا عن خوف الناس في مناطق الحروب أو المجاعات أو ما شابه ذلك، ويحسدونهم على تلك التجربة، وبما أن بلدهم في أمان ومحصن من روائح البارود والجيفة، فقد أتيحت لهم الفرصة في تذوق خوف آخر، فالأطباء يقولون إن فيروس كورونا يؤدي للموت، وهم يريدون أن يحسوا بما يحس به من يدنو من الموت، مع أنها تجربة فاشلة ـ لحد الآن ـ بالنظر إلى أنه لم تثبت إصابات فرّت من المستشفيات، ولم تسجل حالة وفاة واحدة في هذا البلد، ولكن هؤلاء الناس يستلهمون خوفهم من مخاوف العالم من حولهم، يسرفون في الحديث، وفي سماع كلام عن الوباء، قصد تنشيط الغدد والهرمونات، كي يصير خوفهم مبرراً ويكسروا رتابة الطمأنينة التي تُرافقهم كما رافقت آباءهم منذ عقود.
خوف الناس من بعضهم بعضاً، يتجاوز خوفهم من الوباء في حد ذاته، باتوا يتبارون في تطوير الفزع، وفي تناقل عدواه في ما بينهم، ويتبادر في هذه الحالة سؤال: ألا يزال الإنسان قادراً على العيش في جماعة؟
مواقع التواصل الاجتماعي أيضاً ترفع من معدلات الخوف، وتزيدها حدة، وصادفت مقالاً قصيراً ينبه فيه صاحبه إلى أن كورونا لم تكن له تماماً انعكاسات سلبية على قطاع الثقافة، فقد ارتفعت مبيعات روايات اتخذت من الأوبئة موضوعاً لها، صار الناس يبحثون ويقرؤون كيف كان يعاني ويموت من سبقوهم، بعدما كانوا إلى وقت قريب لا يبحثون سوى عن كتب للتسلية أو الحكايات الوردية، ولكن بحثهم عن أدب خاض في الأوبئة سيحيلهم إلى قراءات موسعة في الرواية والمسرح، لم يحصل أن واجه الإنسان وباءً بدون أن تنتقل حكايته للأدب: الطاعون، الإنفلونزا، الجدري، التيفوس، الحصبة، الملاريا، إيبولا، الحمى الصفراء، الكوليرا وغيرها.
بينما كانت الأوبئة تتفشى بين الناس، كان الأدب يحولها إلى قصص ويبتكر لها شخصيات وديكورات، وهذا الأمر ليس جديداً ولا يختص به الأدب الحديث وحده، بل يعود إلى زمن الإغريق، بدءًا من «أوديب ملكاً»، وما كتبه سوفوكليس عن الطاعون، ونجد تصورات للأوبئة وما رافقها من تأثيرات في قصص لافونتين أيضاً، ولكن أكثر رواية اكتمالاً، جعلت من وباء موضوعاً لها كانت «طاعون» ألبير كامو، ولا تزال لحد الساعة مرجعية، رغم مرور أكثر من سبعة عقود على صدورها. وسوف يتبادر للأذهان ـ لامحالة ـ في هذا سياق رواية «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، ولو سعينا إلى تدوين قائمة بالأعمال التي اتخذت من الوباء مادة لها، فقد ينتهي فيروس كورونا قبل أن نحصر الأعمال كلها، وسوف تتضمن روايات عربية أيضاً مالت إلى هذا الخيار.
خوف الناس من بعضهم بعضاً، يتجاوز خوفهم من الوباء في حد ذاته، باتوا يتبارون في تطوير الفزع، وفي تناقل عدواه في ما بينهم، ويتبادر في هذه الحالة سؤال: ألا يزال الإنسان قادراً على العيش في جماعة؟ فما نشاهده منذ انتشار فيروس كورونا، أن الناس صاروا ينفرون من بعضهم بعضاً، كما لو أنهم في خصام، يعودون شيئاً فشيئاً إلى فردانيتهم، ما معنى أن تمنع المصافحة بين اللاعبين قبل بدء مباريات كرة القدم؟ وتلك الحركة هي بند في ميثاق الرياضة بصفتها دليلاً عن روح رياضية؟ أسقطنا شرطاً من شروط أكثر الرياضات الجماعية شعبية من مجرد خوفنا من فيروس لم يثبت وصوله إلى أي واحد من اللاعبين في المباريات التي أجريت سابقاً.
أعدنا إحياء جملة سارتر: «الجحيم هم الآخرون»، كما وردت في مسرحية «جلسة سرية»، وصار كل «آخر» عدواً خفياً لنا، أو بالأحرى عدواً محتملاً، ففي حالة كورونا يجب أن نُعيد تعريف علاقة الإنسان مع الإنسان، إن هذا الوضع يحيلنا إلى عدمية، أن معركتنا من أجل إنسانية موحدة قد تكون غير مجدية، فأمام أول فرضية خطر ينطوي كل إنسان على نفسه، ذلك ما خطر في بالي وأنا أغادر المكتبة، بدون أن أستعير كتاباً كما تعودت، وما إن مشيت قليلاً حتى صادفت شاباً يهمس في الموبايل، ولم يبلغ أذني سوى كلمة «كورونا»، وشابا آخر على طرف الشارع يوزع كمامات طبية على المارة، وخلفه قاعة سينما قد أغلقت أبوابها، إلى الشهر المقبل، خوفاً من العدوى.
٭ كاتب من الجزائر