في عام 1861، كان السلطان عبد العزيز يعتلي عرش الامبراطورية القلقة. كان مولعاً بثقافة أوروبا، وألبستها والأهم من ذلك جيوشها العسكرية. كان يعتقد أن جيش سلطنته لا بد أن يكون مشابهاً لهذه الجيوش. لم يكن وحده من يرغب بإصلاح الجيش؛ كانت أحلامه تلتقي في تلك الفترة مع أحلام وزير حربيته حسين عوني باشا، الذي سيتقدم بتقرير في يونيو/حزيران 1869 إلى سلطانه حول آلية إصلاح الجيش. فقد اعتقد عوني باشا أن استقلال الدولة ونفوذها السياسي يأتيان كنتيجة مباشرة لقوتها العسكرية. من هنا كانت خطة الإصلاح تقوم على زيادة أعداد الجيش العثماني عبر التوسّع في التجنيد وخلق نوع من جيش احتياطي يكون دوره الأساسي مواجهة الاضطرابات الداخلية المحتملة التي أخذت تشهدها أطراف الدولة في البلقان.
لن تكون خطوة عبد العزيز ووزيره عوني باشا هي الخطوة الوحيدة، فهناك من سبقهم في ذلك، واعتباراً من ثلاثينيات القرن التاسع عشر، ستشهد الدولة العثمانية خططا ومشاريع عديدة لإصلاح الجيش، بدءاً بحل قوات الانكشارية في عام 1826. سيزيد هذا الإصلاح، الذي ترافق مع أوضاع عسكرية متغيرة وهزائم في مناطق عديدة، من مكانة وأهمية هذه المؤسسة في حياة المجتمع العثماني. إذ لن يعود بعد اليوم دور هذه المؤسسة مواجهة الأعداء حسب، بل غدا الانتماء للأمة العثمانية الجديدة أو للعب دور فيها لا يكون إلا من خلال الانتماء لهذه المؤسسة. فها هو أنور باشا قائد الحرب العالمية الأولى، والذي سيُقتل لاحقاً في إحدى المعارك، يرى في سياق حديثه عن سياسات التجنيد، «أن الجميع يجب أن يمروا تحت لواء الخدمة ليكونوا قادرين على المشاركة في زمن الحرب، وفي الدفاع عن البلاد»؛ ستبقى وجهة النظر هذه التي تربط بين الانتماء للأمة والخدمة في الجيش تحكم رؤية الجيش التركي، ربما إلى يومنا هذا. فقد بينت الأنثروبولوجية التركية أيما سينكلر، في دراستها «الخدمة العسكرية والرجولة في تركيا»، أن المؤسسة العسكرية بقيت خلال القرن العشرين تعتقد أن المواطن التركي هو ذاك المواطن الذي ينال شرف الخدمة في الجيش، أما المدارس المدنية «فلا تُنتِج سوى أباريق ذات نوعية رديئة» وفق تعبير أحد الضباط الأتراك. والملاحظ هنا أيضاً أن هذه القناعة بقيت تتردد على المستوى الشعبي أحياناً من خلال الربط بين الخدمة العسكرية والرجولة، إذ غالباً ما يترافق التحاق أحد أفراد العائلة بالجيش في ظل سياسات التجنيد الإجبارية التي فُرِضت في سوريا، وفي مسعى لمواساة الأهل، بالقول إن «العسكرية تعمل منو رجال/تجعل منه رجلاً».
بالعودة إلى زمن الأمة المسلحة العثمانية، فإن القرن التاسع وبدايات القرن العشرين لم يكن فقط عصر التنظيمات، بل كان عصر الجنود العثمانيين، كما تبين ذلك أوديل مورو في كتابها الرصين حول رجال العسكر في زمن الإصلاحات العثمانية؛ فقد عرفت هذه الفترة ولادة نخب عسكرية؛ وإقبال الشباب على الالتحاق بالمدارس العسكرية في إسطنبول وغيرها من الولايات، التي أخذت تضمن مكانة اجتماعية لخريجيها، وكان من بين هؤلاء شاب قادم من مدينة سيلانيك (في اليونان اليوم) التي عُرِفت بتعدد الأجناس، كما عُرِفت بانفتاحها على أوروبا تجارياً وفكرياً. كان هذا الشاب قد تعلم بحكم أجواء التنوع والاختلاط بالأصدقاء في المدينة اللغة الفارسية وقليلاً من العربية إضافة إلى العثمانية. أما في مدرسته في العاصمة إسطنبول، سيعرفه الجميع باسم مصطفى كمال. لن يتوقف الشاب عند هذه اللغات المحلية، بل ستساعده الدراسة في المدارس العسكرية على تعلم اللغتين الفرنسية والألمانية اللتين كانتا تُعتمدان كلغتين عسكريتين أساسيتين. خلافاً لما أشارت إليه المؤرخة التركية أيبك تشالشر من أن إقبال هذا الشاب لاحقاً (الذي سيغدو قائداً لتركيا الحديثة) على الزواج بلطيفة خانم (متعددة المواهب واللغات) جاء من باب رغبته في أن تكون بمثابة مترجمة له في مقابلاته مع الصحف الغربية. وفي موازاة معرفته بلغة العالم، ينقل لنا مشتاق ماياكون، الموظف في قصر السلطان عبد الحميد، أن قصر يلدز كان من الأماكن التي يفطر فيها علناً خلال شهر رمضان. إذ لم تكن علاقة فوج الحراس والطبقة العسكرية جيدة مع الصوم، وغالباً ما كان السلطان يغضُّ النظر. سيكون لهذه العوامل أثر كبير لاحقاً في نظرة هذا الشاب للأحداث والدنيا ولمستقبل تركيا.
المؤسسة العسكرية بقيت خلال القرن العشرين تعتقد أن المواطن التركي هو ذاك المواطن الذي ينال شرف الخدمة في الجيش، أما المدارس المدنية «فلا تُنتِج سوى أباريق ذات نوعية رديئة» وفق تعبير أحد الضباط الأتراك.
استدعاء أتاتورك اليوم؟
في كتابه الصادر حديثا بالعربية «الغازي أتاتورك»، يحاول المؤرخ التركي أيلبير أورتايلي العودة للحديث عن تاريخ هذه الشخصية، من خلال ربطها بالتحولات التي عرفتها الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر؛، وهو قرن كان قد شغل فكر أورتايلي في منتصف الثمانينيات مع إصداره لأطروحته «التحديث والحداثة في القرن التاسع عشر». غير أن الإبحار مع أورتايلي في هذا الكتاب لا يكشف لنا عن جزر بقيت مغفلة في حياة أتاتورك، أو قُرِأت بأسلوب ازدرائي أو سلبي، وإنما قد يكشف أن هذا المؤرخ المعاصر، والملم بفنون القماشة التاريخية، حاول اعتماد أسلوب عتيق في النظر للماضي (سأعتمد هنا التعريف الذي أطلقه وائل حلاق حول كتابة التاريخ في فترة ما قبل الحداثة بوصفها عملية ترتبط بالعظة والأخلاق والعبرة)؛ وهو ما نلاحظه في ندرة الإشارة للمراجع، والكتابة بأسلوب شعبي، إن صح التعبير؛ إذن فالهدف من استحضار روح أتاتورك أو «الفاتح الجديد» بعد تحريره لإسطنبول بعيد الحرب العالمية الأولى، قد يكون بهدف مساءلة أو زعزعة سرديات سلطوية مقابلة، لطالما حاولت الربط بين محمد الفاتح والرئيس التركي الحالي طيب رجب أردوغان.
فعلى صعيد إعلان الجمهورية، يرى أورتايلي أن الدولة الجديدة في تركيا اليوم هي شعار وتغيير في الاسم فقط، لأن «دولتنا مستمرة، والجمهورية هي في الواقع استمرار للدولة العثمانية». وفي فصله المعنون «ملاحظات حول إلغاء السلطنة» يخصص أورتايلي جزءاً كبيراً منه للحديث عن الخلافة، بيد أن ما يلفت النظر في نقاشه لهذا الموضوع، أن المؤلف يبدأ حديثه بالقول «لا يمكن للخلافة أن تعود»، وهو ما يطرح تساؤلاً عن أسباب اعتماد هذه العبارة، وهل هي مقصودة أو موجهة لأطراف سياسية أو اجتماعية تبدي ولعاً واهتماماً بمسلسلات الخلافة وزمن العثمانيين الذهبي؟ أم أنها جاءت بريئة؟
وقد بقي هاجس الحاضر يرافق أورتايلي في مكان آخر من الكتاب، ففي سؤال حول أسباب اعتماد النظام الجمهوري؟ يؤكد أورتايلي على أن «النظام الجمهوري في تركيا سيستمر، إلا أن التساؤل المقلق هو كيف ستكون الجمهورية. وإذا كان الحديث عن نظام آخر غير الجمهورية في العالم غير وارد، فإن هناك في الواقع أنماطا للإدارة تختلف عن بعضها من حيث طبيعتها، وبعضها بعيد عن كلمة الجمهورية».
ومن بين الأمور اللافتة في سياق أسئلة الحاضر، الموقف المتعصب الذي يظهره المؤلف حيال عبارة «الأتراك»، إذ «يجب أن تبقى كما هي، أما تعبير «تركيلي» الذي يدل على الجنسية التركية وليس على العرق، والذي ظهر حالياً (في إشارة لتصريحات العدالة والتنمية ربما حول اللاجئين) فهو تعبير مضحك وغير واضح، وهو مصطلح غير متناسق من حيث متطلبات اللغة والهوية».
لن يكتفي أورتايلي بهذه الرسائل، وإنما سيتسغل حديثه عن أتاتورك لتوجيه انتقادات لضعف ما يقول إنه اهتمام بحرفة التاريخ، وبالأخص العالمي في تركيا. «فالأمة التي ترغب بالاستمرار، لا بد أن تتحكم بالمكان والزمان، ولذلك فإن على التركي أن يبدأ من علم آثار بلاد ما بين النهرين، إلى أن يصبح مختصاً بالتاريخ العالمي، كما أن التعليم يجب ألا يقتصر على دراسة الهندسة والطب، بل يجب أن يتم تعليم التاريخ وعلم الآثار وعلوم اللغة والفنون الجميلة والموسيقى». قد لا نمتلك هنا خريطة أو معرفة دقيقة بواقع تدريس التاريخ في تركيا، غير أن شهادة عالم كبير مثل أورتايلي، لا بد أنها تحمل جزءا من واقع تدريس التاريخ في تركيا، كما أن ملاحظاته حول واقع الاهتمام بالعلوم التطبيقية ليست بعيدة عن ما دعته الفرنسية أليزابيث لونغنيس بـ«سوسيولوجيا المهن» التي عرفتها المنطقة في القرن العشرين، والتي امتازت بتراجع دور المؤرخين والحقوقيين لصالح بروز دور الأطباء، ثم المهندسين لاحقا (الذين عادة ما يُصفون بالرجال التقنيين)، وهو تحول أدى، وفقاً للونغيس، إلى بروز لاعبين اجتماعيين وسياسيين جدد. صحيح أن أورتايلي هنا لم يلقِ اللوم على الحكومة العثمانية الحالية أو المحافظين الأتراك في السلطة بشكل مباشر، وإنما ربطها بـ«توجهات تركيا منذ قرنين»؛ غير أن مقارنته بين واقع الاهتمام بالتاريخ اليوم وفي ظل حكومة لم تتوانَ عن الترويج ورعاية بعض المسلسلات التاريخية العثمانية، وبين خطوات المؤسس في هذا السياق، تظهر لنا ثناء من قبل أورتايلي على جهوده (وهو العسكري) في تنظيم جامعتي أنقرة وإسطنبول وتأسيس كلية اللغة والتاريخ والجغرافيا لأنه «استطاع أن يرى بشكل واضح عدم إمكانية كتابة تاريخ من دون لغة ومن دون جغرافيا». في هذا السياق نعثر على معلومة طريفة وهي أنه في عام 1935/1936 كان من أوائل المجازين في التدريس في الجامعات التي بناها أتاتورك للتاريخ، عالم العثمانيات خليل أينالجيك. ربما في هذه المقارنة، التي قد لا تكون بريئة، ما يذكرنا ببعض القراءات التركية، التي ركّزت في السنوات الماضية على دراسة علاقة المحافظين الأتراك (الأكبارتي) بالعثمنة أو التاريخ (جيهان توغال). فإعادة خلق التاريخ (إنتاج مسلسلات تلفزيونية تاريخية/ أرطغرل أو السلطان عبد الحميد) لم يعد يأتي في سياق الترويج لأيديولوجية معينة حسب، وإنما بات جزءاً من الانعطافة نحو السوق الحرة (فالمسلسلات التاريخية غدت جزءاً من سوق إنتاجي ومالي وإعلاني أوسع)، كما أن التوجه الذي عرفته البلاد في ظل قدوم هؤلاء المحافظين، تميز بمزيد من سياسات اللبرلة التي ساهمت في إفراز سوسيولوجيا جديدة للمهن (الاهتمام بالمهندسين والأطباء في ظل طفرة الإعمار والسياحة الطبية) أو حتى على صعيد نخب السلطة (تراجع دور داوود أوغلو الذي ألّف كتاباً في السنوات القليلة الفائتة بعنوان «مدن وحضارات» وسبقه أيضاً الخلاف مع المؤرخ التركي كمال الدين إحسان أوغلو، لصالح نخب تقنية أو استثمارية.
وصف المؤرخ الأمريكي جيمس كليفلاند الأمير شكيب أرسلان بـ«الجنتلمان العثماني» في إشارة إلى نشأته العثمانية التي بقيت ترافق توجهاته وخياراته طوال حياته
الغازي أتاتورك… جندي عثماني
درجت العادة في عدد من الكتب التي نُشِرت عن أتاتورك في العقود الماضية على وصفه بـ«ذئب الأناضول» في إشارة أو محاولة لفك علاقة هذا الرجل بالإرث العثماني، لصالح سردية قومية. بيد أن اللافت في كتاب أورتايلي هو اعتماد تعبير «الغازي» كوصف لأتاتورك؛ وهو وصف عثماني/إسلامي بامتياز، كان يُمنح عادة للسلاطين والقادة الذين عادوا منتصرين من ساحات الحرب. وكما أشرنا في البداية، فإن الجديد ربما في كتاب أورتايلي هو إعادة موضعة أتاتورك في الفضاء الثقافي والاجتماعي والعسكري العثماني، الذي ولّد تجربته وخبرته، فتركيا «الجديدة الشابة تولّت إرث الامبراطورية العثمانية، ولكن ما ميز تجربة أتاتورك وأينونو عن رجال مثل أنور باشا وطلعت باشا أو جمال باشا هو أنهم أدركوا أهمية سلاح الدبلوماسية تماماً».
ولعل في إعادة الوصل بين أتاتورك وجذوره العثمانية ما يذكرنا ببعض المحاولات الموازية التي عملت على التأريخ لعدد من الشخصيات التاريخية التي عاشت مرحلة نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، إذ وصف المؤرخ الأمريكي جيمس كليفلاند الأمير شكيب أرسلان بـ«الجنتلمان العثماني» في إشارة إلى نشأته العثمانية التي بقيت ترافق توجهاته وخياراته طوال حياته، كما يمكن أن نشير في هذا السياق إلى كتاب المؤرخ مايكل برفنس حول الثورة السورية الكبرى 1925، حيث لاحظ أن غالبية الضباط الذين شاركوا في هذه الثورة كانوا قد تعرفوا على بعض في المدارس العسكرية العثمانية، وبالأخص مدرسة العشائر، التي أسسها السلطان عبد الحميد في عام 1892 في منطقة كاباتاش في مدينة إسطنبول، ليلتقوا لاحقاً مع اندلاع الثورة ويزرعوا أولى بذور الهوية المتخيلة السورية الوطنية.
غير أن السؤال الذي يبقى في هذه الصورة الجديدة التي رسمها أورتايلي عن أتاتورك، هل يعكس هذا التقميش لنسب أتاتورك اجتهاداً تاريخياً؟ أم أنه يأتي كامتداد أو لتولد قناعات مختلفة في رؤية الأوساط التركية الجمهورية لإرث هذا الرجل، أو محاولة للتصالح مع هذا الإرث العثماني (هذا ما لوحظ مثلاً مع قدوم رئيس بلدية إسطنبول إمام اوغلو، الذي بدأ حملته الانتخابية بقراءة القرآن، كما اعتمد على رمزية جامع السليمانية بدلاً من الرموز الجمهورية في مقاطع فيديو حملته).. ربما قد لا نمتلك إجابة دقيقة عن هذا الأمر، رغم أن ما يميز أعمال مؤرخين كبار مثل أعمال أورتايلي (الذي أبدى حماساً كبيراً لإمام أوغلو وصدر كتابه بالتركية سنة 2018) هو أنها تضم أسراراً وأحيانا إجابات حول ما تخبئه الأيام، وربما هي شيمة التاريخ وعبره التي تبقى مرهونة بما ستشهده صورة أتاتورك من تأويلات وصور متخيلة في المرحلة المقبلة من حياة تركيا..
٭ كاتب من سوريا
يقال بأن أصل أتاتورك من اليهود الذين أسلموا!! ولا حول ولا قوة الا بالله